تقول نظرية دانينغ
-كروجر المعرفية، إن الانسان يميل إلى تعظيم مقدار معرفته مقارنة مع مواطن جهله، وغالباً
ما يعتقد أن مقدار معرفته هو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، على عكس اعتقاده بنقاط
ضعفه (المعرفية أو المهارية والفنية).
وإن الانسان
كلما تطوّر وتقدّم على سلّم المعرفة، كلما أدرك حجم نقصه المعرفي، واعترف بتواضع
معرفته وخبرته.
باختصار، كلّما
انخفضت فرص الفرد في المنافسة واكتساب المعرفة الحقيقية انخفضت قدراته ومؤهلاته،
مما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري والوهم المعرفي (أنا خبير).
وإذا جاز لي
البناء على هذه النظرية المعرفية، من واقع التطور الكبير الذي حصل في عالمنا مع
بداية الألفية الثالثة وما بات يُعرف بالعالم الرقمي، وما أتاحه من تبادل للمعرفة الوهميّة،
والحقائق المشوّهة القائمة على مغالطات منطقية فادحة، في جميع المجالات، فإني أقول
إننا بتنا نعيش المرحلة الثانية من نظرية دانينغ-كروجر وسأطلق عليها مرحلة (الجهل
المُكتسب).
تخيلوا معي
أن السيد "زيد" لديه معرفة تُقدّر بنسبة عشرين بالمئة في حقل الاقتصاد
على سبيل المثال، وهو راغبٌ في زيادة معرفته، ولكنه بدلاً من اتباع المنهج العلمي
في البحث وطلب المعرفة، فإنه يقوم بالاعتماد على المصادر المتاحة التي تتميز
بسهولة الوصول اليها وبساطة طرحها، غير آبه بمدى صحة المعلومات ودقتها وشموليتها، أو
التيقن من صحة الحجج والبراهين، والتأكد كذلك من عدم اعتمادها على المغالطات، ناهيك
عن أنه يفتقد القدرة أصلاً على التمييز بين زخرف القول، والبراهين المنطقية.
وفي إطار
سعيه "الكسول" للمعرفة، فإنه يتعرّف من خلال هذه المصادر على مجموعة من
المهتمين في هذا المجال والذين يفوقونه في المعرفة ولكنهم يعانون من حالة الوهم
المعرفي (تأثير دانينغ-كروجر)، فيتأثر بأفكارهم ويأخذ عنهم دون تمحيص أو تحقيق، وينقل
عنهم دون الرجوع الى مصادر أخرى، وهكذا بمجرد أن يقولوا قال فلان وورد في الكتاب الفلاني،
صدّقهم ونقل عنهم لرغبته في اكتساب المعرفة السريعة السهلة.
ثم تحصل المفارقة،
حين يقوم زيد -بالاعتماد على معرفته المكتسبة الركيكة- بمُعارضة نتائج أبحاث علمية
ودراسات موثقة، ويقوم بالاستدلال على ذلك بمجموعة من المغالطات والحجج التي نقلها عن
غير علم، وفي المقابل يقوم بنشر نظريات اقتصادية غير صحيحة مبنية على افتراضات
خاطئة وغير منهجية.
وبحكم
الثورة الرقمية التي نعيش، تصبح هذه النظريات والمعرفة (غير الحقيقية) متاحة
للجميع، فيأتي شخص آخر (عمرو) والذي لا يمتلك أي أرضية معرفية في هذا المجال
باستثناء الرغبة في ادعاء المعرفة، فينبهر بآراء زيد ويقتنع بها ثم يبدأ بنقلها
ونشرها دون أن يعطي نفسه الفرصة للاطلاع على الآراء الأخرى أو البحث البسيط عن
الحقيقة، ويصبح في النهاية من أشد المدافعين عنها!
وهنا تكتمل
دائرة نقل الجهل بدلا من نقل المعرفة، وننتهي باكتساب الجهل بدلا من اكتساب
المعرفة.
أسقِطوا اسم
زيد على أدعياء الثقافة والمعرفة في عالمنا العربي، ممن يعشقون الظهور ويعانون من
نرجسية مفرطة ويعيشون حالة الوهم المعرفي.
