إن مأساة
الاغتراب عن الوطن دائماً ما تكون مُضاعفة، فهي لا تقتصر على اضطرار المغترب أو
المنفي للعيش خارج وطنه، بل تتجاوزها إلى اضطراره أيضاً للعيش مع ذكرياته واجترار
كل ما يذكّره بأنه منفيٌ عن الوطن رغم أن هذا الوطن ليس ببعيدٍ عنه. فهو يعيش في
عالمين لا يرى في أيٍ منهما عالماً حقيقيا؛ عالمه المفروض عليه بعيداً عن الوطن،
وفيه لا ينال سوى التأكيد الدائم على شعور الغربة، مهما ارتقت به الأسباب ونال من
الرفاهية وطيب المقام، وعالمٌ آخر يرى ذاته بعيداً عنه، وكأنه طيف حلم صيفيٍ بعيد،
يعيش يومه وهو يستنشق هواءه ويدرّب نفسه على التماهي معه، والبقاء على صلة معه،
على وعد اللقاء الذي قد لا يتحقق!
يعيشُ المنفي
إذاً في عالم أشبه بالبرزخ، فهو عاجزٌ عن الانصهار الكامل في عالمه الجديد، وعاجزٌ
كذلك عن التحرّر من عالمه القديم.وهو بذلك يعيش حالة انفصام حقيقية، مليئة
بالتناقضات، بين شعوره بالحنين إلى الوطن وما يرتبط به من ذكريات الطفولة ولقاء الأحبة،
وبين سعيه الحثيث على إتقان فن البقاء ومحاكاة من يعيش معهم، وحرصه الدائم على
تجنب خطر الشعور بأنه منبوذ، وفي نهاية المطاف يتعزز شعوره الداخلي بالعزلة، وإحساسه
الدفين بأنه منفيٌ!
والأدهى
والأمر، انه سيشعر بالذنب، كلما حقق درجة نجاح معقولة في مسعاه للشعور بالراحة و
الأمان في منفاه!
وسرعان ما
يجد المغترب عن الوطن او المنفي عنه طوعاً أو قصراً، نفسه في صراع فكري من نوع
خاص، فهو يأتي محملاً بأفكار الوطن ومعتقداته، ثم لا يلبث أن يصطدم بواقع جديد
تختلف فيه الرؤية وتتقاطع معه الأفكار، وهو ما يجعله في حالة من المراجعة الذاتية لأفكاره
ومخزونه الثقافي، ونتيجة لذلك تجده دائم العمل على تهذيب تلك الأفكار، وتقليم
أطرافها أو حتى نزعها وإستبدالها بأفكار جديدة، وهو ما يدفعه في النهاية للتورط في
مأزق جديد، إذ لا يعود ذات الشخص الذي غادر وطنه ذات يوم، كما أنه لن يصبح في يوم
من الأيام مماثلاً لنظرائه في المجتمع الجديد!
ونتيجة ذلك
كله، فإن المنفيين في الأرض يتشاركون في غبطتهم أبناء وطنهم الذين لم يغادروه ولم
يضطروا لخوض تلك التجربة المركبة من الصراعات الفكرية والاجتماعية والانسانية،
ولعل أكثر ما يغبطونهم عليه هو عدم اضطرارهم لترك أهلهم وأحبتهم ومغادرة مكان
صباهم.
ولكن الشعور
بالنفي عن الوطن او الاغتراب، لا يقتصر على اولئك المغتربين أو المنفيين جسدياً عن
الوطن، فحالة الاغتراب هي حالة وجدانية قد تصيب المواطن العادي الذي يعيش حالة من
الاضطراب الداخلي والانفصال عن المجتمع الذي يعيش فيه، خصوصاً إذا ما شعر بأن
الوطن الذي يعيش فيه بات يتنكّر لكل ما كان يؤمن به ويمثله من قيم انسانية ومثل
عليا، وأن هذا الوطن قد اصبح عاقاً لأبنائه ومخيبا لآمالهم، على نحوٍ غير متوقع
البتة!
ولا أبوح
سراً إن قلت إن معظم أبناء عالمنا العربي يتملكهم ذات الشعور بالنفي والاغتراب عن
الوطن وهم داخل أوطانهم، فتراهم يعبّرون عن ذلك، بمحاولة استرجاع ذكريات الماضي
والحديث عن الزمن الجميل وذكريات الطفولة وما هذا إلا تعبير عن عدم انسجامهم مع
هذا العصر، أو المجتمع الجديد الذي تفاجأوا به ورفضهم الداخلي له، مما يدفعهم الى
الانزواء رويداً رويداً إلى ذواتهم والعودة بها إلى ذكريات الماضي والطفولة، أو
بمعنى أدق، الاحتماء بها من تناقضات هذا العصر.
ولا شك ان
هذه الحالة، تدفعنا للحديث عن دور المثقف وعلاقته مع السلطة، سواء كانت سلطة
سياسية أو دينية أو حتى اجتماعية، فعلاقة المثقف والمفكر غالباً ما تكون علاقة
شائكة مع طبقة المتنفذين والسياسيين، سرعان ما تتطور لكي تصبح علاقة تضارب
واشتباك، بحيث تنتهي بتهميش دور المثقفين والمفكرين، ونبذهم كي يتحولوا بدورهم إلى
منفيين يعيشون على هامش المجتمع، وهو ما يضعهم أمام خيارين أحلاهما مر، إما
الاستمرار في العيش على هامش الحياة أو الهجرة والنفي عن الوطن.
إن حالة
المثقف أو المفكر "الحقيقي" هي حالة اغتراب مستمرة، فهو في حالة اشتباك
دائم مع أفكار السلطة مهما كان شكلها، وهو أيضاً في حالة من المراجعة النقدية المستمرة
لأفكار المجتمع، تجعله بشكل من الأشكال إنساناً هامشياً مُستبعداً عن حسبة المناصب
وصالونات النخبة الحاكمة، بل ومسثنىً من قائمة الوظائف وسبل العيش الرغيد، وهو ما
يجعله بشكل او بآخر منفياً عن الوطن ومنبوذاً من السلطة.
ولعل هذا ما
يدفع المثقف إلى تعزيز دوره القائم على الاستكشاف والترحال الفكري ومحاولة مد جسور
التعاون مع مختلف الثقافات والشعوب بناء على القيم الانسانية المشتركة ودون أي
اعتبار للمعتقدات والمذاهب والجنسيات، محققاً بذلك عن قصد أو غير قصد، دور المثقف الأساسي
في إفادة البشرية والاهتمام بالشان الإنساني العام.
إن صنوف
المنفيين في الأرض، عديدة وكثيرة، فهي تضم أؤلئك الذين غادروا أوطانهم لكي يجعلوا
من العالم مكاناً أفضل لأبنائهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك شظف العيش وقسوة الغربة،
والبعد عن شمس أوطانهم ودفء أحضان الأهل والأحبة.
وتضم أيضاً
أؤلئك الذين حملوا على أكتافهم، مسؤولية الاشتباك مع السلطة ومعارضة طغيانها،
ومسؤولية نقد المجتمع ومعارضة اختلالاته، وتحملوا في سبيل ذلك الاغتراب في الوطن،
أو النفي عنه.
وهم كذلك
طبقة المسحوقين والمواطنين البسطاء الذين يعيشون على هامش الوطن، ويتملّقهم كل
فاسد ووصولي، ولكنهم رغم ذلك لا يمتنعون عن ممارسة مواطنتهم والقيام بواجباتهم بل وافتداء
الوطن بأرواحهم إن لزم الأمر.
إلى كل
المهمّشين والمنبوذين والمغتربين، إلى كل المنفيين في الأرض، طوبى لكم!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-2-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق