قرأتُ فيما
قرأت عن العلاج بالوهم أو الايحاء، وهو دواء أو إجراء علاجي زائف (غير ضار)، ولكنه
يؤدي إلى تحسّن صحّي ملموس بالنظر الى اعتقاد المريض الذاتي في إمكانية العلاج
وإيمانه المًطلق في المُعالج، حيث يقودُ التأثيرُ النفسي المريضَ إلى الشفاء
والتخلّص من مظاهر المرض ولو مؤقتاً، وهو ما يُعرف علمياً ب "أثر
البلاسيبو" Placebo effect، والبلاسيبو هو أي عقار أو علاج يوصف للمريض
دون أن يكون له علاقة بمرضه أو تأثير في علاجه.
وفي تفسير
هذه الظاهرة يقول الباحثون إن الأثر السيكولوجي ومشاعر الاهتمام والرعاية والتشجيع
والأمل التي يبثها الموقف العلاجي تستفز في الجسد آليات فسيولوجية (بطريقة غير
مفهومة) تُفضي إلى تأثير ملموس وفيزيائي حقيقي، وقد تم في بعض الحالات توثيق نشاط
عصبي ملموس، وتحفيز لجهاز المناعة.
وهذا الأثر
البلاسيبي، هو باب النعيم الذي يترزّق منه الدجّالون وطاردو الأرواح ومخرجو الجن
من الأجساد، والمعالجون بالرقية والزار، إذ أنهم يعتمدون على علاج الوهم بالوهم،
وغالباً ما يتمكنون من النجاح في ظل الايمان المُطلق بالشفاء الموجود في صدور كل
من يسعى للعلاج لديهم، ناهيك عن الايمان الأصيل بوجود عمل شيطاني خبيث يمنعهم من
النجاح في العمل أو في الحب والزواج او الإنجاب وغير ذلك. وطالما تجسّد سبب الفشل
أو المرض في صورة ذهنيّة أو واقعية، وفُتحَ بابُ الخلاص عن طريق الأولياء والأشخاص
الصالحين، وكان ذلك مُباركاً بالذكر ومُحاطاً بالقداسة، فإن النجاةَ تكون شبه
أكيدة!
ولكن
الحقيقة، إن البلاسيبو في النهاية لن يشفي مريضاً من السرطان ولن يوقف نزيفاً
حاداً في الدماغ، كما أنه لن يجعل من شخص فاشل في الإدارة مديراً ناجحاً أبداً،
ولكن يحدث أن تأتي الأحداث السعيدة وفرص النجاح لأنها غالباً ما تكون متوفرة غير
أننا لا نأخذها على محمل الجد، وتشفى الأمراض كذلك أو الحالات النفسية لأنها
غالباً ما تشفى مع مرور الوقت، ولأنها تعتمد أيضاً على اعتقاداتنا الشخصية
وأوهامنا الداخلية في كثير من الأحيان، ولكن البلاسيبو بالتأكيد ليس سبباً في النجاح
أو الشفاء.
وقد تناولت
العديدُ من الكتب الأدبية والأعمال الفنيّة، موضوع أثر البلاسيبو، بل إن تجارب
علمية كثيرة أجريت على هذا الأثر، وأفضت إلى نتائج صادمة أحياناً.
وفي العقدين
الأخيرين أخذ أثر البلاسيبو منعطفاً آخراً بالاعتماد عليه فيما يعرف بالتنمية
الذاتية أو البرمجة العصبية وغيرها من أبواب تطوير المهارات الشخصية، التي تعتمد
على بث أسباب النجاح والتفاؤل والثقة في النفس، والايمان المُطلق أن نجاح الفرد
مرتبط في الأساس بالايمان الداخلي للفرد بالنجاح (أو الفشل)، فإذا استطاع الشخص
إعادة برمجة شخصيته وحملها على الايمان المطلق بالقدرة على النجاح وتحمل المسؤولية
والقبول لدى الآخر والتواصل الاجتماعي....الخ القائمة الطويلة فإنه سيكون قادراً
على النجاح دون أدنى شك.
وخلال السنوات
الماضية كنت حريصاً على متابعة هذه المناهج غير أني رغم اقتناعي بفائدتها (إذا ما
اتبعنا المنهج العلمي السليم واستوعبنا طريقة عملها وأسباب نجاحها أو فشلها)، إلا
أني لاحظت أنه قد اختلط الحابل بالنابل خصوصاً مع ازدياد انتشار هذه العلوم
والمناهج، ودخول فئة كبيرة من أدعياء المعرفة (بحثاً عن الثراء والشهرة) وأصبحت
هذه المناهج والدراسات أثراً بلاسيبياً جديداً لا يعدو كونه تسويقاً للوهم بقالب
علمي نفسي جديد!
فلا يمكن
بأي حال من الأحوال أن أصدّق أن شخصا سويّاً يقف أمام المرآة ويقول لنفسه بصوت عال
"أنت شخص ناجح"، ثم يذهب الى العمل فيصبح ناجحاً، أو أن شخصاً يذهب الى
مقابلة للعمل وبدلاً من الاستعداد المهني لها يركز على لغة الجسد وقراءة الشخصية
وينتظر أن ينجح في المقابلة، وحتى لو اجتاز المقابلة فكيف سينجح في أداء مهامه
الوظيفية!
كيف تصبح
مديراً ناجحاً، اعرف شخصيتك، كيف يكون زواجك ناجحاً، افهم نفسك أولاً وغيرها من
العناوين الرنّانة الخالية من المضمون، والتي تعتمد في النهاية على تسويق الوهم اعتماداً
على القدرة الايمانية للمتلقي بالشفاء أو النجاح أو التغيير.
الشيء الذي
يخفونه عنك أن النجاح يحتاج الى تخطيط وإرادة وشغف وتنفيذ مهام متعددة، وتنمية
قدرات ومعارف قبل أن يحتاج إلى إيمان وثقة بالنفس أو برمجة عصبية، وإذا غابت عناصر
النجاح لن يكفيك أن تكون مؤمنا وراغباً في النجاح.
وكما يحاول
بعض خبراء التنمية الذاتية أو البشرية اليوم بيع الوهم بالاعتماد على أثر
البلاسيبو فإني أجزم أن جيلاً كاملاً قد ترعرع على الايمان المطلق بأننا أفضل
الأمم أخلاقاً وتاريخاً وحضارةً، وكل ما علينا فعله هو انتظار التاريخ ليعيد نفسه
أو ظهور المهدي المنتظر ليقودنا في المعركة الفاصلة، وهذا لعمري لهو الوهم الكبير
الذي عاشه جيلنا.
لقد زرعوا
في نفوسنا وفي كتب التاريخ والتراث، رمزية القائد وتقديس الأشخاص، والقصص
الأسطورية والمعجزات الخارقة، حتى بتنا نؤمن أن التغيير يأتي من السماء وليس من
أنفسنا، وأن كل ما وصلت له الحضارات الغربية هو غثاء كغثاء السيل، وأن الخير فينا
نحن دون الآخرين.
والأدهى
والأمر أن نعزو أسباب فشلنا إلى قلة عدد المصلين في صلاة الفجر والنساء العاريات، في
حين نغض الطرف عن سوء التعليم والفساد والتبعية للخارج ونهب الأموال والبلاد
والتخلف الفكري والعصبية الدينية والفقر والجهل والواسطة والمحسوبية وعدم المساواة
ومحاربة الديمقراطية وعدم حماية الحريات الفكرية وعدم احترام الرأي الآخر وعدم
الايمان بالعدل والمساواة وأن القانون فوق الجميع.
نحن جيل
يؤمن أننا سنهزم تخلفنا الحضاري بمعجزة، وسنحرر فلسطين بالمهدي المنتظر، وسننتقل
من أدنى الأمم إلى قمتها بما يشبه عصا موسى ودون أن نبذل في سبيل ذلك قطرة عرق،
متغافلين عن الأخذ بالأسباب ومحاربة الفساد وعدم قبول الظلم وتقديس العلم بدلاً من
الجهل والخرافة، والأهم من ذلك كله، الايمان أن عصر المعجزات قد انتهى وأن رسالة
سيدنا محمد تدعو الى الأخذ بالأسباب والاعتماد على الذات ثم طلب النصر، لا العكس!
تاريخنا
مليء بالقصص السردية والخطب العصماء والشعر والنثر والغزل، ولكنه لا يتحدث عن
عظماء العلوم والفلسفة والفكر بقدر ما يفرد صفحات طويلة للحديث عن الفرق الدينية
والعصبيات وجمال البادية ونساء العرب، بل أنه لا يحدثنا عن القفزة العلمية
الحضارية التي واكبت ظهور الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض، وكيف أصبح المسلمون
سادة علماء عصرهم.
وجلُ كتب
الدين وعلومه تدور في فلك العبادات والشعائر والطهارة، مع مرور الكرام على الأخلاق
ومنظومة القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الانسان واحترام الآخر وأصول التعايش السلمي
وبناء المجتمعات المدنية القائمة على العدل والمساواة.
إننا
باختصار يا سادة، جيل البلاسيبو، جيل الوهم الذي زرعوه في نفوسنا كي نركن ونستكين
ونحيا بانتظار المعجزة، ثم نموت قبل أن ندرك أن عصر المعجزات قد انتهى، واليوم
يحاول البعض إقناعنا أن النجاح بحاجة فقط إلى قراءة كتاب عن النجاح أو حضور دورة
لاكتشاف مكامن قدراتك!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-9-2019