لماذا تقفز إلى السطح مع كل أزمة أو ظرف استثنائي نظريةُ المؤامرة وإرهاصاتها؟ والسؤال الأهم هو لماذا ينجرّ الشخص العادي إلى متابعة تلك النظريات والسيناريوهات -وإن بدت غريبةً وغير منطقية- وإعادة نشرها وتسويقها؟
نظرية المؤامرة تقوم في الأساس على مغالطة منطقية فادحة: (الفرضيّة صحيحةٌ ما لم يتم دحضها)، وبذلك يقوم أصحاب هذه النظرية برفع عبء البحث الاستقصائي ومحاولات التحقق والاستشهاد عن كاهلهم ونقل ذلك إلى كاهل من يعارضهم أو يطالبهم بالإتيان بأي دليل مادي أو منطقي!
وعلى عكس القاعدة القانونية التي تقول: (البيّنة على من ادّعى)، تفترض نظرية المؤامرة العكس تماماً، وبهذا تصبح مسؤولية المُعارضين نقض الأدلة، بدلاً من أن يقع عبء إثبات الحجة والدليل، على عاتق أصحاب النظرية أنفسهم!
المغالطة الأخرى التي تقوم عليها نظرية المؤامرة هو الاستدلال بالأحداث الماضية أو بتاريخ معين للأشخاص أو الدول والجماعات، مما يعطيها لمسة من المصداقية، ولعل هذا الأمر هو ما يزيد من رواج نظرية المؤامرة بين عامة الشعب ويجعل لها قبولاً وحظوة عند الكثيرين فمجرد الاشارة إلى الولايات المتحدة مثلا واتهامها بأية مؤامرة مُفترضة سواء كانت تكنولوجية أو وبائية أو اقتصادية، فإنها بالتأكيد ستجد لها آذاناً صاغية، وسترفع غطاء العقل والمنطق عن كل المستمعين والمشاهدين، بحيث يسمح ذلك بتمرير أكثر النظريات سذاجة وسطحية، دون أن يتم التحقق منها أو مجرد إعمال العقل فيها، وقس على ذلك!
إن كل من يميل إلى ترجيح نظرية المؤامرة على باقي التحليلات المنطقية، هو شخص ضعيف الارادة، يفتقد الشعور بالطمانينة والتصالح مع الذات والمجتمع بل والعالم ككل. دائم الشعور بأنه لا يتحكم بمسار حياته ومآل مصيره ومصير الجماعة التي ينتمي إليها، ولديه وهمٌ متضخّمٌ بأن هناك قوى خفية تتحكم في قدره وقدر الآخرين.
ولكن هذا الإدعاء أو شعور الضحية، يعطيه من جهة أخرى راحةً نفسية وقدرة على تعويض ضعفه وخوفه بشكل أو بآخر، إذا أن كل فشل يتعرض له في حياته الاجتماعية والشخصية أو المهنية، ينطبع في عقله اللاواعي على أنه حدث خارج عن نطاق إرادته وسيطرته، فهو حدثٌ يعود دوماً إلى الواسطة والمحسوبية والمصالح الشخصية أو بسبب كره أحد الأشخاص له، أو مجرد قدر وحظ سيء، وغالباً ما ينعكس هذا الأمر على باقي جوانب حياته، ويدخل في تحليلاته على مختلف الأصعدة.
والغريب أنني لاحظت أن أول من قدّم هذا الإدعاء وتبنّاه في التاريخ، كان إبليس، حين نسب فعل الغواية إلى الله سبحانه وتعالى، بدلاً من أن يُقرّ ويعترف بذنبه ويطلب المغفرة: (قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم) وهو بهذا يكون قد نقل القصور وسبب الفشل في الاختبار إلى عوامل استثنائية تقع خارج نطاق سيطرته وتحكمّه، وهذه أول حادثة في التاريخ تشهد هذا الاستدلال أو الادعاء!
ناهيك عن القول، إن أصحاب هذه الادعاءات يتشاركون مع المنافقين في صفات الارتياب ودوام الشك وعدم الطمأنينة حيث وصفهم الله تعالى بقوله: (يحسبون كلّ صيحةً عليهم) وإنهم في ذات الوقت يعانون من ازمة حقيقية في الفهم والادراك، بل يصحّ القول إنهم يعانون من ازمة فكر ووعي حقيقية وينطبق عليهم قوله تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
لقد شاهدتُ العديد من المواد الاعلامية التي تدّعي أن ازمة كورونا وُجدت للتخلص من كبار السن والعجزة الذين ترهق تكاليف رعايتهم الصحية ميزانيات الدول فقرروا التخلص منهم، وهذا يوضح لنا مدى الخوف والعجز الذي تشعر به هذه الفئة العمرية وسوء شعورهم تجاه دولهم ومجتمعاتهم.
كما شاهدت العديد من التحليلات التي تتخوّف من نزول الجيش والأمن إلى الشوارع وترى في ذلك مؤامرة تستتر خلف أزمة كورونا لتمرير أمرٍ دُبّر في ليل، وهذا يجسّد مدى إساءة الظن بالأنظمة والحكومات والارتياب المصاحب لهذه القناعات.
إن الحرص على متابعة تحليلات نظريات المؤامرة، ونقلها والترويج لها يعطي أصحابها أفضلية الشعور بالتفوّق على نظرائهم بالنظر إلى اتساع تفكيرهم وتخطيهم لسطحيات الأمور، فهم يرون في الأمور الطبيعية التي يمر عيها البعض مرور الكرام أموراً جليلة وتخطيطات معقدة صادرة عن قوى خفية وعمليات استخباراتية فائقة التطور، وهم بهذا يحاولون أن يثبتوا لأنفسهم قبل الآخرين مدى ذكائهم وتفوقهم وقدرتهم على التحليل التي يعجز عنها الآخرون، وبذلك تتزايد لديهم نزعةٌ غريبةٌ في امتلاك معلومات نادرة وسرّيّة وأدلة عن مخططات خفية وقوى تتصارع في الظلام لا يعرف عنها أحد، رغم ان هذه العلومات والأدلة لن تصمد أمام أيّة مراجعة نقدية حقيقية!
ومن البديهي القول إن هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا الثقة في أنفسهم وفيمن حولهم، هم أول الذين يشكّكون في كل شيء ايجابي بحيث تحاول عقولهم اللاواعية إيجاد أي مسوّغ لرفضه، وهذا ما سبّب مقاومة بعض الفئات من المواطنين في أنحاء العالم، الإجراءات الحكوميّة والحجر الصحي، لأنهم يرون فيها إجراءات تهدف للسيطرة عليهم وتمرير مشروع ما، ومن المتوقع حين يتم الاعلان في المستقبل عن لقاح علاجي أو مطعوم وقائي أن تجد من يعارض ذلك بحجّة أنه يخدم مصالح أسياد العالم، أو بسبب مضار تلك اللقاحات والمطاعيم التي تخفيها عنا شركات الدواء.
وإذا كان البعض قد أطلق لفظ COVIDIOT على كل من لم يلتزم باجراءات الحجر الصحي، فإني أعتقد أن علينا إطلاق لفظ COVIDPARANOIA استعداداً لقادم الأيام.
كلما فقدنا السيطرة على حياتنا وعجزنا عن مواكبة العصر الذي نعيش فيه والتكيّف معه، لجأ العقل إلى تفسيرات لفك هذا العجز والضعف عن طريق إسقاط كل شكوكنا ومخاوفنا المكنونة على الواقع مشكلاً لنا سيناريوهات متنوعة، تفترض وجود مؤامرة خارجية، أو ظروف خارجة عن إرادتنا، وقدر محتوم لنا، لن نستطيع تجاوزه.
وعندما نقع في شباك نظرية مؤامرة واحدة، يصبح من السهل أن ننساق وراء مسلسل طويل لا ينتهي من نظريات المؤامرة، المُعدية بطبعها رغم مللها وكآبتها بل وسذاجتها!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
19-4-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق