أثناء دراستي الثانوية وخلال العطل الصيفية كنت أعمل لدى أحد محلات تأجير أشرطة الفيديو في منطقتي السكنية، فمن جهة كنت أقضي وقتا مفيدا في العمل، ومن جهة أخرى كنت مولعاً بالسينما ومشاهدة الأفلام.
وذات مساء وأثناء مراجعته لشؤون الأعمال اليومية وقوائم
الحركة على الأفلام، وبّخ صاحبُ العمل الموظفَ المسؤول عن قسم الأفلام العربية، وصرخ
في وجهه قائلاً: فيلم (البنت اللي قالت لأ) لم يتم استئجاره ولو لمرة واحدة منذ أن
تم شراؤه منذ أكثر من سنة، ماذا تصنع!
هذا الفيلم بطبيعة الحال، كان من الأفلام الهابطة، فنياً وشعبياً
وعلى مستوى شباك التذاكر وعلى صعيد كل المؤشرات التي قد تخطر على بالك!
عبد الرحمن (الموظف الذي تم لومه وتوبيخه)، كان داهية في
عمله، وقد أثّرت هذه الحادثة فيه كثيراً، لذا بادر من صبيحة اليوم التالي إلى صنع عدة
نسخ من الفيلم ووضعها خلف مكتبه مباشرة، وهو المكان المخصص لفئة أفلام ال VIP، ثم عمد الى
تنفيذ خطة مُحكمة لترويج وتسويق الفيلم، ففي كل مرة يأتي فيها أحد الزبائن
الشغوفين بالأفلام العربية، وبعد أن يختار مجموعة من الأفلام المميزة وفي اللحظة
التي يهمّ بها في المحاسبة ومغادرة المحل، يبادر الى سؤاله بلهجته المصريّة: (هو
انت شفت فيلم البنت اللي قالت لأ؟) بطبيعة الحال السؤال بحد ذاته يوحي أن هذا
الفيلم هو نارٌ على علم، أو فيلم من أفلام الجوائز العالمية، خصوصاً أنه يحمل
اسماً رناناً، وهنا تجتاح الشخص الواقع في الشرك، مجموعة من المشاعر المختلطة، فهو
لم يسمع بهذا الفيلم من قبل، (إذ أنه غير موجود على خرائط الأعمال الفنية المعروفة
أصلاً!)، ولكن من وحي السؤال يشعر بأنه قد فاته شيء عظيم، مع خليط من الشعور
بالذنب، إذ كيف يفوت على أحد أكثر المتحمسين لمتابعة الأفلام العربية فرصة مشاهدة
فيلم مهم كهذا، يتحدث عنه الناس!
وفي ظل هذا التأثير، ومع ابتسامة خبيثة مصطنعة من عبد
الرحمن، يبادر الزبون بالإجابة: في الحقيقة لا، ثم يضيف بشيء من الرجاء، هو
موجود؟ وهنا بالذات كنتُ ألمح في عيني عبد الرحمن نشوة الانتصار، فيجيب منتشياً،
آه طبعاً، ده أكثر فيلم عندنا نسخ منه، يا سلام إزاي تفوّت الفيلم ده!
وهكذا زبون بعد آخر، إلى ان تصدّر الفيلم قائمة مبيعات
المحل لذلك الشهر، حتى أن صاحب العمل أصابته الدهشة وعبثاً حاول فهم ما جرى!
بالتأكيد كان هناك بعض الزبائن الذين عادوا باللوم على عبد
الرحمن لرداءة الفيلم، ولكن رد عبد الرحمن كان جاهزاً دائماً، (طبيعة الفيلم لم
تناسب حضرتك) (غلطان والله، ده فيلم جوائز) (يا سيدي يعني فيلم واحد لم يعجبك من
ضمن خمسة أفلام بسيطة يعني) (غريبة، الكل بيمدح في الفيلم!). ولكن كل هذا لم يكن
في النهاية مهماً، فالأهم بالنسبة لعبد الرحمن أنه قام بتسويق أحد أسوأ الأفلام
بشكل قياسي لم يسبق له مثيل. أما بالنسبة لصاحب المحل، فالأهم كان الربح الكثير
وتعويض الخسارة المؤكدة، ولا ضير من بعض الاحتجاجات البسيطة!
ذات مساء، وبعد أن قلّ اهتمام عبد الرحمن بتسويق الفيلم،
بعد تحقيقه أكثر من المتوقع من المبيعات، دخل أحد الزبائن الى المحل، وتوجّه
بالسؤال دون تعيين هل أجد لديكم فيلم "البنت اللي قالت لأ"؟ وبحركة لا
ارادية توجهت أنظارنا جميعاً إلى عبد الرحمن، مع صدمة ودهشة حقيقتين!
لحظات الصمت هذه شحنت الأجواء، وزادت من تعلّق الزبون
بالفيلم، وبدأت نظرات الرجاء تطفو على ملامح وجهه، وبعد صمت طويل ومحاولة ادعاء أنه
يبحث عن نسخة من الفيلم قال عبد الرحمن معتذراً، والله للأسف كل النسخ طالعة!، خاب
أمل الزبون وخرج وهو يجر أثواب الخيبة.
سألت عبد الرحمن موبّخاً من جهة ومستفسراً بفضول من جهة
أخرى، لماذا؟ ولكنه بكل ثقة ابن سوق محترف أجاب: (يا عم ده زبون طيّار وانا مش
حأطلّع فيلم مطلوب في السوق لزبون مش دائم للمحل! الفيلم بقى عليه طلب!).
نعم كانت هذه هي الحقيقة التي لم أفهمها لحظتها، لقد
بدأت عجلة التسويق بالدوران دون الحاجة الى أي عمل من عبد الرحمن!
لم أنسَ قصة عبد الرحمن مع هذا الفيلم بكل تفاصيلها رغم
مضي أكثر من ربع قرن عليها، ليس فقط لأنها وسّعت مداركي نحو أهمية التسويق
والنباهة في العمل ودراسة نفسية العميل...الخ ولكن لكونها أولاً وأخيراً درساً في
تسويق الفساد والترويج الناجح للبضائع الهابطة!
في كل يوم أشاهد أمامي عبدالرحمن وفيلم البنت اللي قالت
لأ، في كل اعلامي يقوم بتلميع شخصية فاسدة أو يدافع عن نظام دموي، في كل نائب عن
الشعب يتاجر بصوته والأمانة التي يحملها، في كل وزير يقوم بتغيير أجندته وأقواله بعد
جلوسه على كرسي السلطة، في كل مسؤول يتولى مركزا مهما وهو لا يحمل من المؤهلات سوى
نسبه وحسبه، في كل موظف يمارس عمله في غش وخداع العميل ولا يراعي أخلاقيات المهنة،
في كل صحافي ينفذ توجيهات عليا، رغم مخالفتها لكل قيم الصحافة، وفي كل طُغمة
سياسية فاسدة تولّت الحكم في بلادنا، وتحكّمت في مصائرنا، رغم أنها هابطة ورديئة
وفاشلة ومُقيتة بل ومُجرمة!
عبد الرحمن، تجسيدٌ بسيطٌ ولكنه حقيقي لكل سحّيج ومُطبّل،
يمدح السلطة مقابل المال، أو ظناً منه أنه يمارس وطنيّته، ويخلط بين مفهوم الوطن
والسلطة الرابضة على صدر الوطن!
فيلم البنت اللي قالت لأ، هو تجسيدٌ للفساد الذي أصبح
مؤسّسيّا في مجتمعاتنا العربية، بحيث أصبح ينتج نفسه بنفسه دون الحاجة للتسويق له،
بل إن محاربة الفساد في عالمنا العربي أصبحت أشبه ما تكون بمعركة "دون كيشوت"
مع طواحين الهواء!
قد تكون قصة عبد الرحمن نسخةً بريئةً مقارنة بما آلت
اليها الأحوال في عالمنا العربي، منذ بدء موجة ثورات الربيع العربي وما لازمها من
تغييرات في تكتيكات الأنظمة القمعية، لمواكبة الأحداث وركوب موجة التأثير على
المجتمعات، عبر وسائل التواصل ومنصات الاعلام المختلفة، بحيث لا يكاد يخلو يومٌ من
ظهور نسخة متطورة من عبد الرحمن، في هيئة إعلامي مأجور أو سياسي فاشل أو فاسدٍ
متكسّب، يمارسون نفس العمل: يطلّون برؤوسهم ناصبين شراكهم، محاولين تسويق برامجهم
السياسية الفاشلة وخططهم الاقتصادية العبثية، ووعودهم الإصلاحية الكاذبة، ومستخدمين
نفس الأسلوب الجذّاب ولغة الخطاب الماكرة: (هو أنتو شفتو فيلم البنت اللي قالت
لأ؟!)
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
11-11-2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق