في الثقافة
الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore)
للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة
عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر
الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة
معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى
غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.
لا يتحرّج
الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك
هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة
مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة
نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو
عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في
ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.
مشكلتنا في
الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع
أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن
وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة
الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية،
ونتصرف بناء على حالتنا تلك.
على سبيل
المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها
أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي
انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً
ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.
أما حين
تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير
عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من
الحب المفرط إلى الكره والبغض.
ولا ندرك أننا
وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم
مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم
وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.
وعلى نفس
المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه
أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو
العداء!.
إن عدم
قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على
استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم
ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه،
أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح
بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.
وهكذا يتحول
الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى
مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية
مزمنة لا خلاص منها.
كم أتمنى أن
نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن
نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم،
فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها
التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.
نشرت إحدى
الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة
العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب
من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على
العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا
بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل
هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد
التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي:
" لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"
هذا التعليق
بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو
قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل
العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً،
كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات
السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات
للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل
لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!
لم أجد أبلغ
من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح
جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا
وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما
المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في
الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.
أحلم ذات
يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل
انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل
إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا
نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس
تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق