الأحد، 5 مايو 2019

آيات استوقفتني (2) 2018-1439

*آيات استوقفتني (الجزء الثاني)*


كنت قد بدأت معكم مشروع "آيات استوقفتني" في رمضان الماضي، ولمن فاته الموضوع نقول باختصار إن فكرة هذا العمل، هي تدوين الآيات القرآنية التي تستوقفني وتدعوني الى التفكّر والبحث وإعادة القراءة خلال الشهر الفضيل.

سنستمر بإذن الله بالاجتهاد خلال هذا الشهر الفضيل، بمشاركة آية أو مجموعة من الآيات مع فكرة بسيطة حولها، برجاء التوفيق من الله، علماً بأن ما يرد في هذه المشاركات، هو مجموعة من الاجتهادات الشخصية النابعة من البحث والمتابعة للعديد من المؤلفات والكتب المختصة، على مدار سنوات طويلة. 
فكرة آيات استوقفتني هي محاولة لإعمال العقل والتدبّر، وهي بالتأكيد محاولة تحتمل الصواب والخطأ.

أتمنى عليكم مشاركة أفكاركم والتفاعل مع الموضوعات، مع حرية مشاركتها أيضاً مع أصدقائكم.
ومن أجل الفائدة هذا الرابط يحتوي جميع مشاركات العام الماضي ومجموعها 21 موضوعاً.



وكل عام وأنتم وأحبابكم بألف خير

ملاحظة: لمن لا يرغب باستقبال هذه الرسائل الرد علي بذلك.

أيمن أبولبن
18-5-2018



*آيات استوقفتني*
قبل أن نشرع في استعراض الآيات، أود استرجاع بعض الركائز الأساسية لمنهجية القراءة المعاصرة لكتاب الله عز وجل، والتي تناولناها العام الماضي:

*عدم استخدام الترادف* في الكلمات، بمعنى أن الله عز وجل استخدم كل مفردة للدلالة على معنى خاص لا يتم إلا باستخدام تلك المفردة، وأن أي تشابه في المعنى بين مفردات الكتاب يجب أن يزول حتى يستبين المعنى السليم للآية ومراد الله منها.

على سبيل المثال *الوالد غير الأب، والرسول غير النبي، والصلاة غير الصلوة، والعباد ليسوا العبيد، والقول غير النطق* والأمثلة كثيرة، حيث يتم استخدام كل كلمة في مكانها المناسب لتدل على معنى خاص.

"ثبات النص وحركة المحتوى" بمعنى أن النص القرآني (الثابت في نصّه) قادر على احتواء تراكم المعرفة البشرية وتطور العلوم.

*عدم وجود إطناب وحشو زائد* على عكس الأدب والشعر الجاهلي، فلكل كلمة فائدة وإضافة للمعنى بحيث لا يكتمل فهمنا او تفسيرنا للآية دون أخذنا بالاعتبار لكل كلمة وليس للمعنى العام فقط، وهذا يعني بالضرورة أننا إذا حذفنا كلمة ولم يتغير فهمنا او تفسيرنا للآية فذلك يعني قصورنا في فهم تلك الآية.

*انسجام كلام الله وعدم وجود اضطراب في المعنى* فحيثما وجد اشتباه في تعارض الآيات، يكون دليلاً على مشكلة في الفهم، وهذه المشكلة هي التي أدّت بالقول إلى وجود نسخ في آيات القرآن.

*صلاحية الكتاب لكل زمان ومكان وأنه رسالة عالمية أبدية* لهذا علينا حين نفسر القرآن ان لا نضع إطاراً زمكانياً أو موضوعياً يقيّد من فهمنا، وبناء عليه فإن محاولة قصر فهمنا للآيات بناء على مناسبات النزول سيؤدي الى فهم ناقص وعاجز عن استيعاب التغيرات المعرفية.
ملاحظة: استخدمت كتب التراث مصطلح أسباب النزول، وهو مصطلح خاطئ والصحيح مناسبة النزول، حيث ترافق نزول بعض الآيات مناسبة معينة ولكنها ليست سبباً للنزول.

وأخيراً فهم الآيات من خلال سياق النص الكلي، حيث أن سلخ آية أو جزء منها عن النص ومحاولة تفسيرها أو استنباط المعنى المجزوء، سيؤدي الى فهم خاطئ، حيث أن ترتيب سور وآيات القرآن الكريم جاء من عند الله تعالى، وهذا يفيد أيضاً بأن أي محاولة لفهم الآيات بناء على ترتيب النزول هي محاولة محكوم عليها بالفهم الخاطئ.

أيمن أبولبن
19-5-2018



*آيات استوقفتني (1)-ذلك الكتاب*
*((الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) * سورة البقرة

مع بداية قراءتنا للكتاب العظيم تطالعنا هذه الآيات من سورة البقرة، والملاحظ فيها الحديث عن "الكتاب" الذي يمثل الرسالة السماوية، والذي سبق أن أنزله الله على رسله السابقين. يقول الله تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ)) سورة النساء (136)

لهذا، كان الضمير المستخدم "ذلك" بدلاً من "هذا" للإشارة الى وحدة الكتاب ووحدة المصدر مع اختلاف الشريعة وتطوّر الأحكام.

وبهذا يكون المقصود هو مخاطبة جميع المؤمنين بالله تعالى (المُتّقين) وتذكيرهم أنهم يعبدون إلها واحدا ويدعوهم للنظر الى القواسم المشتركة بدلا من البحث عن الاختلاف، وهذا يتأكد مع وصف المُتّقين في الآية الثالثة: الايمان بالغيب (غيب الماضي وغيب المستقبل) وإقامة الصلوات والكسب الحلال، ثم ينتقل الخطاب في دعوة خاصة للإيمان بهذا الرسول وهذا الكتاب (النسخة النهائية من الكتاب السماوي) والتيقّن التام من وجود الحساب والبعث والنشور، والربط مع ما أنزل من قبل.

الانتقال من العام الى الخاص والبدء بالقواسم المشتركة فن من فنون الخطاب يعلّمه إيانا سبحانه وتعالى في الآيات الافتتاحية لكتابه العظيم، كي نتخذه أسلوبا في الحياة ومنهجا لقبول الاختلاف والحوار بالحسنى.
ملاحظة:
 (الكتاب) الذي أنزل على محمد (ص) هو المصحف الشريف من بداية سورة الفاتحة الى نهاية سورة الناس، والمعنى الخاص للكتاب هو الرسالة أو الأحكام وقد تم استخدام لفظ الكتاب بهذين المعنيين، بينما القرآن هو جزء من الكتاب وليس الكتاب كله، يقول الله تعالى:
((وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)) سورة يونس (37)
 فالقرآن هو مجموعة المواضيع التي تتحدث عن قوانين الكون والغيبيات وسنن الحياة وهي الآيات التي جاءت من علم الله تعالى وخارج إدراك العقل البشري، ولهذا كان القرآن معجزة سيدنا محمد لأن ما ورد فيه يؤيد أن مصدره ومصدر آيات الأحكام التي اقترنت به (الرسالة) هو الله سبحانه وتعالى وبما أن علم القرآن جاء من خارج النطاق المعرفي للبشر، كان دليلاً على صدق نبوّة محمد وتصديق الذي بين يديه من الرسالة والأحكام.
ونلاحظ أن الكتاب هو هدىً للمتقين (الذين يؤمنون بالله تعالى) لأنه يحتوي على الأحكام والرسالة التي تشترط الايمان للعمل بها، بينما القرآن، هو هدى للناس أجمعين لأنه يتناول مواضيع الكون والعلوم والتاريخ البشري ويتحدث عن مستقبل البشر، وهذا هو المقصود بعالمية رسالة محمد، فهي لم تقتصر على مخاطبة أتباع محمد بل هي رسالة عامة للناس أبدية وشاملة.
يقول الله تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ)) البقرة (185)

هذا والله أعلم.
أيمن أبولبن
20-5-2018
*آيات استوقفتني (2)-وعلى الذين يطيقونه*

*((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) * سورة البقرة

الآية 184 تطرح إشكالية لدى قراءتها بخصوص دفع الفدية، ولقد اختلفت التفاسير حول لفظ يطيقونه والحكم المستنبط منه.
المفسرون الأوائل قالوا إن *"يطيقونه"* جاءت بمعنى (لا يطيقونه) فتكون الرخصة لمن لا يستطيع الصيام هي دفع الفدية.
ولكنهم وقعوا في إشكاليتين، الأولى أن هذا القول يتعارض مع بقية الآية *(وأن تصوموا خير لكم)* فكيف يكون الصيام لمن لا يستطيع، خيراً له؟!
والثانية أنهم عادوا فقالوا إن هذه الآية منسوخة بآية *(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)* وبهذا تكون هذه الرخصة قد أُسقطت!

بعد البحث وقراءة التفسيرات المختلفة وجدت أن أقرب التفسيرات المعاصرة للمنطق هي ما يلي:

التفسير الأول قام بتفسير "يطيقونه" بمعنى *من يطيق الصيام بمشقّة (يتجشّمه)*، مثل كبار السن، والذين تتطلب أعمالهم مجهودات بدنية كبيرة، أو الذين يعيشون في بلدان تكون فترة الصيام فيها طويلة، هنا يجوز لهم دفع فدية بدلاً من الصيام.
وهذا التفسير يفتح باب الاجتهاد لعلماء الأمة لدراسة ظروف الصيام في البلدان والمجتمعات المختلفة، وتقرير شروط الصوم والقضاء بما يتناسب مع أوضاع المسلمين الخاصة.

أما التفسير الثاني، فاعتمد على *عطف الضمير في "يطيقونه" على الفداء نفسه*، وكأن الآية تقول: ومن يطيق الافتداء (قادر على إطعام مسكين) ولا يطيق الصوم، أن يفتدي الصيام بإطعام مسكين، مثل حالة كبار السن والمرضعة.

ولكني شخصياً لم أجد من هذه التفسيرات ما يقدم تفسيرا واضحا وكاملاً ويتناسق مع سياق النص بالكامل، ومع بعض المقاربة بين التفسيرات وباجتهاد خاص وجدت ما يلي:

بما أن ترتيب الآية بدأ بالحكم العام (الصيام) ثم الحكم الخاص أو الاستثناء (مريضاً أو على سفر)، ثم انتهى بالحكم الأخص (يطيقونه)، فإذاً تكون هذه الحالة (دفع الفدية) محصورة فقط في قضاء الصوم، بمعنى أن من لم يصم رمضان (أو جزءا منه) بعذر شرعي، وقرّر القضاء في أيام تالية، فله خيار دفع الفدية بدلاً من الصيام (إن كان قادراً)، مع التنويه أن خيار الصوم هو الخيار الأفضل (وأن تصوموا خير لكم)

وهذا التفسير يفتح مجال الترابط الاجتماعي والعطف على المساكين بوجود خيار الافتداء بدلاً من قضاء الصيام، ولا يتحدث عن الصوم الواجب بل عن القضاء، وهو أقرب الى النص ولا يتعارض مع آيات الصيام الأخرى، حيث تصبح هذه الرخصة (الافتداء) هي استثناء خاص وليست قاعدة وتندرج تحت قول الله تعالى في الصوم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)

أما التفسير الأول، بتفسير يطيقونه بمشقّة الصيام، فهو لا يضيف بعداّ جديداً للآية، من حيث أن هذه الرخصة متاحة (في حالة مشقّة الصيام) ولا تستوجب نصاً خاصاً، بل تحتاج الى تشريع واجتهاد من العلماء، فالقاعدة العامة في تكليف الله لنا بالعبادات هي (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها)، وتقرير البديل عن الصوم سواء الفدية لمن لا يستطيع الصوم، او القضاء حين تنقضي الظروف القاهرة أو في مواسم أخرى من السنة، او في الاجازات لمن لا يسمح له العمل بالصيام، أو تحديد ساعات الصيام لبعض البلدان، فهذا كله يندرج تحت بند الرخصة التي أقرّها الله ولا تحتاج لنص خاص.

*(فمن تطوّع خيراً فهو خير له) *
هذه الآية جاءت بعد الحديث عن إطعام مسكين، في دعوة واضحة للمسلمين الى التطوع بإطعام المساكين بالإضافة الى الصيام (أو قضاء الصيام)، وهذا حثٌ على الجمع بين الصوم (أو صوم القضاء) والفدية.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
20-5-2018



*آيات استوقفتني (3)-أهل الكتاب ليسوا سواء*

((لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)) آل عمران

تتحدث الآيات الكريمة عن أهل الكتاب وتؤكد أنهم ليسوا سواء، *فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، مثلهم مثل باقي الأمم*، وتصف الآيات صفات المؤمنين من أهل الكتاب: يؤمنون بالله واليوم الآخر، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (القيم الإنسانية) ويعملون أعمال الخير (قيم المجتمع) ثم يصفهم الله سبحانه وتعالى بالصالحين، ويؤكد على أنهم سيُثابون على عملهم للخير، وأنه سبحانه وتعالى عليم بالمُتقّين مهما كانت ملّتهم.

وهذه الآيات تؤكد بكل وضوح عدم اقتصار العمل الصالح على أمة بذاتها، وتؤكد أن الخير في كل البشر وليس محصوراً في أمة واحدة، وبالتالي فإن الثواب لكل البشر وليس لأتباع ملّة محددة.

الغريب أن المفسرين الأوائل عندما عجزوا عن تفسير هذه الآيات نتيجة تعارضها مع مفهومهم المتوارث، قالوا إن المقصود بهذه الآيات هم أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد، ولا أعلم كيف تم إقحام الايمان بسيدنا محمد (ص) في هذا النص!

كما يلاحظ من النص استخدام الفعل المضارع (يؤمنون يأمرون يفعلوا) للتأكيد على حضور واستمرار هذا العمل وأنه لا يخص مدة زمنية محددة، وهذا ينفي بعض التفسيرات التي تقول ان المقصود هم أهل الكتاب قبل بعثة سيدنا محمد فحسب.

وفي أواخر نفس السورة يقول الله تعالى: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))

وهذه الآيات تتحدث عن فئة من أهل الكتاب يؤمنون بنبوّة محمد، بمعنى ان الظاهر أنهم من أهل الكتاب، ولكنهم يؤمنون بما أنزل على محمد، ونحن لا نعلمهم، وهذا يدعونا الى عدم الحكم على إيمان البشر، فنحن لا نعلم ما في القلوب.

المتمعن في آيات الله والحديث عن أهل الكتاب والملل الأخرى، يتأكد أن الحكم على إيمان البشر متروك لله تعالى، وأن مواضيع الحساب ومصير الجنة والنار قد اختص الله بها نفسه بكل وضوح، وما علينا نحن البشر سوى العيش المشترك والتركيز على القيم الإنسانية المشتركة والدعوة الى سبيل الله بالموعظة والحكمة، ولكن البعض منا يصرّ على إطلاق الأحكام وحصر رحمة الله في فئة أو طائفة من البشر.
يقول الله سبحانه وتعالى في نص صريح وواضح: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)) سورة النساء

فالقاعدة العامة تقول إن كل فرد سيجازى على ما سيعمل، إن كان سوءاً فسيجازى ولو كان من أتباع محمد، وأن شرط قبول الأعمال الحسنة هو الايمان بالله واليوم الآخر، وهو أمر ليس محصورا في أمّة بذاتها، لاحظوا أن النص تحدث عن الفرد، ذكر أو أنثى والشرط الوحيد هو الايمان.

في المرة القادمة سنتحدث بإذن الله عن القواعد التي يمكن استنباطها من مجمل الآيات عن أهل الكتاب، وما هو موقف امة محمد منهم، مع إزالة الشك في التضارب بين هذه الآيات.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
23-5-2018


*آيات استوقفتني (4)-تعالوا إلى كلمة سواء*

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (64) آل عمران

استكمالا لحديثنا يوم أمس، فإن من يتدارس آيات الكتاب العظيم، ويتتبع بعمق تنوّع الآيات والخطاب مع أهل الكتاب، وبالتالي القصد والهدف العام من هذا الخطاب يستطيع أن يستنتج المواضيع العامة التالية:

*الدعوة:* مع بداية الدعوة واختلاط سيدنا محمد مع أهل الكتاب، كانت الآيات بشكل عام تدعو أهل الكتاب للإيمان بهذا الرسالة وهذا النبي، وكانت مهمة سيدنا محمد هي تبليغ الرسالة لهم والتأكيد على وحدة المصدر، والاقرار بصدق رسالتهم. وتعدّدت الآيات المُخاطبة لأهل الكتاب والتي تدعوهم للإيمان بهذا النبي مصدّقاً لكتبهم.

(وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (41) سورة البقرة

ولا بد من ذكر أن الدعوة هنا شملت الترغيب والتهديد، كما كانت الدعوة الى الناس بشكل عام فيها الوعيد وفيها الترغيب.

*السجال الفكري:* بعد الدعوة، جاء الطلب للرسول الكريم بمحاججة أهل الكتاب وخوض نقاش فكري موضوعي وحضاري مع أصحاب الرسالات السابقة

(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)  (125) النحل

وضمن هذا الإطار جاءت بعض الآيات بخطاب مباشر من الله تعالى الى أهل الكتاب والبعض الآخر جاء الى سيدنا محمد بصيغة "قل"

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) (68) المائدة
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (71) آل عمران

*القصص:* وضمن مسار موازٍ للسجال الفكري، والحوار بين الأديان تعدّدت الآيات التي تناولت حقب تاريخية مختلفة للنصارى واليهود وعلاقتهم بالرسل والرسالة، وهي آيات تصطبغ بالصبغة التاريخية وتدعو المؤمنين للتفكّر وأخذ العبرة، وليست مجالاً لإصدار الأحكام.

وقد نالت قصص الأنبياء وبالأخص بني إسرائيل نصيباً كبيراً من الكتاب العظيم، وكلها يندرج تحت باب العبرة والعظة، مثلها مثل الآيات التي سجّلت الأحداث التاريخية التي دارت في زمن سيدنا محمد.

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) يوسف

*المراجعة النقدية:* من خلال القصص القرآني، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد قام بإعادة قصص الأنبياء والرسل الى إطارها المعرفي الحقيقي بعد أن شابها الكثير من المرويّات والأساطير في الكتب السماوية السابقة بحيث أخرجتها عن إطارها الحقيقي، (وللأسف فإن بعض دعاة عصرنا هذا من ملّتنا يعتمد على الخرافة والأساطير في دعوته ومنهجه) وهذا ما يمكن تسميته بالمراجعة التاريخية أو النقدية للكتب السماوية السابقة.
 كما تضمّن القصص خطاباً نقدياً وجهه الله سبحانه وتعالى الى أهل الكتاب لتبيان وتوضيح الانحراف عن العقيدة الصحيحة، والأخطاء التي وقعوا فيها

(لقدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المائدة
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) البقرة

وهذا الخطاب النقدي تم توجيهه الى جميع الأمم السابقة، بما في ذلك القصص المحمدي، والقاعدة العامة التي تحكمنا نحن في هذا العصر بهذه المراجعة النقدية هي الآية الكريمة:

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) البقرة

أما المرحلة الأخيرة التي حسمت مرحلة الجدال الفكري فكانت مرحلة *التعايش المشترك*

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (64) آل عمران

بعد الحوار وعرض الحجة كان لا بد من إيجاد قواعد عامة للتعايش المشترك ورفع الخلاف، وذلك بتوحيد العقيدة والتركيز على القاسم المشترك وهو الايمان بالله ثم الاحتكام لمنظومة القيم الإنسانية والوصايا الموجودة في كل الكتب السماوية، مع ترك الحكم والفصل لله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)  (17) الحج
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} الكهف 29

وبهذا يكون الحكم والفصل بيد الله تعالى، مع ترك باب العمل ومن ثم المغفرة والتوبة مفتوحاً.

أما من يركّز على مجموعة معينة من الآيات بحيث تخرج عن نسقها العام ومنهجيّة التعامل مع باقي الملل والرسالات الأخرى ويصر على إطلاق الأحكام العامة وتوزيع الثواب والعقاب على عباد الله، ويختص بالجنة من يشاء من الأمم دون سواها وحصر النار في ملل دون أخرى، فهذا تعدّ واضح وصريح على القواعد الكليّة التي أنزلها الله في كتابه العظيم.
ولكي تكتمل الصورة، سنناقش في المرة القادمة آية عظيمة تعتبر أول ميثاق لحرية العبادة والتديّن وإقرار القانون المدني (لا إكراه في الدين).

 هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
25-5-2018

*آيات استوقفتني (5)-لا إكراه في الدين*

(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة (256)

على كل من ينتمي لهذا الدين أن يفتخر بهذه الآية الكريمة التي تعتبر بحق ميثاق *(التعددية والحرية الدينية)*، فبعد أن ختم الله رسالته وأكمل دينه "الإسلام العام" برسالة سيدنا محمد، ووصلت الشريعة والأحكام الى صورتها النهائية التي يرضاها الله، وبعد ان تقدّمت المعرفة البشرية ووصلت الى الحد الذي يسمح لها باستخدام المعرفة والعلوم للاجتهاد ضمن الحدود التي وضّحها الله سبحانه وتعالى، كان ذلك إعلاناً لبدء *عصر ما بعد الرسالات "خلافة الأرض"* والذي يُشترط فيه حرية الاعتقاد والفكر ضمن إطار من التعدّدية.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) المائدة (3)

فكان لزاماً التأكيد على *إعطاء البشر الحريّة الكاملة للاختيار*، حتى يستحقوا الثواب أو العقاب (إما شاكراً وإما كفورا) فجاءت هذه الآية الكريمة لتعلن صراحة أن من حق الفرد أن يؤمن أو أن يكفر وأنه لا يجوز لأي فرد أو جماعة استخدام الإكراه (الاجبار بالقوة أو العنف أو التهديد) في سبيل الدعوة الى دين الله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)

كما تؤكد الآية أن *المعرفة البشرية بعد تطوّرها أصبحت قادرة على التمييز والحكم* (قد تبيّن الرشد من الغيّ) وأن دور الوحي (الذي هو بيان للناس وإرشاد) قد اكتمل وأدّى الغرض منه، وعلى الانسان أن يختار بكامل حريته وملء إرادته طريق "الطاغوت" أو "الايمان بالله"، وأن هذا الخيار هو خيار فردي (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة) 38 المدثر

والطاغوت من الطغيان والضلال، والملاحظ أن المطلوب من المؤمن ليس فقط الايمان بل إعلان المعارضة واتخاذ مواقف عملية ضد الطغيان والإكراه.
إن شعار الحرية للمجتمع والفرد، هو شعار إلهي إسلامي، ضمن مفهوم الحريّة الدينيّة والعيش المشترك ضمن منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية، وإن تحقيق هذه الغاية هو هدف كل مسلم.

ومن هنا علينا أن نعيد فهمنا للتاريخ وللثقافة الإسلامية وما التصق بها من تفسيرات تراثية خاطئة، اعتمد عليها المستشرقون للهجوم على الإسلام، فالغاية ليست إكراه الناس على الدخول في الإسلام، وليس ذلك مطلوباً من النبي أو أتباعه، ولكن *المطلوب هو تبليغ الرسالة وأن يسمع الناس كلام الله، أما الايمان فذلك متروك لهم*.

 (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة (6)
(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (يونس 99

ولعل من أبلغ الأمثلة على التعددية الدينية هي *العهدة العمرية* مع نصارى القدس (إيلياء) فقد حفظت الدولة حقهم في العبادة وأعطت النصارى حق المواطنة، حتى أن سيدنا عمر زار كنيسة القيامة وكاد ان يصلي فيها ولم يمنعه سوى خوفه من اتخاذها مصلّىً من بعده، ولم يكسر الصليب ولم يقتل الخنزير ولم ينهاهم عن دينهم ولا يمنعهم من طقوسهم.

ولا بد من ذكر أنه *لا يجوز لأي مجتمع أو فرد إجبار الأفراد على أداء واجبات الدين ولا إكراههم على تركها كذلك*، أي لا يجوز أن تكون الصلاة إجبارية ولا يجوز أيضاً منع الصلاة، فالصلاة متاحة لمن أراد، كما لا يجوز فرض المظاهر الدينية على أحد ولا منعه منها، فلا يجوز مثلاً فرض الحجاب ولا منعه وهكذا.
وللأسف فإننا كأفراد ما زلنا نفكر بطريقة أحاديّة، فبعضنا يرى أن على المجتمع فرض التديّن، بينما البعض الآخر يرى في مظاهر التديّن تعصّباً أو حتى تخلّفاً، والقليل القليل من يؤمن بالحريّة ويتقبّل الآخر.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
26-5-2018



*آيات استوقفتني (6)-الذِكْر*

*(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر (9)

ما استوقفني في هذه الآية هو لفظ *"الذِكْر"*، فالله سبحانه وتعالى عندما تعهّد بحفظ التنزيل الكريم استخدم لفظ الذِكْر وليس الكتاب أو القرآن، فلماذا الذكر؟ وهل الذكر هو فعلا الكتاب؟

طبعاً التفاسير التراثية جميعها قالت إن الذِكْر هو القرآن فمنذ نعومة أظفارنا ونحن نحفظ هذه الآية ونتلوها دليلاً على حفظ الكتاب الكريم، ولطالما تساءلت لماذا استخدم الله سبحانه وتعالى الذكر ولم يقل القرآن، ما دام الذكر هو القرآن!

يقول الله تعالى (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)
وعلى لسان يوسف قال (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ)
وعن مناسك الحج يقول (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ)

وقديماً قال الشاعر الجاهلي عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني
وبيض الهند تقطرُ من دمي

*فالذِكْر من التكلّم، وهو التلفّظ والنطق، ومن هنا جاءت "الأذكار"* والتي هي مجموعة من الأدعية والتسبيحات التي يتلفّظ بها اللسان.
ومن هنا نستنتج أن الذِكْر هو *الصيغة اللفظية المنطوقة للتنزيل الحكيم*.
وبما أن علم الكلام سبق علم الكتابة، حيث كانت الكتابة انعكاساً وتعبيراً عن الكلام لا العكس، كان التعهّد الإلهي بحفظ النسخة الأصلية من التنزيل كما نطقها الوحي وبلّغها للرسول الكريم، وكما نطقها الرسول وبلّغها للبشر، وهذا يستدعي بالضرورة ليس فقط حفظ لفظ الكتاب بل كتابته ورسمه وحرفه لأنها انعكاس للفظه.
*وبلغة أهل الحاسوب وتقنية المعلومات لقد تعهّد الله سبحانه وتعالى بحفظ ال Source Code*

استشعروا معي مقدار الدقّة الإلهية المتناهية في اختيار الكلمات والتعبير بها في كتابه العظيم، وتخيّلوا مقدار السطحيّة التي نتعامل بها مع ألفاظ القرآن الكريم، فنظن أن الكتاب هو القرآن، والذكر هو اسم آخر لكليهما.

من المُخجل ان نبقى في هذا العصر أسرى لفهم المفسرين الأوائل دون أدنى محاولة لتجديد فهمنا للكتاب العظيم بما استجدّ من علوم ومعرفة، وأن نصرّ على الإبقاء على كل ما ورد في هذه التفسيرات ومن ضمنها الكلام عن حروف زائدة أو كلمات جاءت للحشو فقط، والقول بالترادف، ناهيك عن القول بالناسخ والمنسوخ، آية كاملة يُنسخ حكمها من التنزيل وتصبح معطّلة بقولنا نحن البشر!

نعود لموضوعنا، ولكي نستكمل أركان الحديث نضيف أن التنقيط (استخدام النقاط للحروف) جاء في فترة متقدمة ولاحقة لنسخ المصحف، فنسخة المصحف الشريف التي جمعت في عهد سيدنا عثمان كانت بدون نقاط، ناهيك عن حركات التشكيل، وبهذا يتضح أن الأصل الذي احتوى كلام الله كان النطق وليس كيفية التعبير عن هذا النطق بالكتابة وتدوينه.
لقد بقيت الصيغة المنطوقة محفوظة في صدور حفظة الكتاب على مدار قرون، إلى أن اكتملت الصيغة النهائية لكتابة المصحف بعد إضافة التشكيل اليها ومن ثم التنقيط ووصلت الى شكلها الحالي، ومنذ نزول القرآن الى يومنا هذا لم يخلُ عصر من حفظة الكتاب الذين يحفظونه بلفظه ورسمه وحرفه عن ظهر قلب.

وبما أسلفنا من حديث نستطيع أن ندرك ونتيقّن أكثر من أي وقت مضى دقّة كلام الله تعالى في قوله:

(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصّلت  (42)
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) النساء (82)

(إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) لاحظوا لفظ التأكيد إنّا يليها نحن ثم تتكرر وإنّا وكل هذا للتأكيد والتشديد على ان الله سبحانه وتعالى قد نزّل هذا الكتاب من عنده على قلب محمد بلفظه ونطقه (وبالتالي رسمه) وأن هذه الصيغة محفوظة من عند الله إلى أبد الآبدين، لا يأتيها الباطل ولا الشك لا من قبل ولا من بعد.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
28-5-2018

#الذِكْر #القرآن #حفظ_الكتاب #آيات_استوقفتني

*آيات استوقفتني (7)-الخبيثون للخبيثات*

(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (26) النور

جميعنا عقل هذه الآيات وحفظها على أن *نصيب الرجال الطيّبين أن يتزوجوا من نساء طيبات*، أما الخبيثون فنصيبهم خبيثات مثلهم، وما زلت أذكر كيف كنا نُسقط هذه الآية على من يتزوج ويتوفّق في زواجه، أو العكس.

المشكلة كانت في تناقض واقع الحياة مع هذا الفهم في حالات عديدة، مما خلق إشكالية وجعلنا نبحث عن الفهم الصحيح.

التفسير الأولي أخذ التأنيث والتذكير في الكلام على علاّته، فأسقط الكلمات على الرجال والنساء، رغم أن القرآن الكريم نفسه يتعارض مع هذا الفهم، يقول الله تعالى:

(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَت نُوحٍ وَاِمْرَأَت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)

والآية التي تليها في سورة التحريم

(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)

وظهرت هناك عدّة تفاسير حديثة، تشير الى أن قصد الآية هو ربط أكل المحرّمات وهي الخبائث بالخبيثين من البشر.
مفتاح التفسير الصحيح يكمن في الاحتكام الى المنهجية المعاصرة التي استعرضناها في بداية هذا الشهر وبالتحديد نقطتين اثنتين، الأولى عدم وجود حشو زائد، والثانية فهم الآيات من النسق العام مع عدم اقتطاع جزء من النص، وبالتالي يكون مفتاح التفسير هو عبارة (أولئك مبرؤون مما يقولون)، فالتفسير التراثي وكذلك تفسير الآية على محرّمات الطعام، لا يستقيم مع هذا الجزء من الآية، ويظهر هناك اضطراب في المعنى.

بالعودة الى سورة النور، والى الآيات السابقة نجد أن الحديث يدور حول *حادثة الإفك ورمي المحصنات*

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النور (23)

ومن هنا نستطيع القول إن المقصود بالخبث هنا هو *القول الخبيث ونشر الشائعات والكلام المُغرض بدون وجه حق*، وأن هذا النوع من الأخبار والشائعات والأقوال لا يجد قبولاً إلا عند النفوس الخبيثة، التي تتقبّله ثم تعيد ترويجه.
 بينما على العكس من ذلك تجد أن الكلام الطيّب والأمور الحسنة والمُفيدة لا تجد لها أرضاً خصبة إلا عند أصحاب النوايا الطيّبة. والعكس بالعكس.
 وبهذا الفهم تنسجم تتمة الآية بالمعنى السليم (أولئك مبرؤون مما يقولون) فهؤلاء الطيبون لا تقبل نفوسهم الخوض في الخبائث وترويج الافتراءات فهم مبرؤون من الخوض فيها ومما يقول غيرهم، ومما يُحاك من مؤامرات وأحاديث تمسّ العرض وتطعن في الشرف أو تسيء لمشاعر الآخرين.

جعلنا وإياكم من الطيبين الذين لا يقبلون إلا طيباً.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
30-5-2018



*آيات استوقفتني (8)-الحوت*

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا  (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا  (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا  (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) الكهف

دائما ما كنت اتوقف عند تفسير هذه الآيات الذي يقول إن المقصود بالحوت هنا هو *"السمكة"* التي أحضرها الفتى للغذاء، وكل الدروس الدينية التي حضرتها أو تابعتها حول قصة سيدنا موسى كانت تدور حول نفس التفسير، فقد دبّت الحياة في السمكة وقفزت الى الماء وشقّت طريقها بشكل عجائبي.

الميل نحو الأحداث الغرائبية والعجائبية دائما ما يخدم القصص الأسطورية ويزيد من تعلّق القارئ بهذه القصص، ولكن عندما يكون الحديث عن كتاب الله العظيم، وقصص الأنبياء يجب ان لا يتعدى الإعجاز مكانه الصحيح حسب النص، وأن يغلب العقل على وتيرة السرد الغرائبي.

إن تفسير السمكة يوقعنا في إشكاليّة عدم انسجام جملة *(فإني نسيت الحوت)* مع المعنى العام للآيات فما هو المقصود بنسيان السمكة؟ وما هو الرابط بين النسيان وعودتها الى البحر؟ لاحظوا معي فإني نسيت... واتخذ سبيله

ثم هل يعقل أن تكون مؤنة هذه الرحلة الطويلة لشخصين هي سمكة؟ فيذكرها الله سبحانه وتعالى بصفة المفرد تارة "حوتهما" وبأل التعريف تارة أخرى "الحوت"!

التفسير التراثي لم يأخذ في الاعتبار تفسير هذه الجملة (فإني نسيت الحوت) وقفز الى العبارة التي تليها فقال ان الفتى اعتذر لموسى لعدم ذكر تلك الحادثة له من قبل (نسيان السمكة) دون اعتبار لجملة (فإني نسيت الحوت).

التفسير المنطقي ومن واقع أحداث القصة، يقول *إن الحوت هو "القارب"* الذي استقلّه موسى مع فتاه، فالرحلة كانت رحلة بحرية (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)، فلمّا وصلا الى الشاطئ نسي الفتى ربط القارب عند الصخرة، فانفلت ودلف الى البحر وأخذه الموج، وبما ان القارب يحمل متاعهم وعدّتهم ومؤونتهم، فلمّا طلب موسى الغذاء ذكر له الفتى تلك الحادثة.

ولكن للأمانة لم أجد في اللغة جذر لغوي يربط بين السفينة او القارب ولفظ الحوت، ولكن الرابط بينهما هو امتطاء البحر، والشكل، فعندما صمّم الانسان القارب قلّد به الحوت كي يتمكّن من أن يطوف فوق الماء.

لو استعرضنا القرآن، لوجدنا أن الحوت ذُكر في ثلاثة مواقع، قصة القرية وصيد يوم السبت، وقصة سيدنا يونس مع الحوت، بالإضافة الى قصة سيدنا موسى.

واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ  (163)

 وورد في تفسيرها أن الأسماك تأتي الى الشاطئ وهي تطوف فوق الماء بشكل ظاهر في يوم السبت، ويصح أيضا القول إن *قوارب الصيد تأتي يوم السبت وهي محملة بالصيد الوفير* وبشباك مليئة بالأسماك وثمار البحر، وهذا أقرب الى المنطق وواقع الحال بالنظر الى أن القرية (حاضرة البحر) أي أن *من المفترض أن تكون مهنة أهل القرية هي الصيد واستخدام قوارب الصيد* وشبكات الصيد، وليس الاعتماد على ان السمك سيأتي من تلقاء نفسه الى حدود الشاطئ كي يصطادونه بدون أي وسيلة او جهد!

أما قصة سيدنا يونس، فالمتعارف عليه عندنا جميعاً أنها معجزة إلهية تمت بحفظ سيدنا يونس في بطن الحوت، ولكن قراءتنا المعاصرة يجب ان تعكس أدواتنا المعرفية العصرية وقدرتنا على الفهم المتجدّد، وهذه واحدة من إعجازات القرآن التي ذكرناها سابقاً (ثبات النص وحركة المحتوى)

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ  (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ  (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ  (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ  (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ  (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ  (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ)

ولنا أن نقول إن *أهل السفينة قد وضعوه في داخل قارب صغير وأغلقوا عليه، ثم تركوه في وسط البحر يتلاطمه الموج*، فكان سيدنا يونس في بطن القارب وفي الظلمات كونه محبوساً في داخله، فناجى الله سبحانه وتعالى ودعاه بالتسبيح، فاستجاب له الله ودفع بالقارب الى الشاطئ فتحطّم وقذف بيونس الى العراء.
وهذه القراءة أقرب الى منطق عصرنا والى علومنا الحياتيّة من القول إن الحوت الأزرق قد ابتلع يونس وبقي في داخله، فهذه معجزة وتلك معجزة، ولكننا نحاول فهم الكتاب بأدواتنا المعرفية المعاصرة.

 هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
2-6-2018
#آيات_استوقفتني #الحوت #سيدنا_يونس #الكهف
*آيات استوقفتني (9)-قصة فداء ابن إبراهيم*

(قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ  (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ  (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ  (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ  (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ  (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ  (102)) الصافات

*لم يرد في كتاب الله تعالى ذكر اسم ابن سيدنا إبراهيم في قصة الذبح*، في حين تذكر الرسالات الأخرى أنه إسحاق، فيما يُعرف بقصة *(إسحاق الذبيح)* وأن إسحاق هو وريث سيدنا إبراهيم كون سيدنا إسماعيل ابن جارية على قولهم.
وقد اختلف المفسرون الأوائل على هوية الابن المقصود في قصة الذبح، وقد وردت بعض الروايات عن سيدنا محمد قوله إنه إسماعيل، فهل هناك في القرآن من دلائل تؤكد هويته؟

بالعودة الى الآيات السابقة نجد أن تسلسل الأحداث يبدأ بحادثة كسر الأصنام وإلقاء سيدنا أبراهيم في النار وبعد نجاة إبراهيم من النار يطلب من الله سبحانه وتعالى ان يهب له من الذرية الصالحة، فيعده الله سبحانه وتعالى بغلام حليم، وهو الذي تدور أحداث الذبح والفداء حوله.
ومن هذا نستنتج ما يلي:
1.     *إن الولد الوارد ذكره في قصة الفداء هو الابن البكر بالضرورة*
2.     *إن هذا الولد هو ليس إسحاق*، نظراً لأن إسحاق جاءت به البشرى من الملائكة على غير طلب أو رجاء من سيدنا إبراهيم، بل كان فيه مفاجأة له ولزوجه.

تأكيد على أن إسماعيل هو الابن البكر لسيدنا إبراهيم:

في جميع الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر أبناء سيدنا ابراهيم كان الترتيب يبدأ بسيدنا اسماعيل ثم إسحاق ثم يعقوب ومنها ما يلي:

(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

(أم تقولون إن إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى)

والترتيب هنا يلزم القول إن سيدنا إسماعيل هو الابن البكر، والأهم من ذلك هو الآية الكريمة في سورة إبراهيم

((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء 39))

بعد انتهاء قصة الفداء في نفس سورة الصافات يأتي الله سبحانه وتعالى على ذكر البشرى بسيدنا إسحاق

 (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ 107 وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ 108 سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ 109 كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 110 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 111 وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)

أي أن سيدنا إسماعيل كان الولد الوحيد من نسل سيدنا إبراهيم عند بناء الكعبة وعند قصة الذبح والفداء، ولم يكن ابراهيم قد رُزِق بإسحاق وأن البشارة بإسحاق وولده يعقوب كانت بعد قصة الذبح

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

أما دليلنا الأخير، فهي بشارة إسحاق نفسها، يقول الله تعالى:

(وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ  (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ  (72)) هود

فالبشارة هنا كانت بقدوم إسحاق ومن صلبه يكون يعقوب (وهذه البشارة واردة أيضاً في العهدين القديم والجديد) *فكيف تستقيم قصة الذبح والفداء مع سيدنا إسحاق، بعد أن كان الله قد بشّر سيدنا إبراهيم بأنه سيعيش ويرى إسحاق يكبر ويكون له ذريّة من ورائه (يعقوب)؟!*

كما أن الآيات في بشارة سيدنا إسحاق واضحة بأن سيدنا إبراهيم وزوجته سارة عجوزان كبيران في السن، في حين أن قصة الذبح والفداء كانت قبل ذلك.

ملاحظة: كنت قد ذكرت في منشور سابق عن المراجعة النقدية للكتب السماوية السابقة والتي جاء بها الكتاب العظيم لتبيان الانحراف عن المعنى والتغيير الذي طرأ على هذه الكتب وبالأخص قصص الأنبياء ومنها على سبيل المثال هذه القصة التي طالها التحريف.

من المؤسف أن بعض التفسيرات التراثية القديمة حاولت أن تأخذ من الكتب السماوية الأخرى ما ليس موجوداً في القرآن وتضيفه الى تفسير الآيات ظناً منهم أنهم يثرون التراث الإسلامي، ولكنهم لم يعملوا على التحقّق والتثبّت من تلك الروايات وغفلوا عن كثير من التناقضات مع التنزيل الحكيم، ومن هذه الروايات ما نقله ابن عباس وكعب الأحبار من أن إسحاق هو المقصود بالذبح.
ويمكن الرجوع لكتاب أحمد أمين – فجر الإسلام للاطلاع على تأثير اختلاط المسلمين بالحضارات والثقافات الأخرى على التراث الإسلامي واختلاطه بما هو خارج عن صلب الدين.

هذا والله أعلم.

سنتناول في المنشور القادم، رؤيا سيدنا إبراهيم وقصة الذبح من القرآن الكريم.

أيمن أبولبن
3-6-2018

#آيات_استوقفتني #اسحاق_الذبيح #فداء_اسماعيل

*آيات استوقفتني (10)-القرابين البشرية*

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ  (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ  (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ  (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ  (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ  (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ  (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ  (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  (110)) الصافات

استكمالاً للمنشور السابق الذي قلنا فيه إن ابن إبراهيم المقصود في قصة الفداء هو إسماعيل، نستعرض قصة الذبح من واقع القرآن الكريم وتفاصيله كما وردت في الكتاب العزيز.

من الواضح ان السعي المقصود هنا (فلما بلغ معه السعي) هو القدرة على مساعدة الأب في أمور الحياة والدين، ويرجح هنا ان إسماعيل كان قد أصبح فتيّاً وقد تم تكليفه بالنبوّة.
تبدأ القصة بإخبار سيدنا إبراهيم لابنه الوحيد أنه يرى في المنام رؤيا أنه يذبحه، ومن هنا نفهم أن الرؤيا لم تأتِ مرة واحدة بل إن سيدنا إبراهيم رآها في المنام أكثر من مرة بحيث أصبحت هاجساً مسيطراً عليه إلى ان قرّر في النهاية مصارحة ابنه بهذا الأمر واستشارته.
فالأمر لم يكن أمراً إلهياً مباشراً أو وحياً وإنما رؤيا في المنام، وهذا ينفي التفسيرات القديمة التي أخذت عن التوراة وأكّدت أن الأمر كان وحياً من الله وأن الرؤيا عند الأنبياء هي أوامر ووحي، وهذا غير صحيح، لسبب واضح هو قوله (إني أرى) فلو كان الأمر وحياً ثابتاً لما تردّد سيدنا إبراهيم من اول رؤيا ولنفّذ الأمر، ولما استدعى أيضاً مشاورة ابنه في الأمر، بل إن الخطاب مع ابنه كان سيكون مختلفاً تماماً.

يُعزّز هذا القول رد سيدنا إسماعيل نفسه حين قال (إفعل ما تؤمر) ولم يقل إفعل ما ترى في الرؤيا، بمعنى أنه قال له إذا حسمت أمرك أنها رؤيا حق من الله وأنها أمر فأفعل، وستجدني إن شاء الله من الصابرين لامتحان الرب وابتلائه.

فلمّا سلّما أمرهما وأقرّا أنها رؤية حق وأن الله مبتليهم وباشروا بتنفيذ أمر الذبح، جاءت البشرى من الله سبحانه وتعالى واضحة كل الوضوح (لقد صدّقت الرؤيا)، أي أنك آمنت وامتثلت لأمر الرؤيا التي رأيت وهي امتحان من الله وابتلاء (البلاء المبين) ثم تمّ الفداء بذبح عظيم، وأصبحت هذه السنّة من مناسك الحج الى يوم القيامة.

والسؤال لماذا البلاء والامتحان بذبح الابن؟! الجواب يتعلّق بالقرابين البشرية التي كانت معهودة في زمن سيدنا إبراهيم (بل إنها غارقة في القِدَم)، بحيث تُقدّم القرابين البشرية للآلهة المختلفة لنيل الرضا أو إخماد غضبها وسخطها كما كان يعتقد، فجاء هذا الأمر الإلهي ليقول للناس جميعاً إن الله ليس بحاجة الى قرابين بشرية وما تفعلوه هو الضلال الذي لا يقرّه الله لذاته الإلهية ولا لأحد غيره.

من محاسن هذا الدين العظيم أنه هدانا لرفعة البشرية وإعلاء شان البشر وحقوق الانسان، ولكننا للأسف لا نفهم الأمور على مرادها، فمنذ تلك اللحظة التاريخية الفارقة، تم استبدال القرابين البشرية بذبح بهيمة الأنعام وتقديمها للفقراء والمحتاجين لخدمة المجتمع، وليس للكهنة أو رجال الدين أو غيرهم، قال الله تعالى: (لن ينال الله لحومها) وقال أيضاً (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر).
ولنا أن ندرك عظمة هذا الدين حينما نقارن تاريخيا بين بعثة سيدنا إبراهيم وإقامته في مكة وتحريم القرابين البشرية من يومها، وما احتاجته البشرية البعيدة عن هدى الله من زمن ومعرفة، لإدراك حرمة تقديم القرابين البشرية.

في النهاية، أقول إن تقديم القرابين البشريّة المُشخّصة قد انتهى منذ عهد سيدنا إبراهيم، ولكن البعض منّا ما زال يؤمن الى اليوم بضرورة تقديم القرابين البشرية (بطريقة غير مباشرة) لنيل رضا الرب، ظنّاً منهم أن الله قد أمرهم بذلك وأنهم سينالون رضاه ويدخلوا الجنة إثر فعلتهم تلك، والله المستعان.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
9-6-2018

#آيات_استوقفتني #القرابين_البشرية #فداء_اسماعيل




*آيات استوقفتني (11)-حضارة عاد*

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ  (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ  (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) الفجر

قصة سيدنا هود مع قومه عاد ومدينتهم التي ذكرها القرآن بإرم ذات العماد، لم ترد في الرسالات السابقة، وقد خصّ بها الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم ونبيّه الخاتم للرسالات.

عاش سيدنا هود بعد سيدنا نوح، وذلك حسب النص القرآني على لسان سيدنا هود (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) الأعراف 69
والملاحظ أن قوم سيدنا هود قد سكنوا في الجبال العالية والهضاب المطلّة بعد الطوفان الذي غمر المنطقة في زمن سيدنا نوح (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) الشعراء 128
والريع هي الربوة المطلّة

كما قاموا ببناء مجاميع للمياه للتحكّم في مخزون المياه (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) الشعراء 129، وهذا تطور آخر طرأ على البشرية بعد طوفان نوح والذي تطوّر بدوره الى بناء السدود.

كما يظهر لنا مفهوم تدجين الأنعام وتربيتها والانتفاع بها (أمدكم بأنعام وبنين) الشعراء 133، رافقه تطوير البناء (بنين)

وصف الله سبحانه وتعالى مدينة عاد بذات العمدان المميزة، وأنها أي المدينة لم تشهد البشرية مثيلاً لها من قبل.

ومن المعلوم ان علماء الآثار قد كشفوا في تسعينيات القرن الماضي عن آثار قوم عاد والتي تقع شمال حضرموت قرب اليمن، وتم الكشف عن رواق الأعمدة المحيطة بالمدينة والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم، كما تم التثبّت من سبب هلاك هذه المدينة حيث ذكرت الدراسات أن عاصفة رملية قد دمّرتها وطمستها، مصداقاً لما ورد في القرآن (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) فصّلت

كما قدّمت صور الأقمار الصناعية للبنية التحتية وجود قنوات وسدود مائية كانت تستعمل في الريّ، والتي ذكرها القرآن.

اللافت كان وصف أحد علماء الآثار والتنقيب لهذه المدينة الأثرية حيث قال (لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخرى) ترجمةً لقول الله تعالى (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)

صدق الله العظيم الذي ذكر في آيات موجزات بيّنات، حقائق تاريخية اكتشفها الانسان لاحقاً، لتأتي مصداقاً لنبوءة سيدنا محمد.

أخيراً تذكر الكتب التاريخية ان أقدم قبر عُرف في البشرية هو قبر سيدنا هود، وهذا يؤكد الحقبة التاريخية التي عاش فيها بعد سيدنا نوح.

هذا والله أعلم.

هذا موضوع يضم واحد من الفيديوهات لمدينة إرم الأثرية


أيمن أبولبن
11-6-2018

#آيات_استوقفتني #هود #عاد #إرم

*آيات استوقفتني (12) - ليلة القدر*

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ  (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ  (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ  (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ  (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) القدر

من الروايات المتوارثة أن ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن على قلب سيدنا محمد أول مرّة، وأن الله قد أنساه إياها للاجتهاد والسعي في العمل!
وهذا الفهم لإنزال القرآن خاطئ.
وفي رواية أخرى أن جبريل نزل على سيدنا محمد في ليلة من ليالي رمضان وحدّد له ليلة القدر، فخرج من فوره الى أهل المدينة يريد أن يعلمهم فوجد مسلمين يتشاجران فغضب غضباً شديداً أعماه عن تذّكر أي ليلة هي!

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 
يعلمنا الله سبحانه وتعالى ان إنزال القرآن كان في ليلة عظيمة أسماها "ليلة القدر" ثم وصفها في موقع آخر بالقول:
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ  (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ  (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الدخان
وأن هذه الليلة هي ليلة من ليالي شهر رمضان
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) البقرة

والمقصود بالإنزال هو التحويل الى صيغة أو هيئة يدركها الانسان ويعقلها، أي من هيئة أو صيغة خارج الوعي الموضوعي للبشر الى داخله، كما في قوله تعالى:

(وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)

فالحديد موجود الآن على الأرض على هيئة ندركها ونفهمها بعد أن كان خارج الإدراك الموضوعي للعقل البشري، وإنزال القرآن المقصود في ليلة القدر هو تحويل القرآن من اللوح المحفوظ (صيغة خارج الوعي الإنساني) الى اللغة العربية المفهومة لدينا، وهذا يتأكد في قوله تعالى:
 (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) الزخرف
مما يؤكد عملية التحويل (الجعل) أي نقله من هيئة (صيغة) إلى صيغة أخرى.

ملاحظة مهمة: القرآن هو جزء من الكتاب كما ذكرنا سابقاً وهو الذي قرن بين الكونيّات والغيبيّات وأسرار الحياة وبين سيرة البشرية والأحداث الإنسانية التي أوردها الله سبحانه وتعالى في كتابه.

أما التنزيل فهي عملية النقل أو الوحي ذاتها (دون تحويل)، وعملية تنزيل القرآن عن طريق الوحي امتدّت لمدة تزيد عن 20 سنة من عمر الرسول

(إنا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً) أي أن جبريل قام بنقل آيات القرآن بعد تحويلها الأولي الى اللغة العربية المفهومة لدينا (الإنزال) على دفعات على قلب سيدنا محمد، وهذا ما أخبرنا به سيدنا محمد بقوله أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة

ومن هنا نستطيع أن نفسر قوله تعالى (تنزّل الملائكة والروح فيها) والحديث هنا عن ليلة القدر، فالملائكة وسيدنا جبريل يتنزلون (دليل على الاستمرارية) طوال هذه الليلة المباركة من السماء الى الأرض بهيئتهم الملائكية دون تحويل الى هيئة يدركها البشر، أي تنزيل دون إنزال، فهم موجودون ولكن خارج الوعي والإدراك الموضوعي للبشر.

يقول الله تعالى على لسان أهل قريش (ولن نؤمن لرُقيّك حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه) فالمقصود هنا هو الإتيان بكتاب من عند الله تعالى على هيئة إلهية تثبت أنه (الكتاب) من عنده تعالى، وهذا يماثل طلب الحواريين عندما طلبوا مائدة "مادية" تنزل عليهم من السماء وليس من الأرض أو من ثمراتها (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء).


هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
12-6-2018

#آيات_استوقفتني #القرآن #ليلة_القدر


*آيات استوقفتني (13) - الأخلاّء*

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ  (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ  (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) الزخرف

عندما سمعت هذه الآية كنت كمن يسمعها لأول مرة، عدت بعدها وبحثت عنها وتمعّنت فيها، الخلّ أو الصديق الحميم، من نسميه "الأنتيم" أو رفيق الروح، الرفاق القدامى، صديق العمر، هؤلاء المقربون والأعزاء سيتنازعون فيما بينهم ويتعادون يوم الحساب، كلً منهم سيلقي اللوم على الآخر في الضلال وسوء الأعمال، وكلً منهم سيحاول افتداء نفسه والقاء اللوم على الآخر بعد أن كانوا رفقاء السوء في الدنيا، وكانوا يتداعون الى ارتكاب المعاصي والإثم، ظلم الآخرين، نشر الفاحشة، التحدث في إعراض الناس، النصب والاحتيال والرشاوي وما يسمونه "الشطارة" و "الفهلوة" وارتياد أماكن السوء .. الخ القائمة الطويلة.

يقول الله سبحانه وتعالى (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ  (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ  (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ  (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ)

لك أن تتخيل هذا المشهد حين يتمنى كل مجرم (من لا يؤمن بالله) لو يفتدي نفسه ببنيه وزوجه وأخيه وعشيرته وكل من في الأرض!

ثم تأت الآية لتستثني من هذه الصورة المنفّرة، أهل الايمان والعمل الصالح "إلاّ المتقين" فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فرحين بما آتاهم ويستبشرون بصحبة المؤمنين ورفقائهم في العمل الصالح

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ  (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فصّلت

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) الحديد

فهلاّ وقفنا لحظة صدق مع أنفسنا، وراجعنا علاقاتنا مع أصدقائنا وأخلائنا، هل هي علاقات مصالح دنيوية وانبساط على حساب تقوى الله وعبادته السليمة؟ أم هي علاقة ود ومحبة صادقة تلتقي على عمل الخير والتناصح وعمل المعروف؟

جعلنا الله من رفقاء الخير والمتعاونين على البر والتقوى.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
13-6-2018

#آيات_استوقفتني #الأخلاء #الصداقة #رفقاء_السوء




*آيات استوقفتني (14) – أبو لهب*

(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ  (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ  (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ  (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ  (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) المسد

في آخر موضوع لنا هذا العام أحببت أن نقف عند هذه السورة القصيرة التي حفظناها عن ظهر قلب، وغفلنا عن باطنها.

بدايةً لفظ (تبّت يدا) لا يُقصد به الإساءة أو الشتيمة كما ذهب البعض، فالتباب هو خسران الأعمال ومآلها الى الفشل يقول الله تعالى (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ)
(أبي لهب) هي صفة أطلقها الله سبحانه وتعالى على عم الرسول وليس اسم علم، تماماً كما استخدم "فرعون" "هامان" "قارون" للدلالة على السلطة الحاكمة والدينية والاقتصادية على التوالي ولم يكن المقصود شكر أسماء هذه الشخصيات، والهدف من هذا القول هو الربط بين هذه الشخصيات "الحقيقية" ومن يشابههم في الأعمال، ليفيد ذلك في عدم اقتصار النص على هؤلاء الأشخاص بذاتهم بل يكون نصاً عالمياً أبدياً.

فكل حاكم طاغية هو فرعون، ولو تأملنا في الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عن فرعون لشعرنا انها تنزل علينا اليوم لتحاكي عصرنا وواقعنا.

فماذا عن أبي لهب، هو كل شخص ذو قدرة وقوة وله مآربه، فاليدين كناية عن القوة والعمل والتخطيط، (ما أغنى عنه ماله وما كسب) له موارد اقتصادية وثروة ولكنها لن تغني عنه شيئاً ولن تفيده بل سيلقى مصيره المحتوم في الفشل الدنيوي والأخروي.

السؤال لماذا استخدم الله تعالى لفظ "لهب" ونسب هذا الشخص له بالأبوة أي المولّد والمُنشىء؟

يقول الله تعالى: (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فاللهب من إيقاد نار الحروب والفتنة وإشعال فتيل الطائفية وإثارة الفساد في البلاد.
أبو لهب هو كل شخص قادر متمكن يحيك المؤامرات في الظلام ويضخ الأموال في سبيل اشعال نار الفتنة والفساد وخراب أعمال الآخرين وبث السموم.
وكان عم النبي (عبدالعزّى بن عبدالمطلب) مثالاً حيّاً على هذا النوع من البشر، لهذا لم يذكره الله سبحانه وتعالى بإسمه بل أطلق عليه هذا اللقب ليدل على فعله وعمله لا على شخصه.

وينبهنا الله سبحانه وتعالى أن كل هذه الأعمال مصيرها الى الخسران والفشل، وأن صاحبها سيلقى المصير الذي سعى لتنفيذه وإيقاع الاخرين فيه.

أما لفظ (إمرأته) فهي المعاون والمساعد والشريك، فكل من يعاون على هذه الأعمال وينفذها ويساعد على تمريرها هو شريك في هذا الفعل وسيلقى نفس المصير.
والحطب كناية عن كل الأسباب والعوامل التي تساعد على إيقاد نار الفتنة والحروب والفساد، من ترويج للإشاعات وتلفيق التهم والأخبار ودفع الأموال للمغرضين كي يلجموا أبواب الخير والمدافعين عن الحق، والعمل على الترويج لكل ما هو مفسد وفاسد.

هل ترون الآن كيف أن التاريخ مليءٌ بنوعية "أبي لهب" ؟!

نأتي أخيراً على جزئية (حمالةَ) لماذا جاءت منصوبة وليست مرفوعة، علماً بانها جاءت وصفاً للمرأة، والأصل ان تكون (وامرأتهُ حمّالةُ الحطب)
أقول إن النصب جاء لأنها تمييز وليست وصفاً، والتمييز هنا جاء ليدل على ان لأبي لهب (عم الرسول) أكثر من زوجة، وأن المقصود بهذه الآية هي زوجته (شريكته) التي تعاونه في هذا العمل، وكذلك ينطبق هذا الوصف على شركاء كل شخص تنطبق عليه صفات أبي لهب، فشركاؤه ومعاونوه الذين سيلاقون نفس جزاءه هم فقط أولئك الشركاء الذين يعاونوه وليس كل من يدخل معه في شراكة او عمل.

هذا والله أعلم.

أيمن أبولبن
14-6-2018

#آيات_استوقفتني #أبولهب #الفتنة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق