مما تعلمته من فن الإدارة، تقُبّل الواقع وصعوباته والتعامل مع التحدّيات على أنها فرصة وليست معضلة. في البداية كنت أعتقد أن هذا الطرح نظريٌ ولا يعدو كونه تنسيق لفظي بعيد عن الواقع، على شاكلة ما نقرأه من عناوين استهلاكية وكلاشيهات بالية!
ولكن الحقيقة أنه ومن خلال الممارسة العملية، اكتشفت أن الإداري الناجح هو من يخلق من كل أزمة أو عائق تحدياً جديداً، يهدف إلى تطوير الذات، والكشف عن القدرات الكامنة، وخلق فرص للإبداع، مما يعود في النهاية بالفائدة الايجابية على المستويين الشخصي والجماعي.
ومع مرور الوقت وتوالي اكتساب الخبرات، ينتقل الفرد من مرحلة الرهبة والخوف من التحديات، إلى استقبال التحديات الجديدة بصدر رحب، واضعاً نصب عينيه الفائدة المرجوة التي سيتم تحقيقها بعد انقشاع تلك الغمامة.
أقول هذا ونحن في وسط معمعة أزمة كورونا، وتداعيات العزل الاجتماعي، وما رافقها من حالة يمكن وصفها بالركود والبيات الشتوي القسري.
هذه الأزمة استدعت في النفوس حالة من الكآبة والقلق في البداية، وسط مخاوف من انهيار اقتصاديات العالم وتفكك منظومة الأمن والأمان في المجتمعات أو تفشي حالة الفلتان والفوضى.
ولكن هذا كله سرعان ما تحوّل إلى حالة إيجابية من التضامن والتكافل الاجتماعي، بل وتزايد التعاطف بين طبقات المجتمع المختلفة في عالمنا العربي، وتعاظم الشعور بالانتماء والمواطنة. تعلمنا الكثير من خلال هذه الأزمة، واكتشفنا الكثير عن أنفسنا وعائلاتنا، تعلمنا أن الحياة البسيطة التي كنا نتذمر منها، كانت حياة أشبه بالمثالية ولكن النفس البشرية بطبعها توّاقة للتغيير والتجديد، وتطمع بالمزيد دوماً!.
لقد تعاملنا مع الحياة على أنها مضمونة، وأن الرفاهية التي نعيش هي حق من حقوقنا لا ينازعنا عليها أحد أو سلطة، ثم اكتشفنا ان الحرية الشخصية هي جزء من حرية المجتمع ككل، وأننا نعيش جميعاً على متن قارب صغير، إذا نقر أحدهم في قاع القارب في الصين، تأثر به من يقبع في أعلى جبال الهملايا!
أخذتنا الحياة وشغلنا العمل عن أهم عنصر في حياتنا، ذواتنا وعائلاتنا، لم نعد نعبىء بتخصيص الوقت لأنفسنا لممارسة هواياتنا وإشباع رغباتنا في الفنون والأدب والنشاطات الفكرية والثقافية والرياضية ولا حتى الاجتماعية، وها نحن اليوم، نعيد اكتشاف ذواتنا ونجد الوقت الكافي لتهذيب أنفسنا وضبط بوصلاتنا الروحية من جديد.
لقد فقدنا الجودة والمتعة في الأوقات التي كنا نمضيها في المنزل، وكنا نتعامل معها كأنها روتين يومي، ثم ما لبثنا أن اكتشفنا أن أجمل الأوقات وأجودها، تلك اللحظات التي نعيشها بكل براءة مع أطفالنا وصغارنا وعائلاتنا الصغيرة، ولكننا من حيث ندري أو لا ندري، كنا نهملها في خضم معاركنا اليومية، وها نحن اليوم نتساءل كيف لنا بعد اليوم أن نغفل عن جوهر وجودنا وحياتنا!
كنا نعيش في فوضى مليئة بأزمات مرور خانقة وانكباب على الأسواق، وضغط على المرافق الحيوية، بحيث كانت تعمى أبصارنا عن التفكير في الغير، وفي البيئة، وفي الظروف الصحية، وفي الأراض الخضراء، والخدمات الاجتماعية وغيرها من قضايا المجتمع، واليوم نعيد اكتشاف كل هذه القضايا ونرى أنفسنا قادرين على استيعاب القضايا العامة وقضايا البيئة المجتمع، بعيداً عن منظارنا الاستهلاكي الأعور الأحادي، وبعيدا عن "الايجو" الخاصة بنا.
لقد دفعتنا الأزمة الحالية إلى الايمان بأن معيار الأداء في الأعمال هو الانجاز وليس الحضور والغياب أو العمل المكتبي، واكتشفنا أنه بالامكان الاعتماد على نموذج مرن يمزج بين العمل عن بعد والعمل المكتبي مع إعطاء الحرية للعاملين في الابداع واختيار البيئة المناسبة للعمل، طالما أن المعيار واحد وهو "الانجاز".
أما في مجال التعليم، فرغم أن معظم بلادنا العربية لا تعترف بالتعليم عن بعد أو التعليم الالكتروني "أون لاين" إلا أن الواقع اليوم فرض علينا أنه لا غنى عن هذه القنوات التعليمية، ليس فقط لمساعدة العاملين والملتزمين بدوامهم للحصول على الشهادات العليا ولكن لطلبة المدارس كذلك. وقد جعلنا هذا الواقع نجد حلولاً عملية ستفيدنا في المستقبل للتغلب على مصاعب عدة منها الظروف الجوية القاسية، أزمة المواصلات، توفير وسائل التعليم للمناطق النائية والفقيرة، بل والتخفيف من وطأة الصيام في شهر رمضان في أوقات الحر أو البرد الشديد.
لقد أعادت الأزمة الاعتبار للعلماء والأطباء ورجال الأمن وللمفكرين والمؤثرين، وأقصد المؤثرين الحقيقيين وليس مشهوري "السناب". لقد أصبح المجتمع أكثر إيماناً من ذي قبل بأن هذه الفئات هي من تتحمل العبء في اوقات النوازل والشدائد وأنها خطوط حمراء تقع علينا جميعا مسؤولية حمايتها من تمكّن الفساد منها أو تطويعها لأي سلطة كانت، فهي خط الدفاع الأخير لمجتمعاتنا.
قيل من قبل، إن الشدائد تكشف المعدن الحقيقي للبشر، واليوم بوسعنا أن نقول إن الشدائد تظهر الوجه الحقيقي للمسؤولين والحكومات أيضاَ، بل إنها تظهر الوجه الحقيقي للمجتمعات وتبيّن مدى تحضّرها ورقيّها الثقافي.
في كتاب اثنتا عشرة قاعدة للحياة يقول عالم النفس جوردان بيترسون "إن الحياة مليئة بالأحداث السعيدة والأحزان على السواء، عليك أن تتقبل الحياة كما هي وعندما تدرك ذلك وتتقبله، تستطيع حينها أن تعطي القيمة الملائمة والمناسبة لكل لحظة سعادة تمر بها ولو كانت ضئيلة، وسوف تحتفي بتلك اللحظات وتقدّرها على حقيقتها". هناك العديد من النعم التي منحنا إياها الله، والعديد من لحظات السعادة والانجازات التي حققناها، والظروف الجيدة التي توافرت لنا دون أن نعطيها حقها أو نقدّرها، لقد أعطتنا هذه الأزمة الفرصة لمراجعة حياتنا والنظر إليها بشكل مختلف، ومن ثم إعادة تقديرها بالشكل الملائم.
اليوم ندرك أكثر من أي يوم آخر، معاناة الشعوب الواقعة تحت وطاة الحروب في المنطقة، ندرك اليوم معنى "حصار غزة" كما لم ندركه من قبل!
هناك نظرية فلسفية تقول إنه لا يكفي أن تطرح الأسئلة كي تصل إلى المنشود، بل عليك أن تضيف إلى هذه الأسئلة بُعداً فلسفياً يدفع المرء إلى التأمل والتفكّر والسمو، وبهذا ستتمكن من سبر أغوار النفوس والدفع بها إلى حياة أفضل. وإذا جاز لي أن أضيف إلى هذه النظرية جزئية صغيرة، فإني أقول: إن الشدائد تجعل من بصيرة البشر أكثر حدّة وعمقا بل وتضيف إليها كذلك بٌعداُ فلسفياً يجعلها تتجاوز السطح وتدلف الى أعماق الحقيقة.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
6-4-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق