عطفاً على مقالي الأسبوع الفائت (الإسلام والعلمانية-حوار الطرشان)، أستعرض في هذا المقال فكرة الدولة المدنية بمفهومها الديني، بحسب فهمنا المعاصر للقرآن الكريم، مستفيداً من أطروحات مفكري هذا العصر، القائمين على تجديد الخطاب الديني بمفهوم بحثي علمي حقيقي، ومستندين على النصوص القرآنية.
ولعل البداية البديهية، هي الانطلاق من تعريف الإسلام بمعناه الشمولي العام، الذي يجمع تحت بوتقته كل الموحّدين بالله والمؤمنين بالحساب (اليوم الآخر)، والذين يعملون العمل الصالح بشقّيه العبادات (الشعائر)، ومنظومة القيم الإنسانية (اتباع الأوامر والنواهي الإلهية).
وبهذا المفهوم، فإن دين الله واحد، وهو الإسلام الذي بدأ بسيدنا نوح وانتهى بخاتم النبيين سيدنا محمد، بيد أن الرسالات السماوية اختلفت باختلاف العصور، وترافقت بشعائر خاصة، وتدرّجت الأحكام الشرعية فيها من الشدّة إلى السهولة والتبسيط، لتتناسب مع التطور الإنساني، حتى وصلت إلى الصيغة التي تضمن مساحة كافية من الحرية للإنسان وتفتح باب الاجتهاد للمجتمعات لتسيير شؤون حياتهم ضمن ما يناسب عصرهم.
وكذلك ارتقت منظومة الأخلاق بحسب التطور الحضاري للبشرية، حتى وصلت إلى صيغتها النهائية في الرسالة الخاتمة، ولكن الجوهر واحد، والقواسم المشتركة واحدة لأنها جاءت متناسبة ومتّسقة مع الفطرة السليمة.
انطلاقا من هذا الفهم، يمكن استيعاب شمولية وعالمية الإسلام، الدين الذي يجمع ولا يُفرّق، ويضع مصير الخلائق جميعاً في يد الحاكم الواحد، وليس بيد البشر أنفسهم، ليحاكموا بعضهم بعضاَ أو يستأثرون بنصيبهم من مرضاة الله ورحمته.
يقول الله تعالى (لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه) إلى قوله (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) فما علينا سوى الالتفات إلى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ونبذ الاختلاف والعصبية.
وبهذا الفهم يمكننا فهم الآية الكريمة (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه) فالإسلام هو نطاق الوحدانيّة لله الذي يضم كل الرسالات السماوية، ومن يختار دينا آخر لا يدين به لله بالوحدانية، يكون قد خرج من دائرة الايمان، ولا يخضع للحساب أصلا لأنه ناكرٌ له.
وبعد استيعاب معنى الإسلام (دين الله الواحد)، ينبغي علينا استيعاب المبدأ الأساس الذي قام عليه تكليف البشر، ألا وهو الحرية. لقد خلق الله هذا الكون لكي يكون للبشر حريتهم المطلقة في الفكر والاعتقاد (الايمان والكفر)، والعمل (العمل الصالح أو عمل السوء)، وبهذا يستحق الفرد فينا الثواب أو العقاب، الجنة أو النار، وهذا هو الميثاق الذي وضعه الله للخلق منذ اليوم الأول، بل إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه منح "إبليس" حرية الدعوة إلى غير سبيله، بعد ان اختار إبليس وبكامل حريته معصيّة الله.
ومن هنا نقول إن كل أشكال الدولة الدينية التي تقوم على سُلطة الإكراه هي منافية لمراد الله في الكون، ولا تُحقّق (على عكس ما يعتقد البعض) الشروط الأساسية للمجتمع الإنساني كما ينبغي له أن يكون.
فكُلُّ عبادةٍ أتت بالإكراه أو لكونها الخيار الوحيد المتاح، وكُلُّ منهيٍ عنه تحقّق بالقمع، أو أمرٍ محمودٍ تحقّق بالإرغام، لا قيمة له عند الله تعالى، ليس هذا فحسب بل إنه لا يعطي التأثير اللازم والمفعول المطلوب في نفس الفرد ولا ينعكس كذلك إيجابيا على المجتمعات كما هو مطلوب.
إن المجتمعات القائمة على الرأي الواحد والحزب الواحد مهما كان اعتقاد هذا الحزب، هو عصيانٌ لرغبة الله في هذا الكون الذي خلقه على أساس "الحرية"، ودليل ذلك قوله تعالى (فمن شاء فليكفر ومن شاء فليؤمن)، فكل مجتمع يُكره أفراده على العبادة لأي إله، هو مجتمع مقهور لا مجتمع مؤمن، فنحن البشر لم نُخلق للعيش في عالمٍ شبيه برواية 1984!
لذلك نقول إن مفهوم الجهاد الحقيقي هو ضمان حرية الدعوة إلى سبيل الله في كافة المجتمعات، ورفع الظلم عنها، وليس إكراه هذه المجتمعات على اتّباع دين معين (أفأنتَ تُكرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين).
ومن هذا المنطلق نقول إن المجتمع الإسلامي (بمفهومه العالمي) يقوم على احترام حرية العبادة والفكر والتعبير، ويضمن عدم الإكراه.
وبعد ذلك يأتي قانون التعايش السلمي القائم على الفضيلة المبنية على الفطرة الإنسانية، والتي لا تشترط إيمان المرء، ولا تميز كذلك بين أتباع الرسالات السماوية، فالكل في هذا الأمر خاضع لهذه القيم الإنسانية العامة، مثل بر الوالدين، الالتزام بالعهود، الصدق في التعامل، حسن الجوار، دفع الزكاة (بمسمياتها)، شروط البيع الحلال، حسن أداء العمل.....الخ
إضافة إلى الابتعاد عن المُحرّمات، المتوافقة أيضاً مع الفطرة البشرية، والتي لا تخضع لأهواء البشر، ولا للقوانين البشرية وهذه المُحرّمات وردت بالتفصيل في كتاب الله ومنها الزنا والقتل والسرقة وأكل مال الغير ...الخ
إن أي مجتمع يحقق هذه الشروط من حرية الأفراد، وسن القوانين للالتزام بالأوامر والنواهي والابتعاد عن المُحرّمات، ويلتزم باحترام مكونات المجتمع بغض النظر عن الجنس والفكر والعرق والدين، ويقوم على أساس العدل والمساواة بين كافة مكوناته، هو مجتمع إسلامي، وهو إنموذج الدولة المدنية التي يرضاها الله لنا، وفي هذا الشكل من الدولة، نحقّق الحاكميّة لله وحده، ونخضع لعهده وميثاقه.
وهذا النموذج من الدولة موجود في كثير من دول العالم، مع بعض النواقص والاستثناءات، وهو شكل غير مُعجز ولا شكلاً من أشكال الفانتازيا أو المدينة الفاضلة، التي لن تتحقق يوماً، لأننا بشر ولسنا ملائكة.
وهذا الشكل من أشكال الدولة يتيح المجال الواسع للمجتمع، للاجتهاد في صياغة القوانين والدساتير التي تناسب ظروفه وعصره، ولا يحدّ ذلك سوى قدر ضئيل من الحدود، فعدد المُحرّمات التي حصرها القرآن لا تتعدى 14 مُحرّماً، ومنظومة الأوامر والنواهي كذلك لا تخرج عن إطار الأعراف والتقاليد والفطرة الإنسانية (خذ العفو وأمر بالعرف)، والرسالة المحمدية جاءت رسالة رحمة وتيسير (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
لذلك يمكن القول إن الدولة الإسلامية لا يشترط لها وجود سلطة دينية على رأسها، ولكنها بحاجة إلى سلطة مدنية ذات مرجعية أخلاقية تضمن للمجتمع حريته الدينية والتزامه بمنظومة القيم الإنسانية كما وردت في كتاب الله، لأن الضمير هو السلطة الحقيقية على البشر وليست الدولة أو السلطة الحاكمة.
كما أن القوانين المدنية مُتطوّرة بطبعها، ولا يمكن حبسها في نصوص جامدة، ومن هنا نقول إن السنة النبوية جاءت لتنظيم المجتمع ضمن حدود الله، واتّباعها يكون باستمرار الاجتهاد فيها، وليس في غلقه، وهذا مصداق الحديث الشريف (بلّغوا عني ولو آية فرُبّ سامعٍ أوعى من مُبلّغ).
فالرسول مارس السلطة العسكرية والقضائية وقيادة الدولة (وبالضرورة السلطة الدينية) من باب النبوّة، وأسّس من خلال ممارساته، مدرسةً متكاملة في الاجتهاد في الحكم، لتكون مثالاً لمن بعده، ولكنه لم يتدخل من قريب أو بعيد في شكل الدولة من بعده، بل إنه لم يوصِ بخلافته لأحد، وترك هذه الأمور عن قصد، لتتم صياغتها حسب التطور الحضاري للمجتمعات، ولم يُردها أن تكون قالباً جامداً، أو أن تتخذ شكل الكهنوت والحكم المُقدّس، ولكننا ويا للأسف وضعناها في صندوق جامد وحاولنا تقليدها، بل إننا ما نزال نحاول تقليد النموذج التقليدي الفاشل منها إلى يومنا هذا!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
8-12-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق