‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات اجتماعية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات اجتماعية. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

مُعضلةُ العالمِ الحرّ

 



 

 

أثناء الاحتجاجات الأخيرة والحراك الطلاّبي في الولايات المتحدة، قالت الكاتبة والصحفية الاستقصائية الشهيرة نعومي كلاين – الكندية من أصل يهودي - في كلمة ألقتها في نيويورك وسط الحشود المناهضة لحرب الإبادة في غزة ، أن اليهود في العصر الحديث عادوا لصنع صنمٍ جديد لهم على غرار العجل الذي عبده أجدادهم في عصر موسى، وهذا الصنم أو الطاغوت الجديد هو "الصهيونية".

 

نعومي كلاين هي ناشطة حقوقية معروفة، وهي صاحبة كتاب "عقيدة الصدمة" الذي وثّقت فيه جرائم الحرب الأمريكية-البريطانية على العراق مطلع هذا القرن، وربطته بالعقيدة العسكرية الأمريكية المتأصلة والقائمة على الصدمة والرعب، والتعذيب الممنهج، وانتهاك حقوق المدنيين والضرب بعرض الحائط بكل المواثيق الدولية والانسانية.

 

وقد ربطت بشكل موثق وبالأدلة بين جرائم الحرب السابقة التي ارتكبها الجيش الأمريكي – بما في ذلك انتهاك حقوق الأمريكان أنفسهم – وبين جرائم الحرب على العراق، بل واستشهدت بالكتيّبات العسكرية، والتدريبات التي يتم تنظيمها لتطبيق هذه "العقيدة"!!

 

ومن جهة أخرى، يقول د علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري": ( إن كل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المُترفون عليه بعد ذلك فيحولونه إلى أفيون وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها شعواء مرة أخرى)

بمعنى أن الدين عندما يبدأ يقوم بثورة تجديدية قائمة على تصحيح المفاهيم المغلوطة، وإعادة تنظيم المجتمع بما يضمن الحرية والعدالة والمساواة. ثم ما يلبث أن يدخل في مرحلة ركود، فيستولي عليه أصحاب السلطة والنفوذ (الأوليغارشية ) فيقوموا بحرفه وطمس روحانياته وجوهره، فيصبح عادةّ أكثر منه منهج حياة، ثم لا تلبث أن تختفي القيم الثورية وتتحول إلى أدوات سياسية هدفها السيطرة على الشعوب من خلال إدمانهم على الحركات ومظاهر العبادة، دون عمل مؤثر أو جاد.

 

ولا شك أن هذا صحيح ودقيق وثابت في تاريخ الانسانية، ولكن الأهم من ذلك أن هذه القاعدة تنطبق أيضاّ على باقي الثورات في العالم والحركات الفكرية.

فلنأخذ على سبيل المثال الشيوعية الاشتراكية التي جاءت لنصرة العمال والنضال من أجل نيل الانسان الكادح حقوقه المشروعة، فتحولت إلى نظام قمعي تعسفي لا يؤمن بالتعددية ولا بالحرية ولا بحقوق الانسان، وتم وصمه على مر التاريخ بأنه أكثر الأنظمة الحديثة قمعاً للشعوب ومناهضة للحريات، بل وتم تجسيده في الأدب العالمي بصورة "الأخ الأكبر" الذي أصبح رمزاً للطغاة على مر العصور.

 

وكنت قد كتبت من قبل عن مبادىء الثورة الفرنسية والتي قامت عليها فكرة "اللائكية – الدولة المدنيّة" في فرنسا وتوّجت بقانون عام 1905، الذي يشدّد على حق الفرد في الانتماء الى أي مجموعة يختارها في حين تبقى الدولة بلا دين رسمي وليس لها أن تفرض أي انتماء على المجتمع الأمر الذي سيقود إلى التعايش السلمي بين مختلف الديانات، ثم ما لبثت أن أصبحت هذه المبادىء، هي الشعار البرّاق للعالم الحرّ الجديد.

 

ولكن معضلة الحضارة الغربية "العالم الحر" أنها تحوّلت إلى "إنتماء" بحد ذاتها، أي أنها أصبحت ديناً جديداً غير خاضعٍ للعقل أو للمنطق ولا يقبل النقد، وبالتالي أصبحت هذه الدول اليوم (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) دول ديكتاتورية تفرض انتماءاتها على الأفراد، وهذه هي المفارقة الكبرى!!

 

وهذا تفسير ما قالته نعومي كلاين عن الدين الجديد "الصهيونية" الذي أصبح الإله الجديد الذي لا يسع العالم الحر عصيان أمره أو الدوران في فلكٍ غير فلكه، وهذا ما يتفق في المضمون والجوهر أيضاً مع ما قاله د علي الوردي عن الثورات الدينيّة التي تبدأ بفكرة ثورية صادقة وجميلة، ولكنها سرعان ما تتحول إلى كابوس إذا ما استأثرت عليها الأقلية المتنفذة.

 

لقد تحولت دول العالم الحر في القرن العشرين إلى دول استعمارية تُبرّر الاحتلال والقتل والتدمير بحجة نشر "المعرفة وقيم الحرية"، وتحوّلت اليوم إلى ديكتاتوريات عظمى تدعم جرائم اسرائيل في حق الفلسطينيين واستعمار أراضيهم وطردهم من بيوتهم، بحجة إرضاء الرب وتحقيق نبوءة الكتاب المقدّس، أي عالمٍ حرٍّ هذا؟!

 

لقد وصل الأمر إلى مناقضة كل المواثيق الدولية والقوانين والأعراف، وتهديد المؤسسات الحقوقية تهديدات مباشرة إذا قامت بدورها وأدّت المسؤوليات المنوطة بها، وإلى قمع حريات مواطني هذه الدول وطلاب الجامعات والهيئات التدريسية والعاملين في وسائل الاعلام.

 

هذه المعضلة التي وقعت فيها دول العالم الحر، ورغم مساوئها إلا أنها قد أدّت إلى خسارتها لعامل جوهري ومؤثر غفلت عنه، لقد خسرت ثقة الجماهير بها وبمبادئها التي أدّعت أنها قامت من أجل تحقيقها، وبالأخص الجيل زد Z Generation  وهذه الخسارة برأيي ستكون المسمار الأخير في نعش العالم الحر الجديد، وستؤدي إلى ثورة تصحيحية داخلية، تقضي على كل الأقليات الحاكمة، والطغمة السياسية التي تتلاعب بالشعوب، وستؤدي بالتالي إلى تغيير وجه العالم بعد سقوط الصهيونية العالمية.

 

هل لعاقلٍ أن يتصور أن الدولة العظمى في هذا العالم الحر المزعوم يحكمها رجل مُسنٍ، تتحكم في قراراته وتصرفاته مؤسسات الصهيونية العالمية، فيجازف بسلامة مواطنيه واستقرار أمنه، ووضعه الاقتصادي، بل ويضع على المحك كل مبادىء الحريات في سبيل دعم دولة مارقة خارجة عن القانون تفصله عنها قارات العالم!

والأنكى من ذلك أن من ينافسه على الرئاسة هو فاسدٌ آخر ، لا يؤمن أصلا بمبادىء الحرية والعدالة والمساواة!!

 

ومن خلف هذه الدولة، تأتي فرنسا بلد الحريات، التي تحولت إلى دولة تعتنق دين "الإلحاد" فتقمع الأديان، وتجبر الطالبات على خلع الحجاب، وتمجّد الصحفيين الذين يسيئون للأنبياء وللأديان، وتشرعن المثليّة الجنسية، وتُملي تعليمات طاغوتها الجديد على شعبها بل وتريد أن تفرضه على العالم أجمع، بحجّة صون الحريات!! هل هناك كوميديا سوداء في هذا العالم أكثر من هذا!!

 

ولكن، وبرغم سوداوية المشهد، وتناقضاته العبثية، ومفارقاته المؤلمة، إلا أني أنظر بعين من التفاؤل إلى المستقبل القريب، وإلى هذا الجيل الجديد، الذي خرج من عباءة أنظمته الفاسدة، وأعلن كفره بكل هذه التناقضات السافرة، وقام بحمل راية الثورة من جديد، لإعادة تصحيح المفاهيم، وترسيخ مبادىء الثورة الأساسية، وإني أدعو كل حرٍّ ، وكل حرّةٍ، للوقوف مع الحق في هذه الفتنة التي يقف فيها القانون والشرطي في صف الغاصب، وتسخّر وسائل الاعلام كل أسلحتها لتشويه الحقائق، فيما تقف الانسانية عاجزة عن اتخاذ أي موقف داعم وحقيقي لنصرة المظلوم، فإن الاصطفاف مع الحق ولو بكلمة أو بنشر صورة، أو إعلان موقف، أو الخروج في مظاهرة لهو فعل مؤثر رغم بساطته، أو ضآلة حجمه.

 

((وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ))

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-5-2024

الجمعة، 20 أغسطس 2021

مقاهي الفلاسفة والديكتاتوريون الجُدد


 من المعضلات الأخلاقية التي فرضتها علينا الحياة البشرية، منذ عهد قابيل وهابيل، هي الخيار بين المواقف الصداميّة التي تقود إلى العنف، وكل أشكال التطرّف والانقسام، وبين أن تكوّن ليّنا ديبلوماسيّاً، وتختار التعايش والسلام.

وفي خضم صراعات كثيرة ومريرة طويلة مرّت علي في حياتي الشخصية والعمليّة، كنت دائماً ما أجد نفسي بين هذين الخيارين، أن تكون حليماً ليّناً أو أن تثأر لرغباتك الأساسية وتكون صدامياً نزقاً. وباستثناء حالات نادرة ومعدودة كنت أختار ان أكون هابيل.

وهذه المعضلة، عادة ما يتبعها تقييم متأخر بعد شهور أو سنوات، أو لعله يتأخر إلى مرحلة الحكمة الأربعينيّة، إلا أن الملاحظ أنني كلما مارست ذلك التقييم وسألت نفسي إن كنت قد ندمت على ما فعلته من لين وتغاضٍ، أو إن كنت قد ندمت على ما لم أفعله من حسم وتصعيد، كانت النتيجة دوماً ما تميل إلى رضاي التام عن اتخاذي سبيل اللين والسلاسة.

 

ترشدنا الفلسفة أيضاً، إلى ضرورة أن يتحكم الفرد بمشاعره السلبية؛ الخوف والغضب والكره والبغض، والانحياز والتكبّر....الخ. فإذا أفلح في ذلك كان هو هو، وبات المسيطر على تصرفاته وسماته الشخصية، وإن فشل ولو جزئيا فقد السيطرة على ذاته وبات رهينة لتلك المشاعر التي تسوقه دون عناء!

 

أما في علم النفس، فإن الانسان مسؤول عن تصرفاته في الأساس، وعن شخصيته "الواعية"، ولكن الانسان مسؤول أيضاً بشكل أو بآخر، عن أفكاره اللاواعية، أي عن مشاعره السلبية التي يكتمها، فإن فشل في كتمها وظهرت للعلن، فهي مسؤوليته وحده، ولن يُقبل منه أن يلومنّ أحدا!

 

كان لا بد من هذه المقدمة، كي أدخل في صلب الموضوع، وهو ما بات لافتاً في السنوات الأخيرة من سجال وخصام، واستقطاب غير مسبوق، في عالمنا العربي، وعلى كافة الأصعدة، وكأنه داء معدٍ لا سبيل لوقف زحفه، ولا حتى بالمطاعيم المحسنة!

 

في تونس، إنقلابٌ على الديمقراطية، وأجراسٌ تقرع منذرة بانتكاسة أخرى لكل ما اكتسبه الشارع التونسي في ثورته ضد الديكتاتورية، تماهياً مع ما حصل في بلدان أخرى، ومع ذلك ترى النشطاء والمثقفين الذين كانوا يمجدون الديمقراطية واحترام الرأي والرأي الآخر، يرقصون في الشوارع والميادين وعلى أسطح العالم الافتراضي احتفاءّ بالثورة ضد الديمقراطية والحرية!

وما هذا إلا نكايةً بالآخر، واستشفاءّ به!

 

وفي مصر، محاكمات واقصاء وتكفير لجماعة معينة، ذنبها أنها وصلت للحكم من خلال الصناديق، وتلك جريمة لا تغتفر، فباتت هي الشمّاعة لكل فشل، والمعوّق للتقدم والتطور وتحقيق العدالة والديمقراطية!

ومع ذلك ترى الثورجيين والأحرار سعداء، يدقّون الكؤوس على مذبحة التعددية والحوار والوفاق الوطني!

 

أما عن اليسار التائه، فحدّث ولا حرج، فكل ما يمت بصلة للتيار الديني فهو رجعي متخلّف يريد أن يعيدنا إلى عصور الجهل والظلام، وهو تبسيط لا يقع فيه إلا جاهل أو متحامل. وما هذا سوى تعبير عن مواقف بائدة عفا عنها الزمن ما زلنا نلوكها ونستمرىء اجترارها!

 

وفي سوريا، إما أن تؤمّن على بركات الرئيس والصورة المقزّمة للتعددية وتلك المسرحية الساخرة التي تُعرض على شاشات التلفزيون ليل نهار، وإما أن تكون عدوّا للوطنية والقوميّة، مأجوراً أو أفاقاً.

وفي سبيل الوقوف ضد الامبريالية، لا بأس من الخوض في مستنقعات الدم، ودهس جماجم الأطفال، وحرق جثث المعارضين الفائضة عن مساحة السجون، وسط تهليلات المُناصرين الوطنيين!

 

هناك فرق كبير بين الاختلاف والحوار، وبين الاقصاء والصدام. ما يحصل اليوم هو نتيجة لكل مشاعرنا السلبية الدفينة فينا من سنوات خلت، هي نتاج لعقلنا اللاواعي، الذي نرفض مواجهته، ونرفض كذلك تحمّل مسؤولياتنا في السيطرة عليه، أو على الأقل تهذيبه، وبدلاً من ذلك نقوم بتحميل ذنب مشاعرنا السلبية تلك للطرف الأخر، فنتهمه بالاقصاء والتشدّد والنفاق والخداع واستغلال السلطة...الخ المسلسل الطويل، بينما في الحقيقة نحن الذين ننقض كل مفاهيم التعددية والديمقراطية ونرفض الحوار، ونتشدد في أحكامنا، ونطلق التعميمات، ونعقد المقارنات، دون أن نأخذ دقيقة واحدة لمراجعة أفكارنا أو التروّي بالحكم، أو ان نعدّ إلى العشرة قبل أن نطلق الرصاص!

 

لم يعد مقبولاً أن نرى طبقة الناشطين والمؤثرين والمثقفين في مجتمعاتنا يمارسون لغة الردح والمماحكة بدلاُ من الوقوف معاُ ضد الظلم والفساد. ولم يعد من المستساغ تبرير الديكتاتورية والقمع وسوء استغلال السلطة، لأن المتضرر هو خصمنا في السياسة.

 

معركتنا نحو الحرية وتحقيق مبادىء العدالة واحترام حقوق الانسان، هي غاية وليست وسيلة لاظهار الذات وتسجيل الانتصارات. وطريقنا طويلة، بل إنها ستطول إلى الأبد إذا ما بقينا نركّز على معاركنا الجانبية بدلاً من التركيز على الهدف!

 

من أساسيات الحضارة والرقي الفكري أن تُبنى ثقافة الانسان على اكتساب العلم والمعرفة، ثم البحث والتقصّي عن الوقائع والحقائق بالمنطق والجدل الفكري، دون التخلّي عن الأخلاق والمحافظة على المثل العليا والقيم الانسانية، وصولاً إلى الحكمة والفلسفة وامتلاك الفكر النقدي البناء. ولعلّي أقول جازماً أن عصر الثورة الالكترونية التي نعيش، وقفزة "مقاهي الفلاسفة الافتراضية" جعلتنا نبني ثورتنا الفكرية بالمقلوب، فجعلت منا رُعاعاً في زمن غابر، إذ لا يكفي أن نتناقش على طاولة في مقهى كي نصبح فلاسفة!

 

قالها من قبل بنجامين فرانكلين Either we hang together or we will hang alone إما أن نتعايش معاً او نُشنق فرادى!. واليوم لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تتمخض أحوالنا المُترعة بالشقاق وإعلاء الذات، سوى إلى الغرق في دوامة الأنظمة السلطوية والديكتاتوريين الجدد!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

17-8-2021

الخميس، 2 يوليو 2020

لم يعد وجودُكَ يُربكني!




في الثقافة الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore) للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.

لا يتحرّج الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.

مشكلتنا في الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية، ونتصرف بناء على حالتنا تلك.

على سبيل المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.

أما حين تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من الحب المفرط إلى الكره والبغض.

ولا ندرك أننا وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.

وعلى نفس المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو العداء!.

إن عدم قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه، أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.

وهكذا يتحول الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية مزمنة لا خلاص منها.

كم أتمنى أن نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم، فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.

نشرت إحدى الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي: " لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"

هذا التعليق بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً، كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!

لم أجد أبلغ من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.

أحلم ذات يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!    

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020

الثلاثاء، 7 أبريل 2020

تأملات في زمن الحجر الصحيّ!


مما تعلمته من فن الإدارة، تقُبّل الواقع وصعوباته والتعامل مع التحدّيات على أنها فرصة وليست معضلة. في البداية كنت أعتقد أن هذا الطرح نظريٌ ولا يعدو كونه تنسيق لفظي بعيد عن الواقع، على شاكلة ما نقرأه من عناوين استهلاكية وكلاشيهات بالية!

ولكن الحقيقة أنه ومن خلال الممارسة العملية، اكتشفت أن الإداري الناجح هو من يخلق من كل أزمة أو عائق تحدياً جديداً، يهدف إلى تطوير الذات، والكشف عن القدرات الكامنة، وخلق فرص للإبداع، مما يعود في النهاية بالفائدة الايجابية على المستويين الشخصي والجماعي.

ومع مرور الوقت وتوالي اكتساب الخبرات، ينتقل الفرد من مرحلة الرهبة والخوف من التحديات، إلى استقبال التحديات الجديدة بصدر رحب، واضعاً نصب عينيه الفائدة المرجوة التي سيتم تحقيقها بعد انقشاع تلك الغمامة.

أقول هذا ونحن في وسط معمعة أزمة كورونا، وتداعيات العزل الاجتماعي، وما رافقها من حالة يمكن وصفها بالركود والبيات الشتوي القسري.

هذه الأزمة استدعت في النفوس حالة من الكآبة والقلق في البداية، وسط مخاوف من انهيار اقتصاديات العالم وتفكك منظومة الأمن والأمان في المجتمعات أو تفشي حالة الفلتان والفوضى.

ولكن هذا كله سرعان ما تحوّل إلى حالة إيجابية من التضامن والتكافل الاجتماعي، بل وتزايد التعاطف بين طبقات المجتمع المختلفة في عالمنا العربي، وتعاظم الشعور بالانتماء والمواطنة. تعلمنا الكثير من خلال هذه الأزمة، واكتشفنا الكثير عن أنفسنا وعائلاتنا، تعلمنا أن الحياة البسيطة التي كنا نتذمر منها، كانت حياة أشبه بالمثالية ولكن النفس البشرية بطبعها توّاقة للتغيير والتجديد، وتطمع بالمزيد دوماً!.

لقد تعاملنا مع الحياة على أنها مضمونة، وأن الرفاهية التي نعيش هي حق من حقوقنا لا ينازعنا عليها أحد أو سلطة، ثم اكتشفنا ان الحرية الشخصية هي جزء من حرية المجتمع ككل، وأننا نعيش جميعاً على متن قارب صغير، إذا نقر أحدهم في قاع القارب في الصين، تأثر به من يقبع في أعلى جبال الهملايا!

أخذتنا الحياة وشغلنا العمل عن أهم عنصر في حياتنا، ذواتنا وعائلاتنا، لم نعد نعبىء بتخصيص الوقت لأنفسنا لممارسة هواياتنا وإشباع رغباتنا في الفنون والأدب والنشاطات الفكرية والثقافية والرياضية ولا حتى الاجتماعية، وها نحن اليوم، نعيد اكتشاف ذواتنا ونجد الوقت الكافي لتهذيب أنفسنا وضبط بوصلاتنا الروحية من جديد.

لقد فقدنا الجودة والمتعة في الأوقات التي كنا نمضيها في المنزل، وكنا نتعامل معها كأنها روتين يومي، ثم ما لبثنا أن اكتشفنا أن أجمل الأوقات وأجودها، تلك اللحظات التي نعيشها بكل براءة مع أطفالنا وصغارنا وعائلاتنا الصغيرة، ولكننا من حيث ندري أو لا ندري، كنا نهملها في خضم معاركنا اليومية، وها نحن اليوم نتساءل كيف لنا بعد اليوم أن نغفل عن جوهر وجودنا وحياتنا!

كنا نعيش في فوضى مليئة بأزمات مرور خانقة وانكباب على الأسواق، وضغط على المرافق الحيوية، بحيث كانت تعمى أبصارنا عن التفكير في الغير، وفي البيئة، وفي الظروف الصحية، وفي الأراض الخضراء، والخدمات الاجتماعية وغيرها من قضايا المجتمع، واليوم نعيد اكتشاف كل هذه القضايا ونرى أنفسنا قادرين على استيعاب القضايا العامة وقضايا البيئة المجتمع، بعيداً عن منظارنا الاستهلاكي الأعور الأحادي، وبعيدا عن "الايجو" الخاصة بنا.

  لقد دفعتنا الأزمة الحالية إلى الايمان بأن معيار الأداء في الأعمال هو الانجاز وليس الحضور والغياب أو العمل المكتبي، واكتشفنا أنه بالامكان الاعتماد على نموذج مرن يمزج بين العمل عن بعد والعمل المكتبي مع إعطاء الحرية للعاملين في الابداع واختيار البيئة المناسبة للعمل، طالما أن المعيار واحد وهو "الانجاز".

أما في مجال التعليم، فرغم أن معظم بلادنا العربية لا تعترف بالتعليم عن بعد أو التعليم الالكتروني "أون لاين" إلا أن الواقع اليوم فرض علينا أنه لا غنى عن هذه القنوات التعليمية، ليس فقط لمساعدة العاملين والملتزمين بدوامهم للحصول على الشهادات العليا ولكن لطلبة المدارس كذلك. وقد جعلنا هذا الواقع نجد حلولاً عملية ستفيدنا في المستقبل للتغلب على مصاعب عدة منها الظروف الجوية القاسية، أزمة المواصلات، توفير وسائل التعليم للمناطق النائية والفقيرة، بل والتخفيف من وطأة الصيام في شهر رمضان في أوقات الحر أو البرد الشديد.

لقد أعادت الأزمة الاعتبار للعلماء والأطباء ورجال الأمن وللمفكرين والمؤثرين، وأقصد المؤثرين الحقيقيين وليس مشهوري "السناب". لقد أصبح المجتمع أكثر إيماناً من ذي قبل بأن هذه الفئات هي من تتحمل العبء  في اوقات النوازل والشدائد وأنها خطوط حمراء تقع علينا جميعا مسؤولية حمايتها من تمكّن الفساد منها أو تطويعها لأي سلطة كانت، فهي خط الدفاع الأخير لمجتمعاتنا.

قيل من قبل، إن الشدائد تكشف المعدن الحقيقي للبشر، واليوم بوسعنا أن نقول إن الشدائد تظهر الوجه الحقيقي للمسؤولين والحكومات أيضاَ، بل إنها تظهر الوجه الحقيقي للمجتمعات وتبيّن مدى تحضّرها ورقيّها الثقافي.

في كتاب اثنتا عشرة قاعدة للحياة يقول عالم النفس جوردان بيترسون "إن الحياة مليئة بالأحداث السعيدة والأحزان على السواء، عليك أن تتقبل الحياة كما هي وعندما تدرك ذلك وتتقبله، تستطيع حينها أن تعطي القيمة الملائمة والمناسبة لكل لحظة سعادة تمر بها ولو كانت ضئيلة، وسوف تحتفي بتلك اللحظات وتقدّرها على حقيقتها". هناك العديد من النعم التي منحنا إياها الله، والعديد من لحظات السعادة والانجازات التي حققناها، والظروف الجيدة التي توافرت لنا دون أن نعطيها حقها أو نقدّرها، لقد أعطتنا هذه الأزمة الفرصة لمراجعة حياتنا والنظر إليها بشكل مختلف، ومن ثم إعادة تقديرها بالشكل الملائم.

اليوم ندرك أكثر من أي يوم آخر، معاناة الشعوب الواقعة تحت وطاة الحروب في المنطقة، ندرك اليوم معنى "حصار غزة" كما لم ندركه من قبل! 

هناك نظرية فلسفية تقول إنه لا يكفي أن تطرح الأسئلة كي تصل إلى المنشود، بل عليك أن تضيف إلى هذه الأسئلة بُعداً فلسفياً يدفع المرء إلى التأمل والتفكّر والسمو، وبهذا ستتمكن من سبر أغوار النفوس والدفع بها إلى حياة أفضل. وإذا جاز لي أن أضيف إلى هذه النظرية جزئية صغيرة، فإني أقول: إن الشدائد تجعل من بصيرة البشر أكثر حدّة وعمقا بل وتضيف إليها كذلك بٌعداُ فلسفياً يجعلها تتجاوز السطح وتدلف الى أعماق الحقيقة.

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

6-4-2020

الأربعاء، 25 مارس 2020

رسائل في زمن كورونا!

المكان: إحدى العواصم العربية
الزمان: عام كورونا
استيقظت "ندى" بروحٍ متعبة، متثاقلةً ومتكدّرة، ولبضع ثوانٍ كانت تحاول تذكّر إذا ما كانت تعاني من كابوس أو حلمٍ ثقيل، ولكنها سرعان ما استدركت أن حالة الانزعاج والملل والكآبة، قد لازمتها منذ أن اجتاح "كابوس" فيروس كورونا المنطقة وأجبر السكان على التزام بيوتهم، والانعزال عن المجتمع.
أعدّت فنجان قهوة ورشفته على معدتها الخاوية، رغم معرفتها بالضرر الذي يحدثه ذلك على صحتها، وأتبعته بسيجارة، وبينما كانت تنفث الدخان بقوّة، كأنها تحاول التخلص من الطاقة السلبية في داخلها وطردها بعيداً عنها، كانت تسترق النظر من شرفتها إلى ناصية الشارع الخالية من المارة سوى من حركة خجولة وقلقة.
وضعت كرّاستها أمامها واستلّت قلمها، ثم كتبت على رأس الصفحة (رسائل في زمن كورونا)، ثم بدأت باسترجاع أحاديثها في الفترة الماضية مع ثلّة من المعارف والأصدقاء، كانت قد تناقشت معهم حول الظروف الانسانية والمعاناة التي يعيشونها في "زمن كورونا" أملاً منها بأن يعود قلمها الصحفي إلى الكتابة من جديد، بعد أن دخل هو الآخر كما يبدو في حجر صحي!
كتبت عن صديقتها "رنا"، ومدى تأثرها باغلاق دور العبادة وخلو الكعبة من الطائفين، وكيف أن صلاة الجمعة تحظر لأول مرة في العالم الاسلامي، وأن هذا كله يدعونا إلى إعادة التفكير بعلاقتنا مع الله، والتأمل في ضعف البشرية وصغارها أمام جند الله. ثم أنهت تلك الفقرة بالاقتباس الذي قالته رنا وصوتها يتهدج (إن لم يكن لك علي غضبٌ فلا أبالي).
     ثم كتبت عن صديقها المرح "ثامر" الذي يعاني من الملل بعد إغلاق المقاهي والمطاعم ودور السينما، والنوادي الرياضية، وتذكّرت سخريته وروح الفكاهة التي مزجها في تعليقاته على الوضع العام، وخلو المجتمع من المتعة في ظل قائمة الممنوعات الطويلة، وكيف شبّه حال المجتمع بالتصحّر والجفاف العاطفي، وكيف أنه يفتقد للذة الحياة ويعاني من العزلة، خصوصاً مع توقف جميع الأنشطة الرياضية والبث التلفزيوني لها.
ثم ختمت تلك الفقرة: (في صباح يوم كورونيّ، رنّ جرس المنبه عند ثامر يذكّره ببدء عرض فيلم "جيمس بوند" الجديد في صالات السينما، ويذكّره أيضاً بمباراة فريقه المفضل (برشلونة) في دوري الأبطال مساء ذلك اليوم، ولكنه سرعان ما استرجع شريط الأحداث وتدارك، أن فيروس كورونا قد تسبّب بتأجيل عرض فيلم جيمس بوند الى الخريف القادم، ناهيك عن إغلاق دور السينما وتوقف جميع الأنشطة الرياضية، وبحركة عصبية دخل ثامر إلى إعدادات هاتفه الذكي وقام بالغاء كل الاشعارات والتنبيهات مردّدا عبارته الساخرة من الأحداث (جنون كورونا، إذا جنّ ربعك، عقلك ما يفيدك!)).
كتبت ندى أيضاً، عن زوجها "طارق" رجل الأعمال، الذي يلخّص لها يومياً عبر سكايب آخر أخبار الاقتصاد وموجة الكساد التي تهدد العالم. يتحدث عن تدهور أسعار الذهب والبورصات، وتضرر أعمال مؤسسته، وعن التحديات الجديدة التي قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي جديد، وبطالة قد تطال ملايين البشر حول العالم.
ينتقد طارق انكباب المواطنين على شراء وتخزين السلع الاستهلاكية، وعدم اكتراثهم للاجراءات التي اتخذتها الحكومات المختلفة والتي من شأنها التقليل من النتائج السلبية لفيروس كورونا، وقبل أن ينهي مكالمتة المسائية يقول (في أوروبا والدول المتقدمة يرفعون من شأن العقل والعلم، ونحن لا نفكر سوى في بطوننا!)
من على شرفة منزلها رأت ندى جارها العبوس المتزمت "أبا جلال" وهو يلبس الكمّامة الطبية ويضع القفازات على يديه ويتحدث إلى حارس العمارة. كان أبو جلال يقرّع الحارس المسكين لعدم ارتدائه القفازات والكمّامة الطبية أثناء غسيل السيارة، ويلومه أيضاَ على عدم استخدام الديتول لتعقيم السيارة من الداخل كما أمره من قبل، وعندما ذكّره الحارس بدنو موعد الأجرة الشهرية، تعالى صوت أبي جلال مستنكراً استمرار تداول العملات الورقية رغم ثبوت نقلها للفيروسات، ومطالباً إياه بضرورة فتح حساب بنكي لكي يتم تحويل الأجرة إلكترونياً. أعطى أبو جلال ظهره للحارس وأطلق كلمته المشهورة "تخلّف!".
قلبت ندى الصفحة وبدأت بالكتابة عن الجار أبي جلال، ذلك الذي لا ينفك عن إرسال رسائل الواتس اليومية إلى جروب سكان العمارة والتي تتمحور حول أعداد المصابين بفيروس كورونا، وآخر الطرق المستحدثة للتعقيم والمحافظة على النظافة الشخصية والمقتنيات.
أبو جلال المولع بنظرية المؤامرات والقوى الخفية، كان قد تحدّث عن مؤامرة غربية لنشر الفيروس في الصين من أجل القضاء على قوّتها الاقتصادية، ثم انتقل بعد أشهر للحديث عن مؤامرة صينية للاستيلاء على الأسواق العالمية، وانتهى به المطاف مؤخراً إلى الحديث عن مؤامرة ماسونية من أجل تخفيض أعداد البشر والمحافظة على الموارد الطبيعية للأرض.
المُدهش أنه في كل مرة يبدو واثقاً ومقتنعاً بكل نسخة من نظريات المؤامرة تلك!
توقفت ندى عن الكتابة بعد أن سمعت جلبة في الشارع، وانتبهت إلى صوت حارس العمارة "إبراهيم" وهو يعلو، توجّهت بنظرها إلى الشارع، وإذا بأبي جلال يترنّح واضعاً يده على صدره ثم ما لبث أن سقط على الأرض مغشياً عليه. تسمّر إبراهيم مكانه، وأيقنت ندى أنه لن يجرؤ على الاقتراب من أبي جلال أو محاولة مساعدته، أمسكت ندى بهاتفها الجوّال وبتوتر شديد بدأت بالضغط على الأرقام 998، ولكن يا للدهشة انتفض إبراهيم وكأنه أفاق من كابوس مرعب وانكب على الأرض بجانب أبي جلال، رفع عنه الكمّامة وعدّل من وضعية رأسه، وبطريقة متقنة بدأ بعمل تنفس اصطناعي له، تارة بالضغط على صدره وتارة بنفخ الهواء في فمه.
ومن هول المفاجأة، تركت ندى الهاتف ينساب من يديها وبقي صوت عامل المقسم يردد (الدفاع المدني-كيف يمكنني المساعدة؟)
في تلك اللحظات كان أبوجلال على شفا المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة، تلك اللحظات التي ينكشف فيها الغطاء عن بصيرة الانسان وفؤاده، رأى أبو جلال فيما يشبه ما يراه النائم نفسه في نهر على متن قارب متهالك على وشك الغرق، وعلى الضفة المجاورة تجمهر كل الناس الذين رآهم في حياته، كانوا يحاولون مد يد المساعدة والعون له، كانوا يبتسمون في وجهه كي لا يهلع من الخوف، ولكنه ويا للمفارقة كان خائفاً منهم وليس من الغرق!، كان يذوي بنفسه عنهم، ويلعنهم في داخله. وفي خضم ذلك ارتطم القارب بصخرة فانقلب، وانزلق به إلى داخل النهر، فأخذ يلطم الماء بيديه ويركله برجليه، في صراع من أجل البقاء، وفي وسط ذلك الصراع ظهر له وجه إبراهيم من على سطح الماء، مادّاً له يده، وهنا لم يتردد أبو جلال بالامساك بها حيث سحبه من النهر ورمى به إلى الضفة الأخرى، بدأ أبو جلال بالسعال ومحاولة استنشاق الهواء بعمق وبدأ يرتجف وكأنه عصفور مبلول، وفي تلك اللحظة بالذات عادت الروح إلى جسد أبي جلال، ورأى نفسه مُلقياً على الأسفلت بجانب سيارته، وإبراهيم الحارس يضغط على صدره. سعل أبو جلال مجدداً ونظر يميناً ويساراً ثم بحركة لا إرادية رفع رأسه ومد يديه ببطء شديد نحو إبراهيم، الذي ارتعدت فرائصه وكأن الطير على رأسه، عانقه بشدة ورمى برأسه على صدره، ثم بكى، بكى بحرقة، ضغط على إبراهيم بكلتا يديه وكأنه يعتصره، وبقي يبكي، يبكي بحرقة، وضع إبراهيم يديه على رأس أبي جلال واحتضنه، ثم بكى هو الآخر!.
من على شرفتها، سرت القشعريرة في جسد ندى، كانت ترتجف وتبكي بحرقة هي الأخرى، جلست القرفصاء، وضمّت رجليها إلى صدرها وألقت رأسها على ركبتيها ودخلت في موجة بكاء جديدة، ثم رفعت رأسها قليلا فوجدت الأوراق وقد تبعثرت على الأرض، أمسكت بإحداها والتقطت القلم، وكتبت: (رسائل حب في زمن كورونا!)
  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
24-3-20

الأربعاء، 19 فبراير 2020

المنفيّونُ في الأرض




إن مأساة الاغتراب عن الوطن دائماً ما تكون مُضاعفة، فهي لا تقتصر على اضطرار المغترب أو المنفي للعيش خارج وطنه، بل تتجاوزها إلى اضطراره أيضاً للعيش مع ذكرياته واجترار كل ما يذكّره بأنه منفيٌ عن الوطن رغم أن هذا الوطن ليس ببعيدٍ عنه. فهو يعيش في عالمين لا يرى في أيٍ منهما عالماً حقيقيا؛ عالمه المفروض عليه بعيداً عن الوطن، وفيه لا ينال سوى التأكيد الدائم على شعور الغربة، مهما ارتقت به الأسباب ونال من الرفاهية وطيب المقام، وعالمٌ آخر يرى ذاته بعيداً عنه، وكأنه طيف حلم صيفيٍ بعيد، يعيش يومه وهو يستنشق هواءه ويدرّب نفسه على التماهي معه، والبقاء على صلة معه، على وعد اللقاء الذي قد لا يتحقق!

يعيشُ المنفي إذاً في عالم أشبه بالبرزخ، فهو عاجزٌ عن الانصهار الكامل في عالمه الجديد، وعاجزٌ كذلك عن التحرّر من عالمه القديم.وهو بذلك يعيش حالة انفصام حقيقية، مليئة بالتناقضات، بين شعوره بالحنين إلى الوطن وما يرتبط به من ذكريات الطفولة ولقاء الأحبة، وبين سعيه الحثيث على إتقان فن البقاء ومحاكاة من يعيش معهم، وحرصه الدائم على تجنب خطر الشعور بأنه منبوذ، وفي نهاية المطاف يتعزز شعوره الداخلي بالعزلة، وإحساسه الدفين بأنه منفيٌ!
والأدهى والأمر، انه سيشعر بالذنب، كلما حقق درجة نجاح معقولة في مسعاه للشعور بالراحة و الأمان في منفاه!
وسرعان ما يجد المغترب عن الوطن او المنفي عنه طوعاً أو قصراً، نفسه في صراع فكري من نوع خاص، فهو يأتي محملاً بأفكار الوطن ومعتقداته، ثم لا يلبث أن يصطدم بواقع جديد تختلف فيه الرؤية وتتقاطع معه الأفكار، وهو ما يجعله في حالة من المراجعة الذاتية لأفكاره ومخزونه الثقافي، ونتيجة لذلك تجده دائم العمل على تهذيب تلك الأفكار، وتقليم أطرافها أو حتى نزعها وإستبدالها بأفكار جديدة، وهو ما يدفعه في النهاية للتورط في مأزق جديد، إذ لا يعود ذات الشخص الذي غادر وطنه ذات يوم، كما أنه لن يصبح في يوم من الأيام مماثلاً لنظرائه في المجتمع الجديد!

ونتيجة ذلك كله، فإن المنفيين في الأرض يتشاركون في غبطتهم أبناء وطنهم الذين لم يغادروه ولم يضطروا لخوض تلك التجربة المركبة من الصراعات الفكرية والاجتماعية والانسانية، ولعل أكثر ما يغبطونهم عليه هو عدم اضطرارهم لترك أهلهم وأحبتهم ومغادرة مكان صباهم.

ولكن الشعور بالنفي عن الوطن او الاغتراب، لا يقتصر على اولئك المغتربين أو المنفيين جسدياً عن الوطن، فحالة الاغتراب هي حالة وجدانية قد تصيب المواطن العادي الذي يعيش حالة من الاضطراب الداخلي والانفصال عن المجتمع الذي يعيش فيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن الوطن الذي يعيش فيه بات يتنكّر لكل ما كان يؤمن به ويمثله من قيم انسانية ومثل عليا، وأن هذا الوطن قد اصبح عاقاً لأبنائه ومخيبا لآمالهم، على نحوٍ غير متوقع البتة!

ولا أبوح سراً إن قلت إن معظم أبناء عالمنا العربي يتملكهم ذات الشعور بالنفي والاغتراب عن الوطن وهم داخل أوطانهم، فتراهم يعبّرون عن ذلك، بمحاولة استرجاع ذكريات الماضي والحديث عن الزمن الجميل وذكريات الطفولة وما هذا إلا تعبير عن عدم انسجامهم مع هذا العصر، أو المجتمع الجديد الذي تفاجأوا به ورفضهم الداخلي له، مما يدفعهم الى الانزواء رويداً رويداً إلى ذواتهم والعودة بها إلى ذكريات الماضي والطفولة، أو بمعنى أدق، الاحتماء بها من تناقضات هذا العصر.

ولا شك ان هذه الحالة، تدفعنا للحديث عن دور المثقف وعلاقته مع السلطة، سواء كانت سلطة سياسية أو دينية أو حتى اجتماعية، فعلاقة المثقف والمفكر غالباً ما تكون علاقة شائكة مع طبقة المتنفذين والسياسيين، سرعان ما تتطور لكي تصبح علاقة تضارب واشتباك، بحيث تنتهي بتهميش دور المثقفين والمفكرين، ونبذهم كي يتحولوا بدورهم إلى منفيين يعيشون على هامش المجتمع، وهو ما يضعهم أمام خيارين أحلاهما مر، إما الاستمرار في العيش على هامش الحياة أو الهجرة والنفي عن الوطن.

إن حالة المثقف أو المفكر "الحقيقي" هي حالة اغتراب مستمرة، فهو في حالة اشتباك دائم مع أفكار السلطة مهما كان شكلها، وهو أيضاً في حالة من المراجعة النقدية المستمرة لأفكار المجتمع، تجعله بشكل من الأشكال إنساناً هامشياً مُستبعداً عن حسبة المناصب وصالونات النخبة الحاكمة، بل ومسثنىً من قائمة الوظائف وسبل العيش الرغيد، وهو ما يجعله بشكل او بآخر منفياً عن الوطن ومنبوذاً من السلطة.
ولعل هذا ما يدفع المثقف إلى تعزيز دوره القائم على الاستكشاف والترحال الفكري ومحاولة مد جسور التعاون مع مختلف الثقافات والشعوب بناء على القيم الانسانية المشتركة ودون أي اعتبار للمعتقدات والمذاهب والجنسيات، محققاً بذلك عن قصد أو غير قصد، دور المثقف الأساسي في إفادة البشرية والاهتمام بالشان الإنساني العام.

إن صنوف المنفيين في الأرض، عديدة وكثيرة، فهي تضم أؤلئك الذين غادروا أوطانهم لكي يجعلوا من العالم مكاناً أفضل لأبنائهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك شظف العيش وقسوة الغربة، والبعد عن شمس أوطانهم ودفء أحضان الأهل والأحبة.
وتضم أيضاً أؤلئك الذين حملوا على أكتافهم، مسؤولية الاشتباك مع السلطة ومعارضة طغيانها، ومسؤولية نقد المجتمع ومعارضة اختلالاته، وتحملوا في سبيل ذلك الاغتراب في الوطن، أو النفي عنه.
وهم كذلك طبقة المسحوقين والمواطنين البسطاء الذين يعيشون على هامش الوطن، ويتملّقهم كل فاسد ووصولي، ولكنهم رغم ذلك لا يمتنعون عن ممارسة مواطنتهم والقيام بواجباتهم بل وافتداء الوطن بأرواحهم إن لزم الأمر.
إلى كل المهمّشين والمنبوذين والمغتربين، إلى كل المنفيين في الأرض، طوبى لكم!
  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-2-2020

الثلاثاء، 4 فبراير 2020

جيل الدراويش وفيروس كورونا!




نحن شعوبٌ عاطفية ما زالت تؤمن بالخرافة، وتنسج في خيالاتها الثقافية قصص الأساطير والقوى الخفية، وتربط كل حدث كوني أو ظاهرة طبيعية بغضب إلهي، أو معجزة لنصرة الحق واستعادة حقوق المستضعفين.

وهذا يجري أيضاً على تفاعلنا مع قضايا الشأن العام، وغالب القضايا العالمية، فنعتمد في الحكم عليها، على ردة فعلنا العاطفية وأحاسيسنا التي غالباً ما تخطىء كونها مليئة بالافتراضات الانفعالية والمخزونات الثقافية والمرجعيات المُضلّلة.
 
بعد انتشار فيروس كورونا في الصين، تسابق الناشطون في العالم العربي على التذكير بجرائم الصين في حق الأقلية المسلمة في الايغور، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها السلطات الصينية في حقهم، وهي لا شك، جرائم شنيعة تستدعي أكثر بكثير من الاحتجاجات الخجولة على شبكات التواصل، والمنشورات التي تستدر العواطف وتذكر بضعف الشعوب المسلمة واستهدافها فوق كل أرض وتحت كل سماء.

ولكن الجديد اليوم، هو ربط انتشار فيروس كورونا باقتراف تلك الجرائم في حق المسلمين والخروج بنتيجة أن الله سبحانه وتعالى يعاقب السلطات الصينية بفيروس قاتل لا علاج له.
في ليلة وضحاها أصبح فيروس كورونا جنداً من جنود الله، يخوض معركة وجودية، بالنيابة عن المسلمين في الأرض! هل لكم أن تتخيلوا مقدار العجز الذي يختبىء خلف هذا الإدعاء أو الاستنتاج التحليلي الصادم!

هناك نشوة خفية، وشعور بالانتصار والزهو، تكاد تشعر به يفوح من كل كلمة تقرأها في هذا الخصوص، وكأن صاحبها اكتشف أو تحقق من أن وراء كل مسلم ضعيف قوّة عظمى قادرة على نصرته حتى لو كان الطرف الأضعف، أو استكان أو تخاذل.

ولكن هذا المنتشي بنصر الله على السلطات الصينية تناسى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله لم يدعنا يوماً إلى الاستكانة أو الركون إلى نصر الله، بل دعانا إلى العمل والتغيير.

ليس هذا فحسب، بل إن مجرد التشفّي بمأساة إنسانية مثل فيروس كورونا هي أبعد ما يكون عن خلق المسلم القويم، والأدعى أن نتكاتف سويةً ونقدّم العون لأخينا الانسان في محنته إن استطعنا، أو على أقل تقدير أن نواسيه ونشاركه بمشاعرنا ووجداننا، وهذا أضعف الايمان.

إن هذه العقلية والمرجعية المعطوبة التي نشأنا عليها (مع فرض حسن النية) لن تجلب نصراً ولن تحقق تقدماً فكرياً أو قفزة حضارية، بل ستجلب مزيداً من الرجعية والتخلّف.

ذات يوم بعيد، سبق أحداث الربيع العربي كنت معتكفاً في إحدى ليالي رمضان، في أحد المساجد الكبيرة والمعروفة في العاصمة عمّان، وكان المسجد يفيض بمرتاديه، والجميع ينصت باهتمام لدرس ديني عن ظهور المهدي المنتظر، والمواجهة مع أعداء الأمة، وبعد انتهاء الدرس سأل أحدهم عن واجب المسلمين والتحضيرات التي عليهم عملها للاستعداد لتلك المرحلة، سيما أن الدرس يشير إلى قربها، فكان جواب الشيخ حرفياً (لا شيء، سوى الانتظار!).

لم تغادر هذه الاجابة تفكيري منذ تلك اللحظة، وأنا دائم التفكير في الرسالات المُبطّنة التي نوصلها لأتباع هذا الدين (رغم كل ما أحمله من احترام وتقدير لرجال الدين والدعوة) والتي لا تُعبّر سوى عن الاستكانة وقلّة الحيلة وانتظار المعجزات. لا شيء عليك فعله، إنه عمل الله سبحانه وتعالى، وما عليك سوى الايمان والانتظار!

وهذا في الحقيقة هو أحد الأسباب التي أنتجت في النهاية جيلاً من "الدراويش" الذين لا يستيطعون ربط الايمان بالعمل أو بالعلم والثقافة، والتقدّم الحضاري، ودليل ذلك أنهم يؤمنون أشد الايمان بأن مجرد الايمان والتعبّد كفيل بنصرة أحدهم على مشاكله، وتقدم شأنه في العمل والمجتمع، بل ونصرة الأمة كلها عسكريا وحضاريا، وعلميا أيضاً.

هذه المفارقة في التفاعل مع الأحداث، تكرّرت مع إعلات ترامب لتفاصيل بنود صفقة القرن، والتي تحولت فيها فلسطين التاريخية إلى مجرد كانتونات متفرقة يجمعها نظام حكم محلي منزوع الجسد، خالٍ من السيادة، أو بمعنى آخر وطن "لايت" يسهل حمله في شنطة السفر، أو وضعه جانب السرير في أحد الموتيلات.

لقد كانت ردة فعلنا عاطفية كالعادة: مهما حدث فالله قد وعدنا بتحرير الأقصى!

نتناسى أن وعد الله سبق الحملة الصليبية على القدس وحرب المغول والاحتلال البريطاني قبل أن يسبق أيضاً، الاحتلال الصهيوني، لقد احتل الصليبيون القدس مئة عام وجعلوا من المسجد الأقصى حظيرة لدوابهم، فهل سننتظر حتى يهدم الصهاينة المسجد الأقصى ويبنوا هيكلهم المزعوم ولا نرد عليهم سوى بوعد الله!

هذا التناقض بين التخطيط والعمل من قبل أعدائنا، في مقابل الاستكانة وعقلية النصر الالهي المزروعة في عقلنا الجمعي، هو في الحقيقة ما أدى إلى هذا الانحدار غير المسبوق في قبول الشعوب للأمر الواقع وتقبلهم لأحوالهم السيئة.

أنا لا أستثني دور الأنظمة القمعية والخيانات، ولا أتغاضى عن فساد السلطة وإرهاصات أوسلو، وعملية السلام التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، ولكني أتحدث عمّا يخص الشعوب، ودور المثقفين والناشطين، وعن ردة الفعل الشعبية الخجولة على كل ما يحصل، وعن تلك الاستكانة التي تجعل منا نسخة إنسانية عطنةً مهزومة.

تبجّح ترامب بعد إعلان القدس عاصمةً لاسرائيل بأن شيئا مهولاً لم يحدث، وأن السماء لم تسقط!، وهو اليوم يتحدى استكانتنا، وسيقول بعد أيام، إن السماء لم تسقط أيضاً.

أرى من واجبي أن أقول اليوم، احذروا من النسخة المستكينة التي زرعوها في داخلنا (بحسن نية)، وأحذروا من تكرار هذا الخطأ مع أبنائكم، علّموهم أن الجندي الذي ينتصر في المعركة هو الجندي الأقوى والأذكى والأكثر استعداداً، وأن الرجل الذي ينجو من الغرق هو الرجل الذي يعرف السباحة، وأن من يقود المجتمع للتقدم والحضارة هو المُفكّرُ والعالِمُ والمثقف، وبعد هذا كله يأتي توفيق الله، فالله اشترط العمل قبل النصر.

وعلموهم أن ديننا يذمّ الوهن والضعف والكسل والذل وقلة الارادة وضعف العزيمة، يقول الله سبحانه وتعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
3-2-2020