ابتداءً من السابع عشر من شهر حزيران
الجاري، تبدأ الولايات المتحدة فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على سوريا، طبقاً
لقانون قيصر.
وتطال هذه العقوبات المؤسسات الحكومية،
والبنك المركزي، وكل الجهات التي تتعاون مع النظام السوري، على مستوى الشركات
والأفراد من داخل وخارج سوريا.
وقد تم التصديق على قانون قيصر بداية هذا
العام، تحت ذريعة حماية المدنيين في سوريا، وضمان عدم تعرضهم لجرائم حرب، وتستمر
فعاليته لعام 2024.
"قيصر" هو الاسم الرمزي الذي
أطلق على أحد أهم الضباط المنشقين عن النظام السوري والذي شغل منصب لواء في وزارة
الدفاع السورية، واستطاع توثيق جرائم النظام ضد المعتقلين السياسيين، من خلال
توثيق ملفات أكثر من أحد عشر ألف ضحية، قضوا نحبهم تحت التعذيب أو بسبب الجوع وسوء
الرعاية الصحية أو التصفية الجسدية المباشرة.
استطاع قيصر الهروب من سوريا، وتسريب هذه الملفات
التي احتوت على أكثر من خمسين ألف صورة للضحايا، وأرقامهم التسلسلية وظروف وأماكن اعتقالهم،
بعد حفظها على أقراص ممغنطة وتسليمها إلى مجموعة من المحامين الدوليين والنشطاء
الحقوقيين، في واحدة من أهم العمليات التي وثقت جرائم النظام وكانت كفيلة بإدانته
بعمليات التعذيب والقتل الجماعي.
ولكن للأسف، فإن الملف القانوني الذي يربط
النظام السوري والرئيس بشار الأسد مباشرة بتوجيه أوامر مكتوبة لخلية إدارة الأزمة،
تلك الأوامر التي تم تنفيذها من قبل الضباط الميدانيين، فشل في الوصول إلى المحكمة
الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن عام 2016، بسبب تهديد روسيا باستخدام حق النقض
"الفيتو".
وبالعودة إلى العقوبات الاقتصادية
الأمريكية، التي أقرتها منفردة على النظام السورري، نظراً للانقسام الدولي حول
موضوع سوريا، هذا الانقسام الذي بات من الواضح انه اختلاف حول تقسيم الكعكة، ولا
علاقة له من قريب أو بعيد بالدفاع عن الشعب السوري، أو قيم العدالة والحرية، فإننا
نجد ان هذه العقوبات هي عقوبات اقتصادية محضة، ولا تحتوي على أي خطوة على الأرض تضمن
حماية المدنيين أو الدفاع عنهم، أو توفير مناطق آمنة لهم كحد أدنى.
وبالتالي فهي بشكل أو بآخر، أدوات فاعلة في
يد الولايات المتحدة، لضمان حقوقها في عقود إعادة إعمار سوريا، وفرض رؤيتها لسوريا
ما بعد الأسد، أي أنها عقوبات ذات دوافع سياسية وليست إنسانية كما يروّج لها.
مع بدء تنفيذ هذا القانون، ستخضع المصارف السورية
بما فيها البنