قبل عدّة سنوات،
تحايل عليّ أبنائي كي أنتظم في قصّ قصة قصيرة عليهم قبل النوم، وكنت بدوري أقصّ
عليهم قصةً بين حين وآخر، ثم أتذرّع بأعذار كثيرة حين لا يسعفني الوقت أو تخونني
الذاكرة، ثم ما لبثنا أن اتفقنا على أن أروي لهم قصة قصيرة في طريق عودتنا من
المدارس وبشكل يومي، مع استعراض العبرة من القصة والتعليق عليها.
كان الأمر
ممتعاً، وأكثر من مجرد إخبار حكاية للتسلية، لقد اكتشفت أنها طريقة تواصل ممتعة
ومفيدة بل ومدهشة بكل المقاييس، عادت بالنفع على الجميع.
شخصياً أدّت
هذه التجربة إلى إثراء معرفتي، وتحفيزي لإعادة صياغة الحكاية وجعلها أعمق في
المعنى، مع إسقاط ما أرغب بإيصاله من حكم وأمثال ومواعظ.
في البداية استخدمت
مخزوني من القصص والحكايات التي أحفظها، وتفاجأت بأن لدى الإنسان قدرة على استرجاع
معظم الحكايات والقصص التي سمعها أو قرأها في مختلف مراحل عمره بأدق تفاصيلها، لقد
عادت بي الذاكرة إلى المراحل الدراسية الأولى، واسترجعت القصص التي مرّت علي،
سواءً في المنهاج، أو تلك التي حدثّها بنا الأساتذة، إضافةً إلى حكايا ووصايا أمي
وأنا طفل صغير، وذكريات أبي والقصص التي حدثنا بها عن قريتنا في الوطن السليب.
ولكن بعد نحو
سنة، نفد المخزون الشخصي، واضطررت للاستعانة بالإنترنت والبحث عن قصص الأطفال المفيدة،
أو بعض القصص مما أقرأه من روايات وكتب، مما أستطيع قولبته في قالب من الحكايا
المسلية والمفيدة.
المدهش في
الأمر، أن هذه القصص القصيرة، تكون غالباً ذات بُعْد فلسفي عميق، وأثر نفسي على
المتلقّي، دون تمييز في عمره أو مستواه الفكري، فهي قصص للأطفال والكبار على حد
سواء، وكلٌ يستطيع ان ينهل منها بحسب نضجه وقدرته المعرفية.
من بعض ما
قرأت (وتصرّفت في روايته)، أنه في إحدى القرى القديمة عاشت عجوز مات عنها زوجها
وأولادها وباتت بلا مُعيل ولا كفيل، فالتمستَ العطف من مختار القرية، الذي جمع
بدوره أهل القرية وتشاور معهم في الأمر، حيث توافق معهم على إمداد هذه العجوز بما
يلزمها من طعام وشراب وإعانتها على أمور الحياة.
وهنا أمر
المختار بوضع ثلاث جِرار أمام بيت العجوز وسلّة كبيرة، تُخصص الجرّة الأولى لوضع
الحليب، والثانية لوضع العسل، والثالثة للماء، أما السلّة فتُخصّص لوضع الخبز،
وأمر أهل القرية بأن يضع كل بيت من البيوت كوباً من الحليب والعسل والماء، ورغيفٍ
من الخبز في المكان المخصص كلّ ليلة.
وفي المساء
غفت العجوز على صوت دلق الحليب والعسل والماء في الجرار، وصوت الخبز وهو يتهافت في
الصندوق المخصص، لم تكن الدنيا تسعها من الفرحة، بل إن النوم جافاها من السعادة،
وبقيت في انتظار الصباح بلهفةً وهي لا تكاد تطيق صبراً، ومع ساعات الصباح الأولى،
اغترفت كوباً من الحليب فإذا به ماء خالص!، ثم اغترفت كوباً من العسل، فإذا به ماء
صاف!، ثم مدت يدها لتناول الخبز وإذا به يابس مكسور عفن!
لم تكد تصدق
ما جرى، وشكّت في قواها العقلية، ثم اتجهت مسرعة إلى بيت المختار، وأحضرته ليعاين
بنفسه، وما أشد الصدمة عندما تيقن المختار من صدق ما حدّثته به!
استشاط
المختار غضباً وجمع أهل القرية، وسأل كل واحد فيهم عن وفائه بالاتفاق الذي أجمعوا
عليه. في البداية دافع كل شخص عن نفسه بانه أدّى المطلوب ونفذ الأمر، ثم سرعان ما
أدركوا جميعاً سوء صنيعهم، وتبادلوا نظرات الخيبة!
وقف ابن
المختار وقال سأحدثك يا والدي عمّا حصل، في الليلة الماضية أمرتني بأن أذهب وأكون
أول شخص يضع نصيبه المفروض للعجوز، في البداية شرعت في تنفيذ الأمر، ولكني توقفت
لوهلة وقلت لنفسي أليس أهل بيتي أحق بهذا النصيب من الطعام؟ ثم خطر في بالي أن أضع
كوباً من الماء في جرة العسل وكوباً آخر في جرة الحليب وأن اختار الخبز الناشف
والبائت فأضعه في سلة العجوز، وحدّثتني نفسي بالقول (ما سيضير العجوز لو اختلط كوبٌ
واحد من الماء في جرة مليئة بالحليب أو العسل؟!، وماذا ستصنع العجوز بكل هذا الخبز
من أهل القرية، سينتهي بها الأمر إلى إلقائه إلى الطيور والعصافير، فلتأكل الطيور
من بواقي الخبز.
ثم نظر الفتى
إلى الرجال المجتمعين، وقال: وأظن يا أبي أن كل واحد من أهل القرية قد خطرت له نفس
الفكرة، وصنعَ ما صنعتُ أنا!. انتهى
ألا تتفقون
معي، أننا جميعاً نصنع مثلما صنع أهل هذه القرية بشكل أو بآخر، كم من مرّة طالبنا
المجتمعَ بفعل الخيرات وتقديم التضحيات، ولكن عندما يكون الفعل من نصيبنا نعتبر أنفسنا
مستثنيين من القاعدة، وفي النتيجة نكون قد اعتمدنا على غيرنا ليقوموا مقامنا.
نقوم بالغش
في مجالنا، ولكننا لا نقبل الغش من الآخرين، بات الواحد فينا ورماً سرطانيا بذاته،
ولكنه يرتجف خوفاً من أن يُصاب بالعدوى من الآخرين!
ننتقد
الشباب في المجتمع لتسيّبهم وعدم تحملهم المسؤولية، وعلى اتكاليتهم المُفرطة،
ولكننا نُغالي في دلال أبنائنا ونربيهم على عكس ما نصرّح به، وحين يكبرون، يصبحون
مثالاً لكلّ شيء انتقدناه في المجتمع!
وهكذا مع كل
قصة وحكاية، وجدتُ دائماً دعوةً للتأمل، وتحفيزاً لمجموعة من الأسئلة الفلسفية.
أدعوكم، بأن
تقضوا مزيداً من الوقت مع أطفالكم وأن تقصّوا عليهم ممّا تحفظون من القصص أو
التجارب الشخصية المفيدة، قبل النوم أو بعده أو ساعة الظهيرة، لا يهم، المهم أن نتواصل
مع أبنائنا ونرسّخ عندهم القيم الإنسانية والواجبات الأخلاقية التي تربّينا عليها،
كي لا يوقر في قلوبهم أن ما يشاهدوه من سلبيات في الواقع والمجتمع هو أمر مستساغ،
يجب علينا تقبّله من باب تغيّر سنّة الحياة.
كما أدعو
بشكل خاص المعلمين والمعلمات في كل المراحل على الاستشهاد بالقصص والأحداث
التاريخية لإيصال المعلومة، لأن هذه القصص تُحفر في ذاكرة الطلاب ويكون لها تأثير
كبير على العقل الباطن أو اللاواعي.
أيمن
يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-12-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق