‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثقافة وفنون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثقافة وفنون. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 24 مارس 2024

رسائلُ ليلى

 



 

تتسلل ليلى خلسة إلى حقيبة الطالب المشاغب أمجد، الذي تكن له مشاعر حب مجنونة دون أن يدري، تريد أن تعبّر عن حبها المكنون، ولكنها في ذات الوقت تحاول جاهدة ألا تكشف هويتها. هي تعتقد أن هذه الرسائل هي جسر التعارف بينهما، جسر العبور إلى داخله، أو ربما هي رحلة اكتشاف الذات بالنسبة لها.

 

ليلى شابة خجولة مفعمة العواطف ذات بصيرة لا تخفى على أحد، في حين ان أمجد هو شاب أرعن ذاع صيته في الكلية الجامعية بسبب مشاكساته وازدرائه للآخرين، يقود حفنة من الشباب الذين يمارسون هوايتهم في السخرية من الطلاب الأقل حظا، ومن الفتيات تعيسات الحظ، بل ومن الهيئة التدريسية.

 

في كل يوم تزرع رسالة في حقيبته وترفقها بوردة، وتنجح بشكل لافت في ان لا تلفت انتباه أحد، وأن تبقى بعيداً عن الشبهات، تتحدث في رسائلها عن أمور الحياة، وتطلعه على دواخلها، وتناقش معه تصرفاته الطائشة، وترسم له صورة عنه مخالفة لواقعه.

في بداية الأمر، يستخف أمجد بتلك الرسائل وتلك المشاعر، ولكنه مع مرور الوقت يعتاد على نظامه الحياتي الجديد، بل إنه يسابق الزمن حتى يعود إلى غرفته ويفتح حقيبته ويبعثر أشياءها باحثاُ عن تلك الورقة الخفيّة وتلك الوردة التي يتجدد لونها وعبيرها باختلاف فصول السنة، وتجعل ليومه طعماً آخر.

 

كانت هذه الرسائل نافذة له يبصر من خلالها حقيقة ذاته، ويتفهّم من خلالها تصرفاته وهفواته وخيباته، وطبيعة مشاعره.

وكانت لها نافذة تبصر من خلالها النور، وتعبر فيها عن ذاتها، بالطريقة التي لا تجرؤ فيها أن تعبّر عنها في العلن.

وهكذا كانت هذه الرسائل هي جسر التعارف بينهما، ولهما، يفهمان من خلالها الحياة بطريقة أخرى، ويغوصان في أعماق ذاتهما أكثر وأكثر.

 

في صبيحة يوم ماطر تتعرض ليلى لمشاكسة رفاق أمجد وهي في طريقها إلى قاعة المحاضرات، يُسقطون حقيبتها ويتقاذفونها فيما بينهم، ويتبادلون الضحكات وهي تجمع أغراضها المبعثرة على الأرض المبللة، تمتد يدٌ مجهولة تعاونها، وحين ترفع عينيها تجد أمجد وهو يجثو على ركبتيه قبالتها، لم تتمالك نفسها من المفاجأة وبقيت يدها معلقة في الهواء، وما ان أكمل أمجد جمع أغراضها حتى توجه إلى رفقائه المشدوهين وانهال عليهم بكلمات التوبيخ والتقريع!

شكرته ليلى على موقفه، وهي تتلعثم خجلاً، مدّ أمجد يده لها قائلاً هل تقبليني صديقاً؟، محاولاً نجدتها من خجلها ورفع الحرج عنها.

ومنذ ذلك اليوم، افترق أمجد عن رفاقه، كانت هذه هي نقطة التحوّل في سلوك أمجد، كانت الشرارة التي طال انتظارها، كي يبدأ عملية التحوّل، من أمجد الأرعن، إلى أمجد المتعاطف والمتفهّم لمشاعره ومشاعر من حوله، كانت هذه الخطوة هي النتيجة الحتمية للرحلة التي خاضها وهو يعيد اكتشاف ذاته عبر رسائل ليلى.

 

وبدأت صفحة جديدة بين أمجد وصديقته الجديدة ليلى، بات يحدثها عن نفسه، وعن أحلامه ورحلته المتخبطة في الحياة، حدثها عن الفتاة الغامضة وعن رسائلها، حدثها عن رحلة اكتشاف الذات التي خاضها، وأخبرها بأن هذه الفتاة هي وحدها التي عرفته على حقيقته، أو بالأصح هي من قادته لفهم ذاته، هي التي أخرجت كل شيء جميل مدفون فيه، وساعدته كي يصبح شخصاً "أفضل"، قال لها بان هذه الرسائل علمته أن من يحب ليس هو الشخص الذي يقبل الآخر بنواقصه وعيوبه فقط، بل هو الشخص الذي يخرج أفضل ما فيه، ويدعوه دوماً لأن يكون جميلاً دون أن يشعر، ودون أن يطلق الأحكام، ويلقي المحاضرات، ويشعره بالنقص أو تأنيب الضمير، ودون أن يحاول تغييره رغماً عنه!

 

كانت سعادة ليلى على اتساعها، مدعاةً للأسى، وباتت تعيش في تناقض شائك لا يخلو من سخرية القدر، فعلى الرغم من سعادتها بكل تلك المشاعر التي يكنّها لها، والشعور بالعرفان والتقدير، إلا أنها في ذات الوقت، تشعر بأن هذه المشاعر لا تعنيها بشيء، بل تخص تلك الفتاة الغامضة السريّة!

تعيش ليلى في تلك الحالة المتناقضة، وتستمر في لعب دور الصديقة، والحبيبة السرية، وكأنهما شخصيتان مستقلتان تماماً!

تستمر في كتابة الرسائل ليلاً، وزرعها خلسة في حقيبته نهاراً، والاستماع إلى أمجد وانطباعاته عن تلك الرسائل، بل واسداء النصح له كصديقة محايدة!

 

سألته ذات يوم، لماذا لا تكتب لها؟ قال لا أجيد الكتابة ولا أعرف ماذا أكتب، قالت اكتب أي شيء يخطر على بالك، أكتب لها ما تقوله لي، ولكن أمجد لم يكتب شيئاً.

استمرت ليلى في خوفها من كشف حقيقتها، وعجزها عن مصارحة أمجد بمشاعرها خوفاً من ان تخسره، واستمر أمجد في الادمان على رسائل الحب، التي باتت المتنفس الوحيد له في هذه الحياة.

 

وفي أحد الأيام، أخبرها أمجد بأنه يريد ان يتكلم معها في موضوع مهم، أخبرني ما الذي حصل؟

 لقد كتبت لها رسالة مساء أمس، ولكني أريد ان أقرأها لك قبل أن أدسها في حقيبتي

تستغرب ليلى بعض الشيء وتشعر في تلك اللحظة بنوبة المتناقضات التي تغشاها كل مساء، تتحامل على نفسها وتقول كلي آذان صاغية!

يقرأ أمجد عليها رسالته التي يطلب فيها من فتاته الغامضة، بأن تتوقف عن الكتابة له، ويشكرها على كل تلك المشاعر الايجابية، وكل ذلك الحب الذي غمرته به، ويوضح لها بأنه قد قرر بأن يعيش واقعه، وأن يعيش حياته الطبيعية، خاتماً رسالته بأن قصة الحب هذه لا بد وأن تترجم إلى الواقع، وأن هذا الحب إذا كُتبت له الحياة فإنه لا بد أن تتقاطع طريقهما يوماً ما، ولا بدّ له أن يتعرّف عليها، وأن يرشده قلبه إليها!

 

اغرورقت عينا ليلى بالدموع، ولم تقو على الكلام، صمت الكون في تلك اللحظة، ولم تعد تسمع سوى شهيقها وزفيرها، تراقب شفتي أمجد وهي تتحرك بلا صوت، وترصد الأشخاص حولها، وكأنهم شخوص مسرحية صامتة!

 

يمسك أمجد بيدها، ويربّت على كتفها، ما بكِ ؟!

تصحو من حالة انعدام الوزن تلك، ترسم ابتسامة على وجنتيها المخضبتين بالدموع، هل هي دموع الفرح، أم ابتسامة الحزن، لا تدري، ولكنها تتوجه بسؤال خارج المألوف، تقول وهي تمدّ يدها له، هل تقبلني رفيقة أبديّة وصديقة صدوقةً لك؟

أدركت ليلى بفطنتها، أنها في اللحظة التي تكشف فيها لأمجد عن شخصية الفتاة الغامضة، سينهار كل شيء بينهما، فاختارت أن تكسب صداقة أمجد، وأن يبقى حبها حبيساً لدفاتر أشعارها!

يقبض أمجد على يدها، ويهزّها بشدة، بل توأم روحي!

في ذلك اليوم تسللت ليلى إلى حقيبة امجد، ولكنها هذه المرة لم تضع رسالةً له، بل التقطت رسالته وزرعتها في حقيبتها، ودسّت آخر وردة قطفتها مكانها، كتذكار أخير!

 

ينهي أمجد وليلى دراستهما الجامعية وينخرطان في حياتهما المهنيّة، ولكنهما لا يفترقان أبداً، يلتقيان ليتبادلا الحديث في كل شيء وأي شيء، يبوحان لبعضهما البعض بكل صغيرة وكبيرة في أعماقهما، وكأنهما نفسٌ واحدة تعيش في جسدين، نُفخت فيهما روح واحدة، لم يعرف أمجد هوية فتاتة السريةُ، كما أن ليلى لم تخبره بمشاعر الحب المترعة في داخلها إلى آخر حياتها، وبقي هو يحنّ إلى حبيبته الأولىى، تلك التي علّمته كيف يُحب!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

1-1-2024

الخميس، 2 يوليو 2020

لم يعد وجودُكَ يُربكني!




في الثقافة الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore) للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.

لا يتحرّج الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.

مشكلتنا في الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية، ونتصرف بناء على حالتنا تلك.

على سبيل المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.

أما حين تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من الحب المفرط إلى الكره والبغض.

ولا ندرك أننا وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.

وعلى نفس المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو العداء!.

إن عدم قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه، أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.

وهكذا يتحول الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية مزمنة لا خلاص منها.

كم أتمنى أن نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم، فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.

نشرت إحدى الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي: " لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"

هذا التعليق بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً، كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!

لم أجد أبلغ من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.

أحلم ذات يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!    

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020

الجمعة، 28 فبراير 2020

رجال الأعمال والسياسة يتنافسون على مسرح الأوسكار






من الملاحظ في السنوات القليلة الماضية مدى تأثر أكاديمية السينما والفنون في هوليود بالحركات الاجتماعية وحملات النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، من قبيل حقوق المرأة ومطالبات المساواة في الأجور، إلى مكافحة التحرش الجنسي، ومناصرة حقوق السود، والمثليين، وكيف ينعكس هذا في كل عام على قوائم المرشحين، ومقدمي حفل الأوسكار، بل وعلى تحديد الفائزين.
وهذا يجري أيضاً على الكلمات التي يلقيها المشاركون في الحفل، وانحيازهم في التعبير عن آرائهم السياسية أو حتى ميولهم الجنسية.

كما لوحظ أيضاً نشوب صراع جديد، بين شركات الانتاج التقليدية في هوليوود وبين شركات الانتاج الحديثة التي تعتمد على البث المنزلي مثل شبكة نت فليكس وغيرها، وهو ما بدا واضحاً هذا العام في فشل (أو إفشال) فيلم  The Irish man في حصد أية جائزة بالرغم من استحسان النقاد للفيلم وللاخراج المتميز لمارتن سكورسيزي وللأداء المتميز لنجوم العمل وفي مقدمتهم روبرت دي نيرو آل باتشينو و جو بيشي، إضافة إلى تقنية (De-Aging) أو التحكم في ملامح الشيخوخة والتي كانت علامة مميزة في هذا الفيلم ولاقت استحسانا كبيرا وكُتب عنها الكثير، ورغم هذا كله خرج الفيلم خالي الوفاض.


 ظاهرة أخرى باتت حديث كواليس الفن والسينما، وهي ظاهرة تكريم الممثلين المميزين ومنحهم جوائز أوسكار تكريما لمسيرتهم الفنية وعطائهم المميز، ولكن المفارقة تكمن في منحهم تلك الجوائز عن أعمال لا ترقى للمستوى، وبشكل يكون فيه إجحاف في حق ممثلين آخرين، وكأن الأكاديمية تريد تصحيح أخطاء الماضي باقتراف أخطاء جديدة ضد نجوم هذا اليوم!

ولعل فوز براد بيت بجائزة أفضل ممثل مساعد هذا العام هو خير دليل على ذلك، فرغم أن إبداع هذا الممثل وشعبيته لا يختلف عليها أثنان، إلا أن الدور الذي قدمه في فيلم (Once upon a Time in Hollywood) كان أداءً عادياً جداً، بل إن الفيلم برمته كان من أقل أفلام كورانتينو جودة ومستوى فني، ولا يميزه سوى الأداء الجميل للمثل الرئيسي دي كابريو.
وحين تراجعُ سيرة براد بيت مع جوائز الأوسكار ستصاب بالدهشة عندما تجد أن هذا الممثل لم يحصل على أية جائزة عن إبداعه في أفلام عديدة منها Seven , the inglorious bastards , fight club
في حين يتم تكريمه عن أداء باهت في فيلمه الأخير.
ومن أكثر الأحداث التي تسببت في لغط مستمر إلى هذه اللحظة، فوز الفيلم الكوري الجنوبي  (parasite) أو المتطفلون (العالة على المجتمع) بخمس جوائز هذا العام، من ضمنها أفضل مخرج وأفضل فيلم وهي المرة الأولى التي يتوج بها فيلم أجنبي (غير ناطق بالانجليزية) بلقب أفضل فيلم، وهذا دليل برأيي على مدى تأثير السياسة على الفن، حيث جاء هذا التتويج للتعبير عن التصالح مع الآخر وقبول الاختلاف، فيما يبدو انه ردٌ على محاولات التعصب والتطرف الذي تغلب على الأجواء في الولايات المتحدة، لا سيما في عهد ترامب.

ولعل السمة البارزة في هذا الحدث أن الفيلم يتناول قضية التفاوت الطبقي والصراع بين طبقات المجتمع الرأسمالي، الذي يؤدي إلى هضم حقوق الطبقة الفقيرة الكادحة، مقابل الثراء الفاحش ورفاهية العيش للطبقات الثرية، وفي نهاية الفيلم ينتصر العمل لأبناء الطبقة الكادحة، ولحقهم في العيش الكريم.
نفس هذه الفكرة طرحها فيلم "جوكر" أيضاً مع اختلاف في الحالة والتضمين، ولكن يمكن القول إن كلا الفيلمين تحدثا عن الدور الاجرامي الذي يتحول له المهمشون في المجتمع نتيجة الصراع الطبقي الرأسمالي.

وهذه الفكرة التي حملها الفيلم، جاءت في وقت تعاني فيه الأقليات من أوضاع معيشية قاسية في الولايات المتحدة وباقي بلدان العالم، وتعاني فيها من العنصرية والاستغلال العُمّالي والنبذ من المجتمع والحكومات على حد سواء.

هذه الظواهر والتأثيرات، والرسائل التي يرسلها القائمون على صناعة السينما، التقطها الرئيس دونالد ترامب وعلّق عليها مؤخراً، حيث انتقد نيل فيلم أجنبي لجائزة أفضل فيلم، كما انتقد تتويج براد بيت.
وبرغم أن الأسباب التي دعت الرئيس ترامب لهذا النقد العلني كانت الرد المباشر على الرسائل السياسية التي تضمنها الحفل بشكل عام، وبخاصة انتقاد براد بيت لمناقشات مجلس الشيوخ أثناء التحقيق في قضية عزل الرئيس، إلا أن هذا النقد العلني يوضح مدى التأثير المتبادل بين السياسة والفن.

ما يهمنا في النهاية أن يبقى الفن للفن، دون أن ينحاز إلى أي قضية سياسية او اجتماعية، مهما كانت هذه الفكرة أو القضية نبيلة، لأن ذلك من شأنه أن يجرّد الفن من أحد أهم مميزاته، فالفن الناجح يجب أن يتحدث بلغة الفن والفن فقط، كي يستطيع أن يكون جسراً للتواصل الانساني والمعرفي.

وأنا لا أقصد أن الفن يجب أن ينعزل عن المجتمع أو الفكر أو المبادرات الانسانية، بل على العكس تماماً ولكن ما أقصده هو أن تقييم الفن أو الاستمتاع به لا علاقة له بالفكر الذي يحمله، بمعنى أن التصويت لصالح ممثل أو ممثلة أو فيلم ما، يجب أن يكون حيادياً تماماً ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالفكر السياسي أو عقيدة أو جنس أو دين صاحب التصويت أو صاحب العمل، أو مصالحه التجارية، وخلاف ذلك سيفقد الفن معناه.

لا يهمني عدد المرشحين لجوائز  الأوسكار من الأمريكان الأفارقة  كمشاهد أو متابع للفن، بل يهمني أن يترشح الأفضل، ولا يهمني أن يفوز فيلم نسائي أو فيلم أجنبي كي يرتاح ضمير القائمين على الأكاديمية، بقدر ما يهمني أن يتم تكريم الأفضل وأن لا يضيع جهد أي مثابر، ولا يهمني كذلك تكريم ممثل أحبه وأتابعه بقدر ما يعنيني أن يستحق الفائز تلك الجائزة، وكل ما عدا ذلك، فهو تدمير للمتعة وإساءة لصورة الفن وصنّاع السينما.
  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-2-2020

الأربعاء، 19 فبراير 2020

المنفيّونُ في الأرض




إن مأساة الاغتراب عن الوطن دائماً ما تكون مُضاعفة، فهي لا تقتصر على اضطرار المغترب أو المنفي للعيش خارج وطنه، بل تتجاوزها إلى اضطراره أيضاً للعيش مع ذكرياته واجترار كل ما يذكّره بأنه منفيٌ عن الوطن رغم أن هذا الوطن ليس ببعيدٍ عنه. فهو يعيش في عالمين لا يرى في أيٍ منهما عالماً حقيقيا؛ عالمه المفروض عليه بعيداً عن الوطن، وفيه لا ينال سوى التأكيد الدائم على شعور الغربة، مهما ارتقت به الأسباب ونال من الرفاهية وطيب المقام، وعالمٌ آخر يرى ذاته بعيداً عنه، وكأنه طيف حلم صيفيٍ بعيد، يعيش يومه وهو يستنشق هواءه ويدرّب نفسه على التماهي معه، والبقاء على صلة معه، على وعد اللقاء الذي قد لا يتحقق!

يعيشُ المنفي إذاً في عالم أشبه بالبرزخ، فهو عاجزٌ عن الانصهار الكامل في عالمه الجديد، وعاجزٌ كذلك عن التحرّر من عالمه القديم.وهو بذلك يعيش حالة انفصام حقيقية، مليئة بالتناقضات، بين شعوره بالحنين إلى الوطن وما يرتبط به من ذكريات الطفولة ولقاء الأحبة، وبين سعيه الحثيث على إتقان فن البقاء ومحاكاة من يعيش معهم، وحرصه الدائم على تجنب خطر الشعور بأنه منبوذ، وفي نهاية المطاف يتعزز شعوره الداخلي بالعزلة، وإحساسه الدفين بأنه منفيٌ!
والأدهى والأمر، انه سيشعر بالذنب، كلما حقق درجة نجاح معقولة في مسعاه للشعور بالراحة و الأمان في منفاه!
وسرعان ما يجد المغترب عن الوطن او المنفي عنه طوعاً أو قصراً، نفسه في صراع فكري من نوع خاص، فهو يأتي محملاً بأفكار الوطن ومعتقداته، ثم لا يلبث أن يصطدم بواقع جديد تختلف فيه الرؤية وتتقاطع معه الأفكار، وهو ما يجعله في حالة من المراجعة الذاتية لأفكاره ومخزونه الثقافي، ونتيجة لذلك تجده دائم العمل على تهذيب تلك الأفكار، وتقليم أطرافها أو حتى نزعها وإستبدالها بأفكار جديدة، وهو ما يدفعه في النهاية للتورط في مأزق جديد، إذ لا يعود ذات الشخص الذي غادر وطنه ذات يوم، كما أنه لن يصبح في يوم من الأيام مماثلاً لنظرائه في المجتمع الجديد!

ونتيجة ذلك كله، فإن المنفيين في الأرض يتشاركون في غبطتهم أبناء وطنهم الذين لم يغادروه ولم يضطروا لخوض تلك التجربة المركبة من الصراعات الفكرية والاجتماعية والانسانية، ولعل أكثر ما يغبطونهم عليه هو عدم اضطرارهم لترك أهلهم وأحبتهم ومغادرة مكان صباهم.

ولكن الشعور بالنفي عن الوطن او الاغتراب، لا يقتصر على اولئك المغتربين أو المنفيين جسدياً عن الوطن، فحالة الاغتراب هي حالة وجدانية قد تصيب المواطن العادي الذي يعيش حالة من الاضطراب الداخلي والانفصال عن المجتمع الذي يعيش فيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن الوطن الذي يعيش فيه بات يتنكّر لكل ما كان يؤمن به ويمثله من قيم انسانية ومثل عليا، وأن هذا الوطن قد اصبح عاقاً لأبنائه ومخيبا لآمالهم، على نحوٍ غير متوقع البتة!

ولا أبوح سراً إن قلت إن معظم أبناء عالمنا العربي يتملكهم ذات الشعور بالنفي والاغتراب عن الوطن وهم داخل أوطانهم، فتراهم يعبّرون عن ذلك، بمحاولة استرجاع ذكريات الماضي والحديث عن الزمن الجميل وذكريات الطفولة وما هذا إلا تعبير عن عدم انسجامهم مع هذا العصر، أو المجتمع الجديد الذي تفاجأوا به ورفضهم الداخلي له، مما يدفعهم الى الانزواء رويداً رويداً إلى ذواتهم والعودة بها إلى ذكريات الماضي والطفولة، أو بمعنى أدق، الاحتماء بها من تناقضات هذا العصر.

ولا شك ان هذه الحالة، تدفعنا للحديث عن دور المثقف وعلاقته مع السلطة، سواء كانت سلطة سياسية أو دينية أو حتى اجتماعية، فعلاقة المثقف والمفكر غالباً ما تكون علاقة شائكة مع طبقة المتنفذين والسياسيين، سرعان ما تتطور لكي تصبح علاقة تضارب واشتباك، بحيث تنتهي بتهميش دور المثقفين والمفكرين، ونبذهم كي يتحولوا بدورهم إلى منفيين يعيشون على هامش المجتمع، وهو ما يضعهم أمام خيارين أحلاهما مر، إما الاستمرار في العيش على هامش الحياة أو الهجرة والنفي عن الوطن.

إن حالة المثقف أو المفكر "الحقيقي" هي حالة اغتراب مستمرة، فهو في حالة اشتباك دائم مع أفكار السلطة مهما كان شكلها، وهو أيضاً في حالة من المراجعة النقدية المستمرة لأفكار المجتمع، تجعله بشكل من الأشكال إنساناً هامشياً مُستبعداً عن حسبة المناصب وصالونات النخبة الحاكمة، بل ومسثنىً من قائمة الوظائف وسبل العيش الرغيد، وهو ما يجعله بشكل او بآخر منفياً عن الوطن ومنبوذاً من السلطة.
ولعل هذا ما يدفع المثقف إلى تعزيز دوره القائم على الاستكشاف والترحال الفكري ومحاولة مد جسور التعاون مع مختلف الثقافات والشعوب بناء على القيم الانسانية المشتركة ودون أي اعتبار للمعتقدات والمذاهب والجنسيات، محققاً بذلك عن قصد أو غير قصد، دور المثقف الأساسي في إفادة البشرية والاهتمام بالشان الإنساني العام.

إن صنوف المنفيين في الأرض، عديدة وكثيرة، فهي تضم أؤلئك الذين غادروا أوطانهم لكي يجعلوا من العالم مكاناً أفضل لأبنائهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك شظف العيش وقسوة الغربة، والبعد عن شمس أوطانهم ودفء أحضان الأهل والأحبة.
وتضم أيضاً أؤلئك الذين حملوا على أكتافهم، مسؤولية الاشتباك مع السلطة ومعارضة طغيانها، ومسؤولية نقد المجتمع ومعارضة اختلالاته، وتحملوا في سبيل ذلك الاغتراب في الوطن، أو النفي عنه.
وهم كذلك طبقة المسحوقين والمواطنين البسطاء الذين يعيشون على هامش الوطن، ويتملّقهم كل فاسد ووصولي، ولكنهم رغم ذلك لا يمتنعون عن ممارسة مواطنتهم والقيام بواجباتهم بل وافتداء الوطن بأرواحهم إن لزم الأمر.
إلى كل المهمّشين والمنبوذين والمغتربين، إلى كل المنفيين في الأرض، طوبى لكم!
  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-2-2020

الأحد، 19 يناير 2020

ملخص كتاب (اثنتا عشر قاعدة للحياة)

انتهيت من قراءة كتاب (اثنتا عشر قاعدة للحياة) للكاتب الكندي جوردان بيترسون، وقمت بتلخيص هذه القواعد (مع بعض التصرف) في الملف المرفق للفائدة


لتحميل ملخص كتاب (اثنتا عشر قاعدة للحياة)


الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

قصصٌ للأطفال والكبار





قبل عدّة سنوات، تحايل عليّ أبنائي كي أنتظم في قصّ قصة قصيرة عليهم قبل النوم، وكنت بدوري أقصّ عليهم قصةً بين حين وآخر، ثم أتذرّع بأعذار كثيرة حين لا يسعفني الوقت أو تخونني الذاكرة، ثم ما لبثنا أن اتفقنا على أن أروي لهم قصة قصيرة في طريق عودتنا من المدارس وبشكل يومي، مع استعراض العبرة من القصة والتعليق عليها.
كان الأمر ممتعاً، وأكثر من مجرد إخبار حكاية للتسلية، لقد اكتشفت أنها طريقة تواصل ممتعة ومفيدة بل ومدهشة بكل المقاييس، عادت بالنفع على الجميع.
شخصياً أدّت هذه التجربة إلى إثراء معرفتي، وتحفيزي لإعادة صياغة الحكاية وجعلها أعمق في المعنى، مع إسقاط ما أرغب بإيصاله من حكم وأمثال ومواعظ.
في البداية استخدمت مخزوني من القصص والحكايات التي أحفظها، وتفاجأت بأن لدى الإنسان قدرة على استرجاع معظم الحكايات والقصص التي سمعها أو قرأها في مختلف مراحل عمره بأدق تفاصيلها، لقد عادت بي الذاكرة إلى المراحل الدراسية الأولى، واسترجعت القصص التي مرّت علي، سواءً في المنهاج، أو تلك التي حدثّها بنا الأساتذة، إضافةً إلى حكايا ووصايا أمي وأنا طفل صغير، وذكريات أبي والقصص التي حدثنا بها عن قريتنا في الوطن السليب.

ولكن بعد نحو سنة، نفد المخزون الشخصي، واضطررت للاستعانة بالإنترنت والبحث عن قصص الأطفال المفيدة، أو بعض القصص مما أقرأه من روايات وكتب، مما أستطيع قولبته في قالب من الحكايا المسلية والمفيدة.

المدهش في الأمر، أن هذه القصص القصيرة، تكون غالباً ذات بُعْد فلسفي عميق، وأثر نفسي على المتلقّي، دون تمييز في عمره أو مستواه الفكري، فهي قصص للأطفال والكبار على حد سواء، وكلٌ يستطيع ان ينهل منها بحسب نضجه وقدرته المعرفية.

من بعض ما قرأت (وتصرّفت في روايته)، أنه في إحدى القرى القديمة عاشت عجوز مات عنها زوجها وأولادها وباتت بلا مُعيل ولا كفيل، فالتمستَ العطف من مختار القرية، الذي جمع بدوره أهل القرية وتشاور معهم في الأمر، حيث توافق معهم على إمداد هذه العجوز بما يلزمها من طعام وشراب وإعانتها على أمور الحياة.
وهنا أمر المختار بوضع ثلاث جِرار أمام بيت العجوز وسلّة كبيرة، تُخصص الجرّة الأولى لوضع الحليب، والثانية لوضع العسل، والثالثة للماء، أما السلّة فتُخصّص لوضع الخبز، وأمر أهل القرية بأن يضع كل بيت من البيوت كوباً من الحليب والعسل والماء، ورغيفٍ من الخبز في المكان المخصص كلّ ليلة.

وفي المساء غفت العجوز على صوت دلق الحليب والعسل والماء في الجرار، وصوت الخبز وهو يتهافت في الصندوق المخصص، لم تكن الدنيا تسعها من الفرحة، بل إن النوم جافاها من السعادة، وبقيت في انتظار الصباح بلهفةً وهي لا تكاد تطيق صبراً، ومع ساعات الصباح الأولى، اغترفت كوباً من الحليب فإذا به ماء خالص!، ثم اغترفت كوباً من العسل، فإذا به ماء صاف!، ثم مدت يدها لتناول الخبز وإذا به يابس مكسور عفن!

لم تكد تصدق ما جرى، وشكّت في قواها العقلية، ثم اتجهت مسرعة إلى بيت المختار، وأحضرته ليعاين بنفسه، وما أشد الصدمة عندما تيقن المختار من صدق ما حدّثته به!

استشاط المختار غضباً وجمع أهل القرية، وسأل كل واحد فيهم عن وفائه بالاتفاق الذي أجمعوا عليه. في البداية دافع كل شخص عن نفسه بانه أدّى المطلوب ونفذ الأمر، ثم سرعان ما أدركوا جميعاً سوء صنيعهم، وتبادلوا نظرات الخيبة!
وقف ابن المختار وقال سأحدثك يا والدي عمّا حصل، في الليلة الماضية أمرتني بأن أذهب وأكون أول شخص يضع نصيبه المفروض للعجوز، في البداية شرعت في تنفيذ الأمر، ولكني توقفت لوهلة وقلت لنفسي أليس أهل بيتي أحق بهذا النصيب من الطعام؟ ثم خطر في بالي أن أضع كوباً من الماء في جرة العسل وكوباً آخر في جرة الحليب وأن اختار الخبز الناشف والبائت فأضعه في سلة العجوز، وحدّثتني نفسي بالقول (ما سيضير العجوز لو اختلط كوبٌ واحد من الماء في جرة مليئة بالحليب أو العسل؟!، وماذا ستصنع العجوز بكل هذا الخبز من أهل القرية، سينتهي بها الأمر إلى إلقائه إلى الطيور والعصافير، فلتأكل الطيور من بواقي الخبز.
ثم نظر الفتى إلى الرجال المجتمعين، وقال: وأظن يا أبي أن كل واحد من أهل القرية قد خطرت له نفس الفكرة، وصنعَ ما صنعتُ أنا!. انتهى

ألا تتفقون معي، أننا جميعاً نصنع مثلما صنع أهل هذه القرية بشكل أو بآخر، كم من مرّة طالبنا المجتمعَ بفعل الخيرات وتقديم التضحيات، ولكن عندما يكون الفعل من نصيبنا نعتبر أنفسنا مستثنيين من القاعدة، وفي النتيجة نكون قد اعتمدنا على غيرنا ليقوموا مقامنا.

نقوم بالغش في مجالنا، ولكننا لا نقبل الغش من الآخرين، بات الواحد فينا ورماً سرطانيا بذاته، ولكنه يرتجف خوفاً من أن يُصاب بالعدوى من الآخرين!

ننتقد الشباب في المجتمع لتسيّبهم وعدم تحملهم المسؤولية، وعلى اتكاليتهم المُفرطة، ولكننا نُغالي في دلال أبنائنا ونربيهم على عكس ما نصرّح به، وحين يكبرون، يصبحون مثالاً لكلّ شيء انتقدناه في المجتمع!

وهكذا مع كل قصة وحكاية، وجدتُ دائماً دعوةً للتأمل، وتحفيزاً لمجموعة من الأسئلة الفلسفية.

أدعوكم، بأن تقضوا مزيداً من الوقت مع أطفالكم وأن تقصّوا عليهم ممّا تحفظون من القصص أو التجارب الشخصية المفيدة، قبل النوم أو بعده أو ساعة الظهيرة، لا يهم، المهم أن نتواصل مع أبنائنا ونرسّخ عندهم القيم الإنسانية والواجبات الأخلاقية التي تربّينا عليها، كي لا يوقر في قلوبهم أن ما يشاهدوه من سلبيات في الواقع والمجتمع هو أمر مستساغ، يجب علينا تقبّله من باب تغيّر سنّة الحياة.
كما أدعو بشكل خاص المعلمين والمعلمات في كل المراحل على الاستشهاد بالقصص والأحداث التاريخية لإيصال المعلومة، لأن هذه القصص تُحفر في ذاكرة الطلاب ويكون لها تأثير كبير على العقل الباطن أو اللاواعي.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-12-2019

الاثنين، 26 أغسطس 2019

أصدقاء ولكن غرباء!




في ظل الثورة التكنولوجية التي نعيش، والعالم الرقمي الذي بتنا جزءاً منه شئنا أم أبينا، اتخذت علاقاتنا الاجتماعية وروابطنا الإنسانية منعطفاً حرجاً، وباتت تعاني شيئا فشيئا من الاضمحلال العاطفي وندرة اللحظات الفارقة والعلاقات الحميمة.
فباتت حياتنا تقوم على مجموعة من اللحظات العابرة، واللقاءات الروتينية الخالية من العواطف وصدق المشاعر.
وكأن العالم الجديد الذي بات يعتمد على السرعة في كل شيء، السرعة في الاتصالات، والوجبات السريعة، والقهوة سريعة التحضير، ووجبات الدايت الخفيفة، قد جعلنا نبتعد أيضاَ (لا شعورياً) عن العلاقات "الدسمة" والأصدقاء الحقيقيين الذين يشاركونا لحظات حياتنا المؤثرة والفاصلة، ونكتفي على ما يبدو بالعلاقات العابرة "الخالية من الدسم"، واللقاءات السريعة "الخالية من الكافيين".

وفي ظل القفزات التكنولوجية التي لا تنتهي، والعالم الذي يدور حول فلك الفرد لا المجموعة، أصبحنا نتحول نحن أنفسنا الى ما يشبه الروبوتات في علاقاتنا، فأصبحت تطبيقات التواصل الاجتماعي بديلاً "شرعياً" عن التواصل الإنساني المباشر، واللقاءات الاجتماعية والشخصية، وهكذا انكفأنا على أنفسنا، وبات كل فرد يعيش في عالم خاص به، عالمه "الافتراضي"، الذي بات يعتبر "الصندوق الأسود" الذي يحتفظ فيه بخصوصياته وأسراره.

 الفيلم الإيطالي Perfect Strangers الذي صدر عام 2016 يسلّط الضوء على المفارقة الكبيرة بين علاقاتنا الاجتماعية في عالم الواقع وعلاقاتنا الخفية في عالمنا الرقمي، ويوضح الاختلالات التي نُعاني منها جراء التباين في شخصياتنا بين هذين العالمين.
تدور أحداث الفيلم حول سهرة تضم مجموعة من الأصدقاء، الذين يحرصون على اللقاء بشكل دوري في أحد بيوتهم العائلية. وفي هذه السهرة بالذات تقترح المستضيفة أن يكسروا حاجز الخصوصية فيما بينهم، متحدية إياهم أن يضعوا أجهزة الهواتف النقالة على الطاولة وأمام الجميع، وأن يقوم كل واحد منهم بقراءة كل الرسائل النصية التي تصله بصوت عال، وأن يقوم كذلك باستقبال كافة المكالمات الواردة على مكبر الصوت وعلى مسمع الجميع. وبين الإحراج والمكابرة يقبل الجميع التحدي مُكرهاً -لإبعاد الشبهات-وهكذا تبدأ اللعبة.

مع مضي الأحداث، تبدأ خطوط اللعبة بالتشابك والتعقيد وتتطور وصولاً إلى كشف جميع الخفايا التي يخفيها الصديق عن أصدقائه، والخبايا التي يخفيها الزوج عن شريك حياته، وتطفو على السطح أيضاً، العلاقات الشائكة داخل كل عائلة، وكل ما يحاولون إخفاءه عن نظرائهم.

ورويداً رويداً يتضح أن علاقة الصداقة المتينة التي تجمع بين هؤلاء الأصدقاء في العلن، ما هي إلا علاقات سطحية لم تبلغ العمق الكافي من التجربة ولا القناعة الفكرية اللازمة، وأن ميولاً شخصية لأحد الأفراد أو قناعة فكرية ما، أو حتى نزوة أو رغبة، كفيلة بأن تدبّ الخلافات والانشقاقات بينهم، بل إن لعبة رياضية قد تفرّقهم.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن كل شريك له عالمه الافتراضي الخاص، بعيداً عن شريك حياته، وفي عالمه الخاص هذا يمارس ما يشاء من علاقات، ويحقق رغباته الشخصية من تواصل مع الجنس الآخر، مفترضاً ألاّ علاقة لهذا بعالمه الواقعي وأن هذا العالم الافتراضي لا يؤثر من قريب أو بعيد على علاقته العاطفية مع شريك حياته، او على مصداقيته واحترامه لنفسه، واحترام الآخرين له.

وتنتهي اللعبة بكشف المستور وإظهار كل ما كان مخفياً من علاقات ونزوات وممارسات وآراء، دون تجميل، بل على العكس فإن الحقيقة حين تنكشف فإنها تُظهر وجهها القبيح، وتترك أثراً جارحاً ومؤلما في النفس، مهما كانت التبريرات والأعذار، ومهما كابرنا على أنفسنا.

لعلّ جمالية العمل تتجلّى في المشهد الختامي، فبعد انتهاء السهرة ونشوب الخلافات وتعرّي الحقيقة، بحيث أصبح الواحد فيهم عارياً تماماً من كل الأكاذيب والمجاملات والادعاءات، وكأنه قد خلع قناعه وظهر بوجهه الحقيقي، يمضي مخرج الفيلم بالأحداث وكأن هذه السهرة كانت سهرة روتينية أخرى بدأت بالعناق والقبلات والمجاملات وانتهت بها كذلك، فهو يعيد ترتيب الأحداث وكأن اللعبة لم تحدث، ثم يعرض لنا النهاية الواقعية - الروتينية لتلك اللقاءات، حيث يعود كل شخص إلى عالمه الخاص، فهذا يحمل تلفونه النقال معه الى التواليت ليستقبل صورة مثيرة من صديقته في العالم الافتراضي، وآخر يستقبل مكالمة من عشيقته ويخبر زوجته أنه يتحدث مع مديرته في العمل، وذاك يخفي ميوله الجنسية، كما يتم ترتيب موعد للعب كرة القدم، واخفاء هذا الموعد عن صديقهم البدين، وهكذا تعود عجلة الحياة الطبيعية الى الدوران من جديد!

ومن خلال المشهد الختامي، يطرح العمل السؤال الأكثر تعقيداُ، ما هو العالم الحقيقي الذي نعيش؟ هل هو هذا الواقع المليء بالخداع والمجاملة والسطحية، والذي ندّعي فيه أننا نملك أصدقاءً حقيقيين نعرف كل شيء عنهم، أم ذلك العالم الخفي (الصندوق الأسود) المليء بالخبايا ونوازع اللاشعور والذي نجاهد أن نبقيه في الخفاء؟

يُذكر أنه قد تم إعادة إنتاج نفس القصة من قبل هوليوود وعدة شركات إنتاج عالمية أخرى، بعد نجاح هذا الفيلم، ولكن جميع تلك النسخ أو محاولات استنساخ الفكرة، لم ترتقِ في المستوى لإبداع وأصالة الفيلم الأصلي.

يتكشّف لنا في النهاية أن هؤلاء الأصدقاء هم مجموعة من الأصدقاء-الغرباء الذين يحملون الكثير من التناقضات، والاختلافات والتباعد في القيم الإنسانية، ولكنهم في النهاية يختارون بعقلهم اللاواعي أن يتصرفوا وكأنهم أصدقاء وشركاء حقيقيون، لأنهم لا يستطيعون التعرّي وافشاء خصوصياتهم بالكامل أو ابداء كل عيوبهم ونزواتهم من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يرغبون بتعقيد حياتهم وتحويلها إلى حياة فاضلة أو ملائكية بحتة. وهم بذلك يختارون (مثلنا تماماً)، أن يمارسوا إنسانيتهم، محاولين قدر جهدهم أن يقيموا التوازن بين عوالمهم المختلفة، وأن يجمعوا حولهم لفيفاً من الأصدقاء الحقيقيين في الواقع، الغرباء عن بعض خصوصياتهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
25-8-2019