كتبت هذه السطور قبل أيام قليلة من رحيل
الوالدة
في وداع فاطمة
تقول الأساطير القديمة أن الأرواح الشريرة
تبدأ نشاطها مع غروب الشمس لتجوب البلاد وتثير فيها الفزع وتدب في النفوس مشاعر
الخوف، وما أن يبزغ الفجر حتى تنحسر هذه الأرواح الشريرة وتعود الى مخابئها من
جديد، فيكون صياح الديك إيذاناً ببزوغ فجر يوم
جديد، ونهار تعمه السلام والمحبة.
عندما كنت صغيراً لم أكن
أعلم بوجود هذه الخُرافة، ولكني كنت أشعر بضيق شديد حين يحل الظلام، ولهذا كنت
أحرص دوماً على أن أستلقي في الفراش وأغط في النوم قبل أخوتي، فوجودهم يقظين من
حولي كان يجعلني أشعر بطمأنينة وراحة بال تساعدني كثيراً في النوم المبكر و "الصحي"،
وكان هاجسي الوحيد وشغلي الشاغل في كل ليلة أن لا أكون آخر المستيقظين في المنزل
!!
ولكن على عكس الخرافة،
لم يكن صوت الديك ما يشعرني بالأمان والطمأنينة، بل كان صوت حفيف ثياب أمي، وطقطقة
خطواتها الخافت في الفجر الباكر، والجلبة التي تحدثها في البيت "على
استحياء" وهي تجهز لنا أغراض المدرسة، "تأخرت
على المدرسة يمّه" كانت
هذه العبارة وحدها تجعلني أبدأ نهاري متّقداً متسلحاً بكل الأمان الموجود في
العالم، وجودها حولي، نَفَسُها، رائحتها في البيت ، صوتها، لسانها الذي يلهج
بالدعاء ونحن على أعتاب مغادرة المنزل، ترحيبها الحار لنا عند العودة، وسؤالها لكل
واحد فينا عن يومه ودروسه وواجباته، وصاياها لنا بمراعاة دروسنا، والمواظبة على
الصلاة، وحسن تعاملنا فيما بيننا، وطاعة والدي، كان هذا كله كفيلاً بأن أمضي يومي
في سلام ومحبة وطمأنينة.
إذا كانت كل فتاة بأبيها معجبة، فكل فتىً بأمه مُعجبُ، كنت أشعر
منذ نعومة أظفاري بأني طفلها المُدلّل، الطفل المفضل لديها، ولكني مع مرور الزمن
أدركتُ أنها لم تكن لتُفاضل بين أبنائها، ولكنها كانت قادرة وبطريقة عجيبة أن
تُشعر كل واحد منّا بأنه المُفضل لديها، وكانت قادرةً أيضاً أن تُثبت لوالدي أن
معزّته تفوق معزّتنا جميعاً، لم يكن هذا تكلفاً أو تصنعاً منها بقدر ما كان هبة
ربانية، ومنحة آلهية.
لم أرَ في حياتي معنىً
مُتجسداً للتضحية من أجل الغير الا فيها، ولم أدرك معنى الإيثار الا من خلال
سيرتها، كانت لي المثل الأعلى في كل شيء يخص المرأة، لقد زرعت فينا بذرة التديّن
السمح، والأخلاق الحميدة التي أكتسبتها من جدي "عالم
الأزهر" وترجمت هذا التدين الى نموذج حي واقعي من خلال
علاقاتها بالمحيطين بها،
والدتي ترقد اليوم على
سرير الشفاء، وقد أتمّت رسالتها في الحياة على أتم وجه، ونجد أنفسنا عاجزين عن رد
جزء من إحسانها لنا رغم كل محاولاتنا لفعل ذلك، أرى والدتي كل يوم وهي تتألم بصمت،
تحاول أن تغادر هذه الحياة بشموخٍ وأنفة، ونحن من حولها نشعر أن المرض يدبّ فينا
نحن، وأن الشيخوخة البادية على ملامحها انعسكت شيخوخة مُبكرة فينا، نشعر أننا
فقدنا شيئاً ما بداخلنا، وأن جزءاً عميقاً في داخلنا قد انكسر.
قبل أشهر قليلة، انتصف
عقدي الرابع من العمر، وعلّقت يومها قائلاً –وأنا صادقٌ فيما أقول- " أشعر
اليوم بأني بلغت الخامسة والثلاثين" ولكني خلال الأيام القليلة الماضية شعرتُ
بأني اختزلتُ عشرة أعوام من عمري دفعة واحدة، هرِمتُ يا أمي، وفي غيابك يا أمي عدتُ
الى قلقي وخوفي، أتقلب في نومي فزعاً ولا أجد من التجأ اليه، وأصحو كل يوم وانا
بإنتظار صوتك يوقظني ويبث فيّ الأمل من جديد.
أتعلمين يا أمي أني أخاف
موتك أكثر منك ؟! هل ستغادريننا حقا؟!
أيمن أبولبن
17-10-2014