الزمان: عام كورونا
استيقظت "ندى" بروحٍ متعبة، متثاقلةً ومتكدّرة، ولبضع ثوانٍ كانت تحاول تذكّر إذا ما كانت تعاني من كابوس أو حلمٍ ثقيل، ولكنها سرعان ما استدركت أن حالة الانزعاج والملل والكآبة، قد لازمتها منذ أن اجتاح "كابوس" فيروس كورونا المنطقة وأجبر السكان على التزام بيوتهم، والانعزال عن المجتمع.
أعدّت فنجان قهوة ورشفته على معدتها الخاوية، رغم معرفتها بالضرر الذي يحدثه ذلك على صحتها، وأتبعته بسيجارة، وبينما كانت تنفث الدخان بقوّة، كأنها تحاول التخلص من الطاقة السلبية في داخلها وطردها بعيداً عنها، كانت تسترق النظر من شرفتها إلى ناصية الشارع الخالية من المارة سوى من حركة خجولة وقلقة.
وضعت كرّاستها أمامها واستلّت قلمها، ثم كتبت على رأس الصفحة (رسائل في زمن كورونا)، ثم بدأت باسترجاع أحاديثها في الفترة الماضية مع ثلّة من المعارف والأصدقاء، كانت قد تناقشت معهم حول الظروف الانسانية والمعاناة التي يعيشونها في "زمن كورونا" أملاً منها بأن يعود قلمها الصحفي إلى الكتابة من جديد، بعد أن دخل هو الآخر كما يبدو في حجر صحي!
كتبت عن صديقتها "رنا"، ومدى تأثرها باغلاق دور العبادة وخلو الكعبة من الطائفين، وكيف أن صلاة الجمعة تحظر لأول مرة في العالم الاسلامي، وأن هذا كله يدعونا إلى إعادة التفكير بعلاقتنا مع الله، والتأمل في ضعف البشرية وصغارها أمام جند الله. ثم أنهت تلك الفقرة بالاقتباس الذي قالته رنا وصوتها يتهدج (إن لم يكن لك علي غضبٌ فلا أبالي).
ثم كتبت عن صديقها المرح "ثامر" الذي يعاني من الملل بعد إغلاق المقاهي والمطاعم ودور السينما، والنوادي الرياضية، وتذكّرت سخريته وروح الفكاهة التي مزجها في تعليقاته على الوضع العام، وخلو المجتمع من المتعة في ظل قائمة الممنوعات الطويلة، وكيف شبّه حال المجتمع بالتصحّر والجفاف العاطفي، وكيف أنه يفتقد للذة الحياة ويعاني من العزلة، خصوصاً مع توقف جميع الأنشطة الرياضية والبث التلفزيوني لها.
ثم ختمت تلك الفقرة: (في صباح يوم كورونيّ، رنّ جرس المنبه عند ثامر يذكّره ببدء عرض فيلم "جيمس بوند" الجديد في صالات السينما، ويذكّره أيضاً بمباراة فريقه المفضل (برشلونة) في دوري الأبطال مساء ذلك اليوم، ولكنه سرعان ما استرجع شريط الأحداث وتدارك، أن فيروس كورونا قد تسبّب بتأجيل عرض فيلم جيمس بوند الى الخريف القادم، ناهيك عن إغلاق دور السينما وتوقف جميع الأنشطة الرياضية، وبحركة عصبية دخل ثامر إلى إعدادات هاتفه الذكي وقام بالغاء كل الاشعارات والتنبيهات مردّدا عبارته الساخرة من الأحداث (جنون كورونا، إذا جنّ ربعك، عقلك ما يفيدك!)).
كتبت ندى أيضاً، عن زوجها "طارق" رجل الأعمال، الذي يلخّص لها يومياً عبر سكايب آخر أخبار الاقتصاد وموجة الكساد التي تهدد العالم. يتحدث عن تدهور أسعار الذهب والبورصات، وتضرر أعمال مؤسسته، وعن التحديات الجديدة التي قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي جديد، وبطالة قد تطال ملايين البشر حول العالم.
ينتقد طارق انكباب المواطنين على شراء وتخزين السلع الاستهلاكية، وعدم اكتراثهم للاجراءات التي اتخذتها الحكومات المختلفة والتي من شأنها التقليل من النتائج السلبية لفيروس كورونا، وقبل أن ينهي مكالمتة المسائية يقول (في أوروبا والدول المتقدمة يرفعون من شأن العقل والعلم، ونحن لا نفكر سوى في بطوننا!)
من على شرفة منزلها رأت ندى جارها العبوس المتزمت "أبا جلال" وهو يلبس الكمّامة الطبية ويضع القفازات على يديه ويتحدث إلى حارس العمارة. كان أبو جلال يقرّع الحارس المسكين لعدم ارتدائه القفازات والكمّامة الطبية أثناء غسيل السيارة، ويلومه أيضاَ على عدم استخدام الديتول لتعقيم السيارة من الداخل كما أمره من قبل، وعندما ذكّره الحارس بدنو موعد الأجرة الشهرية، تعالى صوت أبي جلال مستنكراً استمرار تداول العملات الورقية رغم ثبوت نقلها للفيروسات، ومطالباً إياه بضرورة فتح حساب بنكي لكي يتم تحويل الأجرة إلكترونياً. أعطى أبو جلال ظهره للحارس وأطلق كلمته المشهورة "تخلّف!".
قلبت ندى الصفحة وبدأت بالكتابة عن الجار أبي جلال، ذلك الذي لا ينفك عن إرسال رسائل الواتس اليومية إلى جروب سكان العمارة والتي تتمحور حول أعداد المصابين بفيروس كورونا، وآخر الطرق المستحدثة للتعقيم والمحافظة على النظافة الشخصية والمقتنيات.
أبو جلال المولع بنظرية المؤامرات والقوى الخفية، كان قد تحدّث عن مؤامرة غربية لنشر الفيروس في الصين من أجل القضاء على قوّتها الاقتصادية، ثم انتقل بعد أشهر للحديث عن مؤامرة صينية للاستيلاء على الأسواق العالمية، وانتهى به المطاف مؤخراً إلى الحديث عن مؤامرة ماسونية من أجل تخفيض أعداد البشر والمحافظة على الموارد الطبيعية للأرض.
المُدهش أنه في كل مرة يبدو واثقاً ومقتنعاً بكل نسخة من نظريات المؤامرة تلك!
توقفت ندى عن الكتابة بعد أن سمعت جلبة في الشارع، وانتبهت إلى صوت حارس العمارة "إبراهيم" وهو يعلو، توجّهت بنظرها إلى الشارع، وإذا بأبي جلال يترنّح واضعاً يده على صدره ثم ما لبث أن سقط على الأرض مغشياً عليه. تسمّر إبراهيم مكانه، وأيقنت ندى أنه لن يجرؤ على الاقتراب من أبي جلال أو محاولة مساعدته، أمسكت ندى بهاتفها الجوّال وبتوتر شديد بدأت بالضغط على الأرقام 998، ولكن يا للدهشة انتفض إبراهيم وكأنه أفاق من كابوس مرعب وانكب على الأرض بجانب أبي جلال، رفع عنه الكمّامة وعدّل من وضعية رأسه، وبطريقة متقنة بدأ بعمل تنفس اصطناعي له، تارة بالضغط على صدره وتارة بنفخ الهواء في فمه.
ومن هول المفاجأة، تركت ندى الهاتف ينساب من يديها وبقي صوت عامل المقسم يردد (الدفاع المدني-كيف يمكنني المساعدة؟)
في تلك اللحظات كان أبوجلال على شفا المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة، تلك اللحظات التي ينكشف فيها الغطاء عن بصيرة الانسان وفؤاده، رأى أبو جلال فيما يشبه ما يراه النائم نفسه في نهر على متن قارب متهالك على وشك الغرق، وعلى الضفة المجاورة تجمهر كل الناس الذين رآهم في حياته، كانوا يحاولون مد يد المساعدة والعون له، كانوا يبتسمون في وجهه كي لا يهلع من الخوف، ولكنه ويا للمفارقة كان خائفاً منهم وليس من الغرق!، كان يذوي بنفسه عنهم، ويلعنهم في داخله. وفي خضم ذلك ارتطم القارب بصخرة فانقلب، وانزلق به إلى داخل النهر، فأخذ يلطم الماء بيديه ويركله برجليه، في صراع من أجل البقاء، وفي وسط ذلك الصراع ظهر له وجه إبراهيم من على سطح الماء، مادّاً له يده، وهنا لم يتردد أبو جلال بالامساك بها حيث سحبه من النهر ورمى به إلى الضفة الأخرى، بدأ أبو جلال بالسعال ومحاولة استنشاق الهواء بعمق وبدأ يرتجف وكأنه عصفور مبلول، وفي تلك اللحظة بالذات عادت الروح إلى جسد أبي جلال، ورأى نفسه مُلقياً على الأسفلت بجانب سيارته، وإبراهيم الحارس يضغط على صدره. سعل أبو جلال مجدداً ونظر يميناً ويساراً ثم بحركة لا إرادية رفع رأسه ومد يديه ببطء شديد نحو إبراهيم، الذي ارتعدت فرائصه وكأن الطير على رأسه، عانقه بشدة ورمى برأسه على صدره، ثم بكى، بكى بحرقة، ضغط على إبراهيم بكلتا يديه وكأنه يعتصره، وبقي يبكي، يبكي بحرقة، وضع إبراهيم يديه على رأس أبي جلال واحتضنه، ثم بكى هو الآخر!.
من على شرفتها، سرت القشعريرة في جسد ندى، كانت ترتجف وتبكي بحرقة هي الأخرى، جلست القرفصاء، وضمّت رجليها إلى صدرها وألقت رأسها على ركبتيها ودخلت في موجة بكاء جديدة، ثم رفعت رأسها قليلا فوجدت الأوراق وقد تبعثرت على الأرض، أمسكت بإحداها والتقطت القلم، وكتبت: (رسائل حب في زمن كورونا!)
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
24-3-20
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق