نحن شعوبٌ
عاطفية ما زالت تؤمن بالخرافة، وتنسج في خيالاتها الثقافية قصص الأساطير والقوى الخفية،
وتربط كل حدث كوني أو ظاهرة طبيعية بغضب إلهي، أو معجزة لنصرة الحق واستعادة حقوق
المستضعفين.
وهذا يجري
أيضاً على تفاعلنا مع قضايا الشأن العام، وغالب القضايا العالمية، فنعتمد في الحكم
عليها، على ردة فعلنا العاطفية وأحاسيسنا التي غالباً ما تخطىء كونها مليئة بالافتراضات
الانفعالية والمخزونات الثقافية والمرجعيات المُضلّلة.
بعد انتشار
فيروس كورونا في الصين، تسابق الناشطون في العالم العربي على التذكير بجرائم الصين
في حق الأقلية المسلمة في الايغور، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها السلطات
الصينية في حقهم، وهي لا شك، جرائم شنيعة تستدعي أكثر بكثير من الاحتجاجات الخجولة
على شبكات التواصل، والمنشورات التي تستدر العواطف وتذكر بضعف الشعوب المسلمة
واستهدافها فوق كل أرض وتحت كل سماء.
ولكن الجديد
اليوم، هو ربط انتشار فيروس كورونا باقتراف تلك الجرائم في حق المسلمين والخروج
بنتيجة أن الله سبحانه وتعالى يعاقب السلطات الصينية بفيروس قاتل لا علاج له.
في ليلة وضحاها
أصبح فيروس كورونا جنداً من جنود الله، يخوض معركة وجودية، بالنيابة عن المسلمين
في الأرض! هل لكم أن تتخيلوا مقدار العجز الذي يختبىء خلف هذا الإدعاء أو
الاستنتاج التحليلي الصادم!
هناك نشوة
خفية، وشعور بالانتصار والزهو، تكاد تشعر به يفوح من كل كلمة تقرأها في هذا
الخصوص، وكأن صاحبها اكتشف أو تحقق من أن وراء كل مسلم ضعيف قوّة عظمى قادرة على
نصرته حتى لو كان الطرف الأضعف، أو استكان أو تخاذل.
ولكن هذا
المنتشي بنصر الله على السلطات الصينية تناسى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم، وأن الله لم يدعنا يوماً إلى الاستكانة أو الركون إلى نصر الله، بل
دعانا إلى العمل والتغيير.
ليس هذا
فحسب، بل إن مجرد التشفّي بمأساة إنسانية مثل فيروس كورونا هي أبعد ما يكون عن خلق
المسلم القويم، والأدعى أن نتكاتف سويةً ونقدّم العون لأخينا الانسان في محنته إن
استطعنا، أو على أقل تقدير أن نواسيه ونشاركه بمشاعرنا ووجداننا، وهذا أضعف
الايمان.
إن هذه
العقلية والمرجعية المعطوبة التي نشأنا عليها (مع فرض حسن النية) لن تجلب نصراً
ولن تحقق تقدماً فكرياً أو قفزة حضارية، بل ستجلب مزيداً من الرجعية والتخلّف.
ذات يوم
بعيد، سبق أحداث الربيع العربي كنت معتكفاً في إحدى ليالي رمضان، في أحد المساجد
الكبيرة والمعروفة في العاصمة عمّان، وكان المسجد يفيض بمرتاديه، والجميع ينصت
باهتمام لدرس ديني عن ظهور المهدي المنتظر، والمواجهة مع أعداء الأمة، وبعد انتهاء
الدرس سأل أحدهم عن واجب المسلمين والتحضيرات التي عليهم عملها للاستعداد لتلك
المرحلة، سيما أن الدرس يشير إلى قربها، فكان جواب الشيخ حرفياً (لا شيء، سوى
الانتظار!).
لم تغادر
هذه الاجابة تفكيري منذ تلك اللحظة، وأنا دائم التفكير في الرسالات المُبطّنة التي
نوصلها لأتباع هذا الدين (رغم كل ما أحمله من احترام وتقدير لرجال الدين والدعوة)
والتي لا تُعبّر سوى عن الاستكانة وقلّة الحيلة وانتظار المعجزات. لا شيء عليك فعله،
إنه عمل الله سبحانه وتعالى، وما عليك سوى الايمان والانتظار!
وهذا في
الحقيقة هو أحد الأسباب التي أنتجت في النهاية جيلاً من "الدراويش"
الذين لا يستيطعون ربط الايمان بالعمل أو بالعلم والثقافة، والتقدّم الحضاري، ودليل
ذلك أنهم يؤمنون أشد الايمان بأن مجرد الايمان والتعبّد كفيل بنصرة أحدهم على
مشاكله، وتقدم شأنه في العمل والمجتمع، بل ونصرة الأمة كلها عسكريا وحضاريا، وعلميا
أيضاً.
هذه
المفارقة في التفاعل مع الأحداث، تكرّرت مع إعلات ترامب لتفاصيل بنود صفقة القرن،
والتي تحولت فيها فلسطين التاريخية إلى مجرد كانتونات متفرقة يجمعها نظام حكم محلي
منزوع الجسد، خالٍ من السيادة، أو بمعنى آخر وطن "لايت" يسهل حمله في
شنطة السفر، أو وضعه جانب السرير في أحد الموتيلات.
لقد كانت
ردة فعلنا عاطفية كالعادة: مهما حدث فالله قد وعدنا بتحرير الأقصى!
نتناسى أن وعد
الله سبق الحملة الصليبية على القدس وحرب المغول والاحتلال البريطاني قبل أن يسبق أيضاً،
الاحتلال الصهيوني، لقد احتل الصليبيون القدس مئة عام وجعلوا من المسجد الأقصى
حظيرة لدوابهم، فهل سننتظر حتى يهدم الصهاينة المسجد الأقصى ويبنوا هيكلهم المزعوم
ولا نرد عليهم سوى بوعد الله!
هذا التناقض
بين التخطيط والعمل من قبل أعدائنا، في مقابل الاستكانة وعقلية النصر الالهي
المزروعة في عقلنا الجمعي، هو في الحقيقة ما أدى إلى هذا الانحدار غير المسبوق في قبول
الشعوب للأمر الواقع وتقبلهم لأحوالهم السيئة.
أنا لا أستثني
دور الأنظمة القمعية والخيانات، ولا أتغاضى عن فساد السلطة وإرهاصات أوسلو، وعملية
السلام التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، ولكني أتحدث عمّا يخص الشعوب، ودور
المثقفين والناشطين، وعن ردة الفعل الشعبية الخجولة على كل ما يحصل، وعن تلك الاستكانة
التي تجعل منا نسخة إنسانية عطنةً مهزومة.
تبجّح ترامب
بعد إعلان القدس عاصمةً لاسرائيل بأن شيئا مهولاً لم يحدث، وأن السماء لم تسقط!،
وهو اليوم يتحدى استكانتنا، وسيقول بعد أيام، إن السماء لم تسقط أيضاً.
أرى من
واجبي أن أقول اليوم، احذروا من النسخة المستكينة التي زرعوها في داخلنا (بحسن نية)،
وأحذروا من تكرار هذا الخطأ مع أبنائكم، علّموهم أن الجندي الذي ينتصر في المعركة
هو الجندي الأقوى والأذكى والأكثر استعداداً، وأن الرجل الذي ينجو من الغرق هو
الرجل الذي يعرف السباحة، وأن من يقود المجتمع للتقدم والحضارة هو المُفكّرُ
والعالِمُ والمثقف، وبعد هذا كله يأتي توفيق الله، فالله اشترط العمل قبل النصر.
وعلموهم أن ديننا
يذمّ الوهن والضعف والكسل والذل وقلة الارادة وضعف العزيمة، يقول الله سبحانه
وتعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم
الصابرين).
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
3-2-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق