(1)
تحلّق الأولاد حول الطاولة المستديرة التي تتوسّط بيتهم
الصغير، والتي يدعونها (طاولة الوسط) لأنها إضافة إلى كونها تتوسط صالون بيتهم
المتواضع، فإنها متوسطة الارتفاع بحيث تصلح لأن يجلسوا على الأرض وتنزلق أرجلهم
تحتها، بعد أن يأخذوا وضعية "الجلوس التربيعي".
كان هناك وهجٌ من نور يصدر عن صوبة "البواري"
التي تمُدّهم بالدفء الممزوج بالسرور والطمأنينة، فوجود هذه المدفأة في زاوية
بيتهم، يُعد ضرباً من البرجوازية، وسط بيوت لا تألف سوى صوبة "علاء الدين"
التي تملأ المكان برائحة "الكاز" المُثيرة للدُوار.
كما أن لها استخدامات متعددة تبعث على السعادة، مثل عمل
القهوة والشاي، وتنشيف الملابس، وتسخين الخبز، وعمل السندويشات الساخنة السريعة،
قبل أن يدخل "الجريل" و "الميكرويف" قاموس معرفتهم.
وما أن أحضرت الأم الشمعة التي كانوا بانتظارها، بعد أن
انقطعت الكهرباء فجأة في حيّهم، موضوعةً في منفضة سجائر، حتى بدا بيتُهم أكثر
اتساعاً، وبدأت الظلال بالانتشار حولهم والتعلّق بجدران وسقف البيت.
وحدهُ “أحمد” نظر باستغراب إلى تأثير الضوء على العتمة، فيما
أخذ إخوته بالتسامر، مركّزين انتباههم على مركز الغرفة هذه اللحظة، ضوءُ الشمعة
الذي يمحو الظلام، ويُعطي الأمل بليلةٍ جميلة، شاعرية ودافئة.
ملأت الابتسامة وجه الأم وجلست بينهم بعد أن أفسحوا لها
في المجلس، وأخذت توزّع عليهم كاسات الشاي الساخنة وقطع من البسكويت المُربّع الشكل،
وبدأوا بدورهم بوضع البسكويت في الشاي ثم دلفه الى أفواههم قبل أن يتساقط بين
أيديهم، من السخونة. كان هذا بالنسبة لهم ألذّ من وجبة دسمة!
تناثر الفرح برويّة وبساطة، وانتشرت السعادة بعفويّة مثلما
ينتشر الهواءُ الدافئ حولهم.
اقترحت “حنان” أن يلعبوا "لعبة الصراحة"، تلك
اللعبة التي يُحبّوها جميعا، باستثناء أكبرهم “خالد”، الذي يعتبر هذا النوع من "الاستجوابات"
مع من هم أصغر منه عُمراً ومعرفة في الحياة، نوعاً من العقاب المعنوي.
شجّعتهم الأم وحثّت “خالد” على مشاركتهم، ولكنها قالت
بصوت عالٍ أنها لن تشارك وستكتفي بمجالستهم، تعالت الأصوات الرافضة، والمتوسلة
وانهمرت على مسامع الأم، التي وافقت بعد إصرار وعناد متبادل على المشاركة.
نهض "حسن" الابن الأوسط وأحضر قلم رصاص مع
محّاية في عقبه، كان يخبّاه في "النمليّة" التي تفوقهم عمراً، وعاد مُسرعاً
وكلّه نشاطٌ وحيوية.
دار القلم واستقر عقبه نحو “أحمد” فيما كان رأسه يشير
الى “خالد”، انطلقت الضحكات سريعاً من حسن وحنان، فيما بالكاد حبست الوالدة
ضحكتها، وظهر الضيق على “خالد”، كونه يعلم جيداً أن أقسى عقوبة يمكن أن يتعرّض لها
في هذا البيت هو اضطراره لمجاراة أسئلة “أحمد” الصغير ذات الإجابات المفتوحة.
فرك “أحمد” يديه، وبدا مستعدا للانقضاض على خصمه، ولكنه
تريّث قليلاً وظهر عليه التردّد، ثم تحدّث ببطئ وسكينة: هل تتحقّق الأحلام؟ أقصد
تلك الخيالات في الأحلام؟
دقٌق “خالد” النظر في عيني “أحمد” مليّاً، كأنهما ثُقبان
أسودان يؤديان الى العوالم الخفية لنفسه، ثم قال وقد رجّح أن يكون “أحمد” قلقاً من
حُلْم سيء مرّ به: هي كما قلت أنت، خيالات وأفكار غريبة تمرّ علينا، ولكنها ليست
واقعاً يتحقق.
بعد صمت، قال “أحمد” وهو ينظر نحو أمه، قبل أيام حلمتُ
أننا نمشي وسط أناس كثيرين كأننا في سوق كبيرة، وهم يدعوننا ويُغرونا ببضاعتهم
التي يعرضون، ومع مرور الوقت تفرّقنا جميعاً، ولم يبقَ سوى أنت وأنا يا أمي،
فالتصقت بك وأمسكت بتلابيب ثوبك، وفي لحظة خوف، انزلقت منك وتُهتُ بين الناس، ثم
لا أعلم كيف عُدت أدراجي إلى البيت، ولكني لم أجد أحداً!
قبضت الأم على
يد “أحمد” وشدّت عليها خوفاً وقلقاً، ولكنها في ذات الوقت كانت تمدّه بالطمأنينة
والثقة والوعد بأنه لن ينزلق منها أبداً.
دار القلم، وهذه المرة وقف الرأس أمام الأم والعقب نحو “حنان”
، انطلقت “حنان” بالسؤال وكأنها كانت
بانتظار هذه القرعة: لماذا يتردد والدي في حسم أمر دراستي الجامعية، لماذا يُشعرني
بأنه لم يحسم الأمر، في حين أني أعلم أنه راغبٌ وبشدة في أن أكمل دراستي وأستمر في
تفوقي؟!
احمرت وجنتا الأم وبدا ذلك واضحا عليها رغم ضوء الشمعة
المُصفرّ الخجول، ولكنها حسمت جوابها سريعاً: أبوكِ حريصٌ على مصلحتكم، ويصبو إلى
الأفضل دوماً، وقد قضى عمره في خدمة هذا البيت الصغير وبيت العائلة الكبيرة. وقد
زادت مسؤولياته بعد وفاة جدك، واضطراره للعمل في وظيفة إضافية، وهو ما يجعله يقضي
معظم وقته خارج المنزل.
حجم المسؤوليات هذا، هو ما يدفعه للتفكير أكثر من مرة كي
يطمأن إلى أنه سيكون قادراً على تغطية جميع مصاريفنا إضافةً إلى مصاريفك الجديدة.
ولكن، كوني متأكدة أنه لن يُقصّر معك في شيء، وسيفعل
المستحيل من أجل تأمين دراستك، ولو بقي معي من ذهبي شيءٌ لكنت بعته من أجلك!
كاد الحديث أن يتحول لفيض من المشاعر المكتومة، وكادت
الدموع أن تتقافز من عيني “حنان” ، ولكن "حسن" أخذ القلم وأداره بسرعة
وهو يقول (خلص بدناش دراما هسّا!).
وهذه المرة أتت الفرصة لحسن في توجيه سؤال لشقيقه
الأكبر، تأفف “خالد"، وهو يقول في نفسه (جاءك الموت يا تارك الصلاة!). ارتسمت
الابتسامة الصفراء على مُحيّا "حسن"، وفكّر قليلاً ثم قال: لن أسألك عن
الرسائل التي تكتبها في الغرفة عندما تغلقها على نفسك، ولا عن رائحة السجائر التي
أشمّها عابقةً في ثيابك بعد عودتك من الجامعة، ولكني أريد أن أعرف لماذا لا تدعني
أسهر معك أنت وحنان على المسلسلات الأجنبية على قنال 6؟
- لأنها تأتي متأخرة، تبدأ الساعة العاشرة والربع مساء، في
حين أنه لديك دوام في اليوم التالي.
- ولكن أصحابي في المدرسة يتابعون تلك المسلسلات، فلماذا
لا أتابعها أنا؟! في كل يوم يسخروا مني حين يتحدثون عن أحداث المسلسل ويقولوا لي
إنك تنام مبكراً كالأطفال!
أحس “خالد” ولأول مرة بالإحراج وشعر بمرارة حسن، رغم أنه
لم يكن يستمع له سابقاً، بل كان يقمعه مع بداية أي نقاش.
كانت الأم تتابع بشغف ولكنها منعت نفسها من التدخل،
راجيةً أن يتصرف “خالد” بشيء من العاطفة والتفهّم.
قال “خالد”: حسناً لك أن تختار أحد المسلسلات وتتابعها
بشرط أن تراعي أوقات الاستيقاظ الصباحية، صرخ "حسن" بل اثنان، ابتسم “خالد”
وقال فليكن!
قبّلت الأم رأس “خالد”، وصاح “أحمد” و "حنان"
مبتهجين.
ساد السكون بعد هذا الحوار، ولكن الشيء الوحيد المؤكد
كان شعور كل واحد فيهم، بالحب والامتنان لتلك اللحظة التي جمعتهم على ضوء شمعةٍ في
كانون.
عادت الكهرباء، وانبعث الضوء مجدداً الى الغرفة قادماً
من خارج النوافذ، ولكن أحداً منهم لم يغادر موقعه، ولم يطفئ الشمعة، وكأنهم تمنّوا
ألا تعود الكهرباء، أو الأصح انهم تمنّوا ألا تنطفئ الشمعة وألا تنتهي جلستهم تلك!
(2)
دار “أحمد” وسط البيت مشدوهاً، ووقف في ذات المكان الذي
جمعتهم فيه "طاولة الوسط" تلك الليلة، ثم نظر إلى جدران الغرفة، مستغربا
من مساحتها الضيقة، والتي كان يتصورها واسعةً فسيحة. كان ذلك قبل أربعين عاماً!
ثم هبط وجلس أرضاً في تلك البقعة، محاولاً استرجاع تلك
الصورة البعيدة-القريبة، واستشعار ذلك الدفء الذي كان يلف المكان في كانون.
قطع سكونَه، صوتٌ من داخل غرفة النوم؛ كان قد نسي صديقه
الذي يرافقه في تلك الزيارة أو لعلّه تناساه، وتناسى الغرض الذي جاء بهما.
ثم تعالى الصوت وصاحبُه يقترب منه، يا أبا يوسف، لقد
اشتريتُ، ووافقتُ على السعر الذي طلبتَه.
رفع “أحمد” رأسه قليلاً، وشرد فكرهُ، وهو يتمعّن في وجه
صاحبه ومعالمه المُستبشرة، ثم قال وهو غارق في شعور نوستاليجي يفيض بالحنين إلى
الماضي: وهل الثمن يشملُ الشمعة أيضاً؟!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
30-1-2019