‏إظهار الرسائل ذات التسميات معرفة ، تنمية قدرات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات معرفة ، تنمية قدرات. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 2 يوليو 2020

لم يعد وجودُكَ يُربكني!




في الثقافة الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore) للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.

لا يتحرّج الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.

مشكلتنا في الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية، ونتصرف بناء على حالتنا تلك.

على سبيل المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.

أما حين تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من الحب المفرط إلى الكره والبغض.

ولا ندرك أننا وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.

وعلى نفس المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو العداء!.

إن عدم قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه، أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.

وهكذا يتحول الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية مزمنة لا خلاص منها.

كم أتمنى أن نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم، فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.

نشرت إحدى الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي: " لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"

هذا التعليق بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً، كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!

لم أجد أبلغ من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.

أحلم ذات يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!    

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020

الأحد، 19 يناير 2020

ملخص كتاب (اثنتا عشر قاعدة للحياة)

انتهيت من قراءة كتاب (اثنتا عشر قاعدة للحياة) للكاتب الكندي جوردان بيترسون، وقمت بتلخيص هذه القواعد (مع بعض التصرف) في الملف المرفق للفائدة


لتحميل ملخص كتاب (اثنتا عشر قاعدة للحياة)


الاثنين، 23 ديسمبر 2019

رحيل صاحب المنهجية المعاصرة لفهم التنزيل الحكيم





مساء أول من أمس ترجّل الدكتور محمد شحرور عن صهوة جواد التجديد الفكري للعقل العربي وللخطاب الديني، تاركاً وراءه إرثاً فكرياً غزيراً ومشروعاً نهضوياً قلّ مثيله.

صاحب الواحد والثمانين عاماً لم تخلُ حياته من التعرّض للنقد والهجوم والاتهام بالزندقة والتطاول على الدين، وهذا هو ديدن كل العلماء التقليديين في مواجهة المفكرين والمجددين الحقيقيين، إذ أن من الصعب أن يتخلّى قومٌ عن إرثهم التقليدي بتلك السهولة. ولعلّ إرث التجديد الفكري ونتاجه يحتاج لجيل جديد يستطيع أن يستوعبه ويقدّر قيمته، إذا أن معظم المبدعين قد اشتهروا وذاع صيتهم بعد مرور زمن ليس بقصير على أعمالهم.

عند سماعي خبر وفاة المفكر د. شحرور عادت بي الأيام إلى رحلتي في البحث عن إجابات شافية للأسئلة الوجودية بين الشك والايمان، ثم تعمّقي في الدين وأصوله وكتب تفسير القرآن، وصولاً إلى رحلتي في البحث عن الأسئلة العالقة التي تقف عائقاً أمام تجديد الخطاب الديني، وفهم الدين بالشكل الصحيح القابل للتطبيق بشكل معاصر وواقعي، ويكون قادراً على استيعاب القفزات المعرفية والحضارية، وقادراً كذلك على استيعاب التنوع الثقافي للأمم.

أعترف بأني لم أجد أجوبة شافية واستمريت في البحث وقراءة كل ما توفر لدي من انتاج العلماء المعاصرين ومتابعة الدعاة الجدد، ولكن في كل مرة كان يفتح أمامي باب ويغلق في المقابل بابٌ آخر.
والسبب أن كل ما كانوا يقدمونه كان مبنياً على نظريات قابلة للأخذ والرد، وكان ينقصهم المنهج العلمي والاستدلال القاطع من القرآن، والتدليل عليه من العلوم المعاصرة.

ورغم أن المُؤلَّفَ الأول للدكتور شحرور كان قد صدر عام 1990 إلا أنني بدأت بمتابعة مؤلفاته وندواته بعد ذلك بسنوات طويلة، وكان لحظر مؤلفاته ومنع ظهوره أثرٌ كبير على تباطؤ نشر أفكاره ومنهجه ومعرفة الناس به.
وبعد سنوات من متابعة برامجه ومنشوراته قرأت كتابه الأول بطبعته الجديدة (أعتقد ان ذلك كان عام 2013). لقد استغرقتني قراءة وتحليل ومراجعة هذا الكتاب نحو ستة أشهر ولكن سعادتي كانت لا توصف، لأني وللمرة الأولى أضع النقاط على الحروف وأستطيع تصوّرَ الخطوط العامة للمنهجية المعاصرة التي بإمكانها أن تُعين أي شخص مهتم في التدبر والتفكّر في الكون وفي تجديد الخطاب الديني أن يعيد التفكير في كل الثوابت التي وضعتنا جميعاً في صندوق مغلق، وأغلقت علينا كل الاجتهادات، وأغلقت كذلك باب التجديد والمعاصرة.

قد تكون النتيجة التي توصل اليها الدكتور شحرور في بعض المواضيع والأبحاث، متشابهة مع النتائج التي توصل لها مفكرون آخرون ولكن الفارق الجوهري لم يكن في الوصول الى النتيجة، ولكن التحدي الحقيقي كان في البرهنة العقلية والمنطقية على صحة ذلك الرأي، والاستدلال عليه بكتاب الله من خلال الفهم المعاصر له، وهذا ما فعله الدكتور محمد شحرور بكل بساطة، لقد انتج نظرية معرفية قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وقادرة في النتيجة على تطوير الخطاب الديني وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي بفهمنا للكتاب على أساس أنه رسالة الله إلى كل البشر في كل العصور، وهذا ما لم يستطع تحقيقه أحد آخر من المفكرين، فاختاروا اللعب على العواطف أو التحدث بأفكار فلسفية خارجة عن إطار العقيدة وعلوم الدين.
من أهم الأساسيات التي بنى عليها د. شحرور نظريته المعرفية، أن القرآن الكريم لا يحتوي على الترادف لأن ذلك يتناقض مع كونه كتاب الله سبحانه وتعالى، فعندما يقول الله في آية "الكتاب" وفي آية أخرى "القرآن" لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتقد ان الله يقصد ذات المعنى، ولكن الذي حصل أن موروثنا الديني قد عامل القرآن كما عامل الشعر العربي وليس كما يجب أن يعامل كتاب الله.

وعلى نفس المنوال يقول د. شحرور إن كل كلمة في القرآن لها إضافة للمعنى، وإذا لم يتأثر فهمك للقرآن بحذف كلمة أو إضافة كلمة ففهمك ناقص.

ويؤكد د. شحرور أيضاً على أهمية الدلالة اللغوية والربط بين الكلمة والمعنى، والترابط بين الآيات، وضرورة قراءة المواضيع المشتركة في كتاب الله كوحدة واحدة وعدم اقتطاع الآيات بعضها عن بعض.

ويؤكد أيضاً أن كتاب الله قابل للفهم والتطبيق في كل العصور وليس محصوراً فقط في عصر الرسالة، وهو يحتوي في ذاته صفة ثبات النص وحركة المحتوى، فالله سبحانه وتعالى خاطب البشر على مختلف العصور بخطاب ثابت في النص، ولكنه (النص) قادر على استيعاب التطور المعرفي للحضارات البشرية، بحيث يستطيع كل عصر من العصور إدراك وفهم النص بشكل مختلف عن العصور السابقة.

وقد نشر د. شحرور عدة مؤلفات ودراسات حول مفهوم الرسالة والنبوة وقدّم فيها طرحاً جديداً لمفهوم السنة النبوية والسنة الرسولية والتفريق بين التقليد والاجتهاد في اتباع سنّة النبي.
كما قدم رؤية جديدة حول مفهوم السلطة والدولة الدينية والمدنية، وفيها وضّح أن مفهوم الدولة المدنية بدأ في يثرب التي أسماها سيدنا محمد (ص) ب "المدينة" لأنها جمعت بين الملل المختلفة بدستور مدني، كان ضامناً لحقوق المواطنة لجميع السكان.

كما تناول د. شحرور القصص القرآني بمفهوم معاصر، ووضّح أن القصص المحمدي وجميع الأحكام الواردة فيه هي أحكام ظرفية محكومة بعصر الرسالة، ولا يجوز القياس عليها، بل أخذ العبرة فقط، في حين أن الأحكام المطلقة وردت بكل صراحة ووضوح في كتاب الله، وهي مجموعة من الأوامر والنواهي والمحرمات والقيم الإنسانية.

وقد شاءت الصدف أن انتهي من كتابه (الإسلام والانسان) في نفس اليوم الذي صادف فيه وفاته، وهو آخر كتاب صدر له.

لقد قدّم د. شحرور شهادته على العصر ووضع عصارة فكره في كتابه الأول (الكتاب والقرآن) الذي احتوى أصول النظرية المعرفية التي توصل اليها بعد بحث ودراسة استمرتا لعشرين عاماً، وقال إنه كان يخشى أن يُمنع من الكتابة او أن يُقتل، فأراد تضمين كل علمه في هذا الكتاب.
وأضاف أيضاً أنه مهما ارتقت العلوم البشرية فإنها لن تصل إلى المعرفة الكاملة وأنه يأمل أن يتطور العلم وأن تأتي البشرية بعلوم جديدة تناقض علومه.

لقد ترك د. شحرور إرثاً عظيماً لم نستطع (نحن الجيل الذي عاصره) استيعابه بكليّته، واعتقد أن عبقرية هذا العلم وهذا الفكر هو قدرته على الاستمرارية وإدهاش الأجيال القادمة.


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
22-12-2019

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

قصصٌ للأطفال والكبار





قبل عدّة سنوات، تحايل عليّ أبنائي كي أنتظم في قصّ قصة قصيرة عليهم قبل النوم، وكنت بدوري أقصّ عليهم قصةً بين حين وآخر، ثم أتذرّع بأعذار كثيرة حين لا يسعفني الوقت أو تخونني الذاكرة، ثم ما لبثنا أن اتفقنا على أن أروي لهم قصة قصيرة في طريق عودتنا من المدارس وبشكل يومي، مع استعراض العبرة من القصة والتعليق عليها.
كان الأمر ممتعاً، وأكثر من مجرد إخبار حكاية للتسلية، لقد اكتشفت أنها طريقة تواصل ممتعة ومفيدة بل ومدهشة بكل المقاييس، عادت بالنفع على الجميع.
شخصياً أدّت هذه التجربة إلى إثراء معرفتي، وتحفيزي لإعادة صياغة الحكاية وجعلها أعمق في المعنى، مع إسقاط ما أرغب بإيصاله من حكم وأمثال ومواعظ.
في البداية استخدمت مخزوني من القصص والحكايات التي أحفظها، وتفاجأت بأن لدى الإنسان قدرة على استرجاع معظم الحكايات والقصص التي سمعها أو قرأها في مختلف مراحل عمره بأدق تفاصيلها، لقد عادت بي الذاكرة إلى المراحل الدراسية الأولى، واسترجعت القصص التي مرّت علي، سواءً في المنهاج، أو تلك التي حدثّها بنا الأساتذة، إضافةً إلى حكايا ووصايا أمي وأنا طفل صغير، وذكريات أبي والقصص التي حدثنا بها عن قريتنا في الوطن السليب.

ولكن بعد نحو سنة، نفد المخزون الشخصي، واضطررت للاستعانة بالإنترنت والبحث عن قصص الأطفال المفيدة، أو بعض القصص مما أقرأه من روايات وكتب، مما أستطيع قولبته في قالب من الحكايا المسلية والمفيدة.

المدهش في الأمر، أن هذه القصص القصيرة، تكون غالباً ذات بُعْد فلسفي عميق، وأثر نفسي على المتلقّي، دون تمييز في عمره أو مستواه الفكري، فهي قصص للأطفال والكبار على حد سواء، وكلٌ يستطيع ان ينهل منها بحسب نضجه وقدرته المعرفية.

من بعض ما قرأت (وتصرّفت في روايته)، أنه في إحدى القرى القديمة عاشت عجوز مات عنها زوجها وأولادها وباتت بلا مُعيل ولا كفيل، فالتمستَ العطف من مختار القرية، الذي جمع بدوره أهل القرية وتشاور معهم في الأمر، حيث توافق معهم على إمداد هذه العجوز بما يلزمها من طعام وشراب وإعانتها على أمور الحياة.
وهنا أمر المختار بوضع ثلاث جِرار أمام بيت العجوز وسلّة كبيرة، تُخصص الجرّة الأولى لوضع الحليب، والثانية لوضع العسل، والثالثة للماء، أما السلّة فتُخصّص لوضع الخبز، وأمر أهل القرية بأن يضع كل بيت من البيوت كوباً من الحليب والعسل والماء، ورغيفٍ من الخبز في المكان المخصص كلّ ليلة.

وفي المساء غفت العجوز على صوت دلق الحليب والعسل والماء في الجرار، وصوت الخبز وهو يتهافت في الصندوق المخصص، لم تكن الدنيا تسعها من الفرحة، بل إن النوم جافاها من السعادة، وبقيت في انتظار الصباح بلهفةً وهي لا تكاد تطيق صبراً، ومع ساعات الصباح الأولى، اغترفت كوباً من الحليب فإذا به ماء خالص!، ثم اغترفت كوباً من العسل، فإذا به ماء صاف!، ثم مدت يدها لتناول الخبز وإذا به يابس مكسور عفن!

لم تكد تصدق ما جرى، وشكّت في قواها العقلية، ثم اتجهت مسرعة إلى بيت المختار، وأحضرته ليعاين بنفسه، وما أشد الصدمة عندما تيقن المختار من صدق ما حدّثته به!

استشاط المختار غضباً وجمع أهل القرية، وسأل كل واحد فيهم عن وفائه بالاتفاق الذي أجمعوا عليه. في البداية دافع كل شخص عن نفسه بانه أدّى المطلوب ونفذ الأمر، ثم سرعان ما أدركوا جميعاً سوء صنيعهم، وتبادلوا نظرات الخيبة!
وقف ابن المختار وقال سأحدثك يا والدي عمّا حصل، في الليلة الماضية أمرتني بأن أذهب وأكون أول شخص يضع نصيبه المفروض للعجوز، في البداية شرعت في تنفيذ الأمر، ولكني توقفت لوهلة وقلت لنفسي أليس أهل بيتي أحق بهذا النصيب من الطعام؟ ثم خطر في بالي أن أضع كوباً من الماء في جرة العسل وكوباً آخر في جرة الحليب وأن اختار الخبز الناشف والبائت فأضعه في سلة العجوز، وحدّثتني نفسي بالقول (ما سيضير العجوز لو اختلط كوبٌ واحد من الماء في جرة مليئة بالحليب أو العسل؟!، وماذا ستصنع العجوز بكل هذا الخبز من أهل القرية، سينتهي بها الأمر إلى إلقائه إلى الطيور والعصافير، فلتأكل الطيور من بواقي الخبز.
ثم نظر الفتى إلى الرجال المجتمعين، وقال: وأظن يا أبي أن كل واحد من أهل القرية قد خطرت له نفس الفكرة، وصنعَ ما صنعتُ أنا!. انتهى

ألا تتفقون معي، أننا جميعاً نصنع مثلما صنع أهل هذه القرية بشكل أو بآخر، كم من مرّة طالبنا المجتمعَ بفعل الخيرات وتقديم التضحيات، ولكن عندما يكون الفعل من نصيبنا نعتبر أنفسنا مستثنيين من القاعدة، وفي النتيجة نكون قد اعتمدنا على غيرنا ليقوموا مقامنا.

نقوم بالغش في مجالنا، ولكننا لا نقبل الغش من الآخرين، بات الواحد فينا ورماً سرطانيا بذاته، ولكنه يرتجف خوفاً من أن يُصاب بالعدوى من الآخرين!

ننتقد الشباب في المجتمع لتسيّبهم وعدم تحملهم المسؤولية، وعلى اتكاليتهم المُفرطة، ولكننا نُغالي في دلال أبنائنا ونربيهم على عكس ما نصرّح به، وحين يكبرون، يصبحون مثالاً لكلّ شيء انتقدناه في المجتمع!

وهكذا مع كل قصة وحكاية، وجدتُ دائماً دعوةً للتأمل، وتحفيزاً لمجموعة من الأسئلة الفلسفية.

أدعوكم، بأن تقضوا مزيداً من الوقت مع أطفالكم وأن تقصّوا عليهم ممّا تحفظون من القصص أو التجارب الشخصية المفيدة، قبل النوم أو بعده أو ساعة الظهيرة، لا يهم، المهم أن نتواصل مع أبنائنا ونرسّخ عندهم القيم الإنسانية والواجبات الأخلاقية التي تربّينا عليها، كي لا يوقر في قلوبهم أن ما يشاهدوه من سلبيات في الواقع والمجتمع هو أمر مستساغ، يجب علينا تقبّله من باب تغيّر سنّة الحياة.
كما أدعو بشكل خاص المعلمين والمعلمات في كل المراحل على الاستشهاد بالقصص والأحداث التاريخية لإيصال المعلومة، لأن هذه القصص تُحفر في ذاكرة الطلاب ويكون لها تأثير كبير على العقل الباطن أو اللاواعي.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-12-2019

الاثنين، 2 سبتمبر 2019

جيل البلاسيبو!





قرأتُ فيما قرأت عن العلاج بالوهم أو الايحاء، وهو دواء أو إجراء علاجي زائف (غير ضار)، ولكنه يؤدي إلى تحسّن صحّي ملموس بالنظر الى اعتقاد المريض الذاتي في إمكانية العلاج وإيمانه المًطلق في المُعالج، حيث يقودُ التأثيرُ النفسي المريضَ إلى الشفاء والتخلّص من مظاهر المرض ولو مؤقتاً، وهو ما يُعرف علمياً ب "أثر البلاسيبو" Placebo effect، والبلاسيبو هو أي عقار أو علاج يوصف للمريض دون أن يكون له علاقة بمرضه أو تأثير في علاجه.

وفي تفسير هذه الظاهرة يقول الباحثون إن الأثر السيكولوجي ومشاعر الاهتمام والرعاية والتشجيع والأمل التي يبثها الموقف العلاجي تستفز في الجسد آليات فسيولوجية (بطريقة غير مفهومة) تُفضي إلى تأثير ملموس وفيزيائي حقيقي، وقد تم في بعض الحالات توثيق نشاط عصبي ملموس، وتحفيز لجهاز المناعة.

وهذا الأثر البلاسيبي، هو باب النعيم الذي يترزّق منه الدجّالون وطاردو الأرواح ومخرجو الجن من الأجساد، والمعالجون بالرقية والزار، إذ أنهم يعتمدون على علاج الوهم بالوهم، وغالباً ما يتمكنون من النجاح في ظل الايمان المُطلق بالشفاء الموجود في صدور كل من يسعى للعلاج لديهم، ناهيك عن الايمان الأصيل بوجود عمل شيطاني خبيث يمنعهم من النجاح في العمل أو في الحب والزواج او الإنجاب وغير ذلك. وطالما تجسّد سبب الفشل أو المرض في صورة ذهنيّة أو واقعية، وفُتحَ بابُ الخلاص عن طريق الأولياء والأشخاص الصالحين، وكان ذلك مُباركاً بالذكر ومُحاطاً بالقداسة، فإن النجاةَ تكون شبه أكيدة!

ولكن الحقيقة، إن البلاسيبو في النهاية لن يشفي مريضاً من السرطان ولن يوقف نزيفاً حاداً في الدماغ، كما أنه لن يجعل من شخص فاشل في الإدارة مديراً ناجحاً أبداً، ولكن يحدث أن تأتي الأحداث السعيدة وفرص النجاح لأنها غالباً ما تكون متوفرة غير أننا لا نأخذها على محمل الجد، وتشفى الأمراض كذلك أو الحالات النفسية لأنها غالباً ما تشفى مع مرور الوقت، ولأنها تعتمد أيضاً على اعتقاداتنا الشخصية وأوهامنا الداخلية في كثير من الأحيان، ولكن البلاسيبو بالتأكيد ليس سبباً في النجاح أو الشفاء.

وقد تناولت العديدُ من الكتب الأدبية والأعمال الفنيّة، موضوع أثر البلاسيبو، بل إن تجارب علمية كثيرة أجريت على هذا الأثر، وأفضت إلى نتائج صادمة أحياناً.

وفي العقدين الأخيرين أخذ أثر البلاسيبو منعطفاً آخراً بالاعتماد عليه فيما يعرف بالتنمية الذاتية أو البرمجة العصبية وغيرها من أبواب تطوير المهارات الشخصية، التي تعتمد على بث أسباب النجاح والتفاؤل والثقة في النفس، والايمان المُطلق أن نجاح الفرد مرتبط في الأساس بالايمان الداخلي للفرد بالنجاح (أو الفشل)، فإذا استطاع الشخص إعادة برمجة شخصيته وحملها على الايمان المطلق بالقدرة على النجاح وتحمل المسؤولية والقبول لدى الآخر والتواصل الاجتماعي....الخ القائمة الطويلة فإنه سيكون قادراً على النجاح دون أدنى شك.

وخلال السنوات الماضية كنت حريصاً على متابعة هذه المناهج غير أني رغم اقتناعي بفائدتها (إذا ما اتبعنا المنهج العلمي السليم واستوعبنا طريقة عملها وأسباب نجاحها أو فشلها)، إلا أني لاحظت أنه قد اختلط الحابل بالنابل خصوصاً مع ازدياد انتشار هذه العلوم والمناهج، ودخول فئة كبيرة من أدعياء المعرفة (بحثاً عن الثراء والشهرة) وأصبحت هذه المناهج والدراسات أثراً بلاسيبياً جديداً لا يعدو كونه تسويقاً للوهم بقالب علمي نفسي جديد!

فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن أصدّق أن شخصا سويّاً يقف أمام المرآة ويقول لنفسه بصوت عال "أنت شخص ناجح"، ثم يذهب الى العمل فيصبح ناجحاً، أو أن شخصاً يذهب الى مقابلة للعمل وبدلاً من الاستعداد المهني لها يركز على لغة الجسد وقراءة الشخصية وينتظر أن ينجح في المقابلة، وحتى لو اجتاز المقابلة فكيف سينجح في أداء مهامه الوظيفية!

كيف تصبح مديراً ناجحاً، اعرف شخصيتك، كيف يكون زواجك ناجحاً، افهم نفسك أولاً وغيرها من العناوين الرنّانة الخالية من المضمون، والتي تعتمد في النهاية على تسويق الوهم اعتماداً على القدرة الايمانية للمتلقي بالشفاء أو النجاح أو التغيير.

الشيء الذي يخفونه عنك أن النجاح يحتاج الى تخطيط وإرادة وشغف وتنفيذ مهام متعددة، وتنمية قدرات ومعارف قبل أن يحتاج إلى إيمان وثقة بالنفس أو برمجة عصبية، وإذا غابت عناصر النجاح لن يكفيك أن تكون مؤمنا وراغباً في النجاح.

وكما يحاول بعض خبراء التنمية الذاتية أو البشرية اليوم بيع الوهم بالاعتماد على أثر البلاسيبو فإني أجزم أن جيلاً كاملاً قد ترعرع على الايمان المطلق بأننا أفضل الأمم أخلاقاً وتاريخاً وحضارةً، وكل ما علينا فعله هو انتظار التاريخ ليعيد نفسه أو ظهور المهدي المنتظر ليقودنا في المعركة الفاصلة، وهذا لعمري لهو الوهم الكبير الذي عاشه جيلنا.

لقد زرعوا في نفوسنا وفي كتب التاريخ والتراث، رمزية القائد وتقديس الأشخاص، والقصص الأسطورية والمعجزات الخارقة، حتى بتنا نؤمن أن التغيير يأتي من السماء وليس من أنفسنا، وأن كل ما وصلت له الحضارات الغربية هو غثاء كغثاء السيل، وأن الخير فينا نحن دون الآخرين.

والأدهى والأمر أن نعزو أسباب فشلنا إلى قلة عدد المصلين في صلاة الفجر والنساء العاريات، في حين نغض الطرف عن سوء التعليم والفساد والتبعية للخارج ونهب الأموال والبلاد والتخلف الفكري والعصبية الدينية والفقر والجهل والواسطة والمحسوبية وعدم المساواة ومحاربة الديمقراطية وعدم حماية الحريات الفكرية وعدم احترام الرأي الآخر وعدم الايمان بالعدل والمساواة وأن القانون فوق الجميع.

نحن جيل يؤمن أننا سنهزم تخلفنا الحضاري بمعجزة، وسنحرر فلسطين بالمهدي المنتظر، وسننتقل من أدنى الأمم إلى قمتها بما يشبه عصا موسى ودون أن نبذل في سبيل ذلك قطرة عرق، متغافلين عن الأخذ بالأسباب ومحاربة الفساد وعدم قبول الظلم وتقديس العلم بدلاً من الجهل والخرافة، والأهم من ذلك كله، الايمان أن عصر المعجزات قد انتهى وأن رسالة سيدنا محمد تدعو الى الأخذ بالأسباب والاعتماد على الذات ثم طلب النصر، لا العكس!

تاريخنا مليء بالقصص السردية والخطب العصماء والشعر والنثر والغزل، ولكنه لا يتحدث عن عظماء العلوم والفلسفة والفكر بقدر ما يفرد صفحات طويلة للحديث عن الفرق الدينية والعصبيات وجمال البادية ونساء العرب، بل أنه لا يحدثنا عن القفزة العلمية الحضارية التي واكبت ظهور الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض، وكيف أصبح المسلمون سادة علماء عصرهم.

وجلُ كتب الدين وعلومه تدور في فلك العبادات والشعائر والطهارة، مع مرور الكرام على الأخلاق ومنظومة القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الانسان واحترام الآخر وأصول التعايش السلمي وبناء المجتمعات المدنية القائمة على العدل والمساواة.

إننا باختصار يا سادة، جيل البلاسيبو، جيل الوهم الذي زرعوه في نفوسنا كي نركن ونستكين ونحيا بانتظار المعجزة، ثم نموت قبل أن ندرك أن عصر المعجزات قد انتهى، واليوم يحاول البعض إقناعنا أن النجاح بحاجة فقط إلى قراءة كتاب عن النجاح أو حضور دورة لاكتشاف مكامن قدراتك!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-9-2019

الاثنين، 26 أغسطس 2019

أصدقاء ولكن غرباء!




في ظل الثورة التكنولوجية التي نعيش، والعالم الرقمي الذي بتنا جزءاً منه شئنا أم أبينا، اتخذت علاقاتنا الاجتماعية وروابطنا الإنسانية منعطفاً حرجاً، وباتت تعاني شيئا فشيئا من الاضمحلال العاطفي وندرة اللحظات الفارقة والعلاقات الحميمة.
فباتت حياتنا تقوم على مجموعة من اللحظات العابرة، واللقاءات الروتينية الخالية من العواطف وصدق المشاعر.
وكأن العالم الجديد الذي بات يعتمد على السرعة في كل شيء، السرعة في الاتصالات، والوجبات السريعة، والقهوة سريعة التحضير، ووجبات الدايت الخفيفة، قد جعلنا نبتعد أيضاَ (لا شعورياً) عن العلاقات "الدسمة" والأصدقاء الحقيقيين الذين يشاركونا لحظات حياتنا المؤثرة والفاصلة، ونكتفي على ما يبدو بالعلاقات العابرة "الخالية من الدسم"، واللقاءات السريعة "الخالية من الكافيين".

وفي ظل القفزات التكنولوجية التي لا تنتهي، والعالم الذي يدور حول فلك الفرد لا المجموعة، أصبحنا نتحول نحن أنفسنا الى ما يشبه الروبوتات في علاقاتنا، فأصبحت تطبيقات التواصل الاجتماعي بديلاً "شرعياً" عن التواصل الإنساني المباشر، واللقاءات الاجتماعية والشخصية، وهكذا انكفأنا على أنفسنا، وبات كل فرد يعيش في عالم خاص به، عالمه "الافتراضي"، الذي بات يعتبر "الصندوق الأسود" الذي يحتفظ فيه بخصوصياته وأسراره.

 الفيلم الإيطالي Perfect Strangers الذي صدر عام 2016 يسلّط الضوء على المفارقة الكبيرة بين علاقاتنا الاجتماعية في عالم الواقع وعلاقاتنا الخفية في عالمنا الرقمي، ويوضح الاختلالات التي نُعاني منها جراء التباين في شخصياتنا بين هذين العالمين.
تدور أحداث الفيلم حول سهرة تضم مجموعة من الأصدقاء، الذين يحرصون على اللقاء بشكل دوري في أحد بيوتهم العائلية. وفي هذه السهرة بالذات تقترح المستضيفة أن يكسروا حاجز الخصوصية فيما بينهم، متحدية إياهم أن يضعوا أجهزة الهواتف النقالة على الطاولة وأمام الجميع، وأن يقوم كل واحد منهم بقراءة كل الرسائل النصية التي تصله بصوت عال، وأن يقوم كذلك باستقبال كافة المكالمات الواردة على مكبر الصوت وعلى مسمع الجميع. وبين الإحراج والمكابرة يقبل الجميع التحدي مُكرهاً -لإبعاد الشبهات-وهكذا تبدأ اللعبة.

مع مضي الأحداث، تبدأ خطوط اللعبة بالتشابك والتعقيد وتتطور وصولاً إلى كشف جميع الخفايا التي يخفيها الصديق عن أصدقائه، والخبايا التي يخفيها الزوج عن شريك حياته، وتطفو على السطح أيضاً، العلاقات الشائكة داخل كل عائلة، وكل ما يحاولون إخفاءه عن نظرائهم.

ورويداً رويداً يتضح أن علاقة الصداقة المتينة التي تجمع بين هؤلاء الأصدقاء في العلن، ما هي إلا علاقات سطحية لم تبلغ العمق الكافي من التجربة ولا القناعة الفكرية اللازمة، وأن ميولاً شخصية لأحد الأفراد أو قناعة فكرية ما، أو حتى نزوة أو رغبة، كفيلة بأن تدبّ الخلافات والانشقاقات بينهم، بل إن لعبة رياضية قد تفرّقهم.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن كل شريك له عالمه الافتراضي الخاص، بعيداً عن شريك حياته، وفي عالمه الخاص هذا يمارس ما يشاء من علاقات، ويحقق رغباته الشخصية من تواصل مع الجنس الآخر، مفترضاً ألاّ علاقة لهذا بعالمه الواقعي وأن هذا العالم الافتراضي لا يؤثر من قريب أو بعيد على علاقته العاطفية مع شريك حياته، او على مصداقيته واحترامه لنفسه، واحترام الآخرين له.

وتنتهي اللعبة بكشف المستور وإظهار كل ما كان مخفياً من علاقات ونزوات وممارسات وآراء، دون تجميل، بل على العكس فإن الحقيقة حين تنكشف فإنها تُظهر وجهها القبيح، وتترك أثراً جارحاً ومؤلما في النفس، مهما كانت التبريرات والأعذار، ومهما كابرنا على أنفسنا.

لعلّ جمالية العمل تتجلّى في المشهد الختامي، فبعد انتهاء السهرة ونشوب الخلافات وتعرّي الحقيقة، بحيث أصبح الواحد فيهم عارياً تماماً من كل الأكاذيب والمجاملات والادعاءات، وكأنه قد خلع قناعه وظهر بوجهه الحقيقي، يمضي مخرج الفيلم بالأحداث وكأن هذه السهرة كانت سهرة روتينية أخرى بدأت بالعناق والقبلات والمجاملات وانتهت بها كذلك، فهو يعيد ترتيب الأحداث وكأن اللعبة لم تحدث، ثم يعرض لنا النهاية الواقعية - الروتينية لتلك اللقاءات، حيث يعود كل شخص إلى عالمه الخاص، فهذا يحمل تلفونه النقال معه الى التواليت ليستقبل صورة مثيرة من صديقته في العالم الافتراضي، وآخر يستقبل مكالمة من عشيقته ويخبر زوجته أنه يتحدث مع مديرته في العمل، وذاك يخفي ميوله الجنسية، كما يتم ترتيب موعد للعب كرة القدم، واخفاء هذا الموعد عن صديقهم البدين، وهكذا تعود عجلة الحياة الطبيعية الى الدوران من جديد!

ومن خلال المشهد الختامي، يطرح العمل السؤال الأكثر تعقيداُ، ما هو العالم الحقيقي الذي نعيش؟ هل هو هذا الواقع المليء بالخداع والمجاملة والسطحية، والذي ندّعي فيه أننا نملك أصدقاءً حقيقيين نعرف كل شيء عنهم، أم ذلك العالم الخفي (الصندوق الأسود) المليء بالخبايا ونوازع اللاشعور والذي نجاهد أن نبقيه في الخفاء؟

يُذكر أنه قد تم إعادة إنتاج نفس القصة من قبل هوليوود وعدة شركات إنتاج عالمية أخرى، بعد نجاح هذا الفيلم، ولكن جميع تلك النسخ أو محاولات استنساخ الفكرة، لم ترتقِ في المستوى لإبداع وأصالة الفيلم الأصلي.

يتكشّف لنا في النهاية أن هؤلاء الأصدقاء هم مجموعة من الأصدقاء-الغرباء الذين يحملون الكثير من التناقضات، والاختلافات والتباعد في القيم الإنسانية، ولكنهم في النهاية يختارون بعقلهم اللاواعي أن يتصرفوا وكأنهم أصدقاء وشركاء حقيقيون، لأنهم لا يستطيعون التعرّي وافشاء خصوصياتهم بالكامل أو ابداء كل عيوبهم ونزواتهم من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يرغبون بتعقيد حياتهم وتحويلها إلى حياة فاضلة أو ملائكية بحتة. وهم بذلك يختارون (مثلنا تماماً)، أن يمارسوا إنسانيتهم، محاولين قدر جهدهم أن يقيموا التوازن بين عوالمهم المختلفة، وأن يجمعوا حولهم لفيفاً من الأصدقاء الحقيقيين في الواقع، الغرباء عن بعض خصوصياتهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
25-8-2019

الاثنين، 22 يوليو 2019

نظرية (الجهلُ المُكتسب)




تقول نظرية دانينغ -كروجر المعرفية، إن الانسان يميل إلى تعظيم مقدار معرفته مقارنة مع مواطن جهله، وغالباً ما يعتقد أن مقدار معرفته هو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، على عكس اعتقاده بنقاط ضعفه (المعرفية أو المهارية والفنية).
وإن الانسان كلما تطوّر وتقدّم على سلّم المعرفة، كلما أدرك حجم نقصه المعرفي، واعترف بتواضع معرفته وخبرته.

باختصار، كلّما انخفضت فرص الفرد في المنافسة واكتساب المعرفة الحقيقية انخفضت قدراته ومؤهلاته، مما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري والوهم المعرفي (أنا خبير).

وإذا جاز لي البناء على هذه النظرية المعرفية، من واقع التطور الكبير الذي حصل في عالمنا مع بداية الألفية الثالثة وما بات يُعرف بالعالم الرقمي، وما أتاحه من تبادل للمعرفة الوهميّة، والحقائق المشوّهة القائمة على مغالطات منطقية فادحة، في جميع المجالات، فإني أقول إننا بتنا نعيش المرحلة الثانية من نظرية دانينغ-كروجر وسأطلق عليها مرحلة (الجهل المُكتسب).

تخيلوا معي أن السيد "زيد" لديه معرفة تُقدّر بنسبة عشرين بالمئة في حقل الاقتصاد على سبيل المثال، وهو راغبٌ في زيادة معرفته، ولكنه بدلاً من اتباع المنهج العلمي في البحث وطلب المعرفة، فإنه يقوم بالاعتماد على المصادر المتاحة التي تتميز بسهولة الوصول اليها وبساطة طرحها، غير آبه بمدى صحة المعلومات ودقتها وشموليتها، أو التيقن من صحة الحجج والبراهين، والتأكد كذلك من عدم اعتمادها على المغالطات، ناهيك عن أنه يفتقد القدرة أصلاً على التمييز بين زخرف القول، والبراهين المنطقية.

وفي إطار سعيه "الكسول" للمعرفة، فإنه يتعرّف من خلال هذه المصادر على مجموعة من المهتمين في هذا المجال والذين يفوقونه في المعرفة ولكنهم يعانون من حالة الوهم المعرفي (تأثير دانينغ-كروجر)، فيتأثر بأفكارهم ويأخذ عنهم دون تمحيص أو تحقيق، وينقل عنهم دون الرجوع الى مصادر أخرى، وهكذا بمجرد أن يقولوا قال فلان وورد في الكتاب الفلاني، صدّقهم ونقل عنهم لرغبته في اكتساب المعرفة السريعة السهلة.

ثم تحصل المفارقة، حين يقوم زيد -بالاعتماد على معرفته المكتسبة الركيكة- بمُعارضة نتائج أبحاث علمية ودراسات موثقة، ويقوم بالاستدلال على ذلك بمجموعة من المغالطات والحجج التي نقلها عن غير علم، وفي المقابل يقوم بنشر نظريات اقتصادية غير صحيحة مبنية على افتراضات خاطئة وغير منهجية.
وبحكم الثورة الرقمية التي نعيش، تصبح هذه النظريات والمعرفة (غير الحقيقية) متاحة للجميع، فيأتي شخص آخر (عمرو) والذي لا يمتلك أي أرضية معرفية في هذا المجال باستثناء الرغبة في ادعاء المعرفة، فينبهر بآراء زيد ويقتنع بها ثم يبدأ بنقلها ونشرها دون أن يعطي نفسه الفرصة للاطلاع على الآراء الأخرى أو البحث البسيط عن الحقيقة، ويصبح في النهاية من أشد المدافعين عنها!

وهنا تكتمل دائرة نقل الجهل بدلا من نقل المعرفة، وننتهي باكتساب الجهل بدلا من اكتساب المعرفة.

أسقِطوا اسم زيد على أدعياء الثقافة والمعرفة في عالمنا العربي، ممن يعشقون الظهور ويعانون من نرجسية مفرطة ويعيشون حالة الوهم المعرفي.
وبدلاً من حقل الاقتصاد، قارنوا ما قلناه بما يحدث في عالم السياسة والاعلام، أو التدبّر في القرآن، أو الأدب والشعر والفن وغيرها من المجالات، ثم حاولوا أن تتأملوا معي المساحات التي تُفرد في الاعلام (العربي والغربي) لهذه الفئة، والمنصّات التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي لتمرير مشاريعهم وأفكارهم السطحية التي تفتقر للمعرفة الحقيقية ولشروط التحقق العلمي والمنطقي، ثم انظروا إلى تأثير ذلك على أغلبية الأفراد من شاكلة (عمرو)!

في خضم هذا العالم السريالي الغريب، ومع انعدام وجود حافز للبحث العلمي والتدقيق والبحث وراء المعلومة، تصبح غالبية الجماهير بمثابة (مُتلقّين إيجابيين) لهذا الجهل الذي يتنكّر على هيئة المعرفة.

يقول المفكر الأمريكي كليفورد جيرتز (إن اعتقاد الفرد بأمر ما دون أدلة كافية هو أمر مُضرّ بالمجتمع كله، بل هو عدوى تنتشر في المجتمع. وإنه لمن الخطأ دوماً وفي أي مكان الاعتقاد بشيء دون براهين منطقية).

قديماً، كان الجهلُ سبباً في انتشار أفكار الايمان بالسحر والخرافة والشعوذة والرجم بالغيب والعلاقة السببية للأحداث بالمعجزات، واليوم جاء الجهلُ من باب ادعاء المعرفة والاعتقاد بأن ما نؤمن به هو الحقيقة الواضحة الساطعة، فانتشرت السذاجة والسطحية والشعبوية.

كلما كانت الفجوة المعرفية كبيرة في المجتمع، كلما زادت الفرصة في رواج الفكر غير المنطقي القائم على المغالطات وادعاء المعرفة، وكلما راجت أيضاً الحقائقُ غير العلمية وغير الدقيقة بسبب بهرجتها وغرابتها والتقدير الذاتي "الوهمي" الذي تتركه في النفوس.

في الختام أوجز القول بما يلي: كلما زادت رقعة المعلومات وتنوّعت مصادر الوصول اليها بحيث تصبح متاحة لجميع الأفراد على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم المعرفية، دون مراعاة أصول البحث العلمي لبناء المعرفة، ودون استخدام البراهين المنطقية لإثبات الحقائق، كلما زادت فرصة الحصول على معلومات غير موثقة وحقائق غير علمية وترويجها على حساب الحقائق العلمية والمعلومات الموثقة، وذلك لسببين، الأول هو الكسل في طلب المعرفة والميل للاعتماد على التلقّي والنقل. والثاني هو الانجذاب لكل ما هو جميل وبرّاق وخارج عن المألوف، دون النظر الى ميزان الصواب والخطأ أو الحق والباطل.

وكلما أتيح للمعرفة الزائفة الفرصة لرؤية الضوء، كلما انتشرت مثل العدوى بين فئات المجتمع، نظراً للرغبة البشرية الأساسية في حب التملّك (امتلاك المعلومة والتنظير بها بغض النظر عن صحتها) والاعتقاد اليقيني بأن هذه الملكيّة، تزيدُ من قيمة الفرد في المجتمع وتجعله محطّ اعجابِ وتقدير الآخرين. مما يؤدي في النهاية الى اكتساب الجهل ورواجه، مقابل انخفاض موازٍ في اكتساب المعرفة الحقيقية ورواجها، وضمور في التنمية الحقيقية.

هذه الحالة الوهمية من المعرفة والتي في حقيقتها اكتساب متزايد للجهل، أدّت كما هو واضح للعيان إلى تواري الأدباء والمفكرين الحقيقيين وقلة الاهتمام بهم لصالح مجموعة من أدعياء الثقافة ذوي الوصفات السريعة والجاهزة، وأصحاب الكاريزما الجذابة، كما أدّت إلى انتشار التطرّف والعصبية والطائفية، في ظل شبه غياب للنظريات المعرفية القادرة على تجديد الفكر والارتقاء بالحضارة الانسانية، وأدّت أيضاً إلى تواري الفنون الحقيقية عن الضوء، مقابل ازدهار الصخب والضجيج والاحتفاء بالسذاجة والسماجة.

باختصار لقد خدمت الثورةُ الرقميةُ "الرويبضة" على حساب المُفكّر والعالِم والأديب، فانقلبت الموازين، وضاعت الحكمة، وسقطت عروش الفكر أمام جحافل الجهل.  


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-7-2019