وبدلاً من
حقل الاقتصاد، قارنوا ما قلناه بما يحدث في عالم السياسة والاعلام، أو التدبّر في
القرآن، أو الأدب والشعر والفن وغيرها من المجالات، ثم حاولوا أن تتأملوا معي المساحات
التي تُفرد في الاعلام (العربي والغربي) لهذه الفئة، والمنصّات التي توفرها شبكات
التواصل الاجتماعي لتمرير مشاريعهم وأفكارهم السطحية التي تفتقر للمعرفة الحقيقية
ولشروط التحقق العلمي والمنطقي، ثم انظروا إلى تأثير ذلك على أغلبية الأفراد من
شاكلة (عمرو)!
في خضم هذا
العالم السريالي الغريب، ومع انعدام وجود حافز للبحث العلمي والتدقيق والبحث وراء
المعلومة، تصبح غالبية الجماهير بمثابة (مُتلقّين إيجابيين) لهذا الجهل الذي يتنكّر
على هيئة المعرفة.
يقول المفكر
الأمريكي كليفورد جيرتز (إن اعتقاد الفرد بأمر ما دون أدلة كافية هو أمر مُضرّ
بالمجتمع كله، بل هو عدوى تنتشر في المجتمع. وإنه لمن الخطأ دوماً وفي أي مكان
الاعتقاد بشيء دون براهين منطقية).
قديماً، كان
الجهلُ سبباً في انتشار أفكار الايمان بالسحر والخرافة والشعوذة والرجم بالغيب
والعلاقة السببية للأحداث بالمعجزات، واليوم جاء الجهلُ من باب ادعاء المعرفة
والاعتقاد بأن ما نؤمن به هو الحقيقة الواضحة الساطعة، فانتشرت السذاجة والسطحية
والشعبوية.
كلما كانت
الفجوة المعرفية كبيرة في المجتمع، كلما زادت الفرصة في رواج الفكر غير المنطقي
القائم على المغالطات وادعاء المعرفة، وكلما راجت أيضاً الحقائقُ غير العلمية وغير
الدقيقة بسبب بهرجتها وغرابتها والتقدير الذاتي "الوهمي" الذي تتركه في
النفوس.
في الختام
أوجز القول بما يلي: كلما زادت رقعة المعلومات وتنوّعت مصادر الوصول اليها بحيث
تصبح متاحة لجميع الأفراد على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم المعرفية، دون
مراعاة أصول البحث العلمي لبناء المعرفة، ودون استخدام البراهين المنطقية لإثبات
الحقائق، كلما زادت فرصة الحصول على معلومات غير موثقة وحقائق غير علمية وترويجها
على حساب الحقائق العلمية والمعلومات الموثقة، وذلك لسببين، الأول هو الكسل في طلب
المعرفة والميل للاعتماد على التلقّي والنقل. والثاني هو الانجذاب لكل ما هو جميل
وبرّاق وخارج عن المألوف، دون النظر الى ميزان الصواب والخطأ أو الحق والباطل.
وكلما أتيح
للمعرفة الزائفة الفرصة لرؤية الضوء، كلما انتشرت مثل العدوى بين فئات المجتمع، نظراً
للرغبة البشرية الأساسية في حب التملّك (امتلاك المعلومة والتنظير بها بغض النظر
عن صحتها) والاعتقاد اليقيني بأن هذه الملكيّة، تزيدُ من قيمة الفرد في المجتمع وتجعله
محطّ اعجابِ وتقدير الآخرين. مما يؤدي في النهاية الى اكتساب الجهل ورواجه، مقابل انخفاض
موازٍ في اكتساب المعرفة الحقيقية ورواجها، وضمور في التنمية الحقيقية.
هذه الحالة
الوهمية من المعرفة والتي في حقيقتها اكتساب متزايد للجهل، أدّت كما هو واضح
للعيان إلى تواري الأدباء والمفكرين الحقيقيين وقلة الاهتمام بهم لصالح مجموعة من
أدعياء الثقافة ذوي الوصفات السريعة والجاهزة، وأصحاب الكاريزما الجذابة، كما أدّت
إلى انتشار التطرّف والعصبية والطائفية، في ظل شبه غياب للنظريات المعرفية القادرة
على تجديد الفكر والارتقاء بالحضارة الانسانية، وأدّت أيضاً إلى تواري الفنون
الحقيقية عن الضوء، مقابل ازدهار الصخب والضجيج والاحتفاء بالسذاجة والسماجة.
باختصار لقد
خدمت الثورةُ الرقميةُ "الرويبضة" على حساب المُفكّر والعالِم والأديب، فانقلبت
الموازين، وضاعت الحكمة، وسقطت عروش الفكر أمام جحافل الجهل.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-7-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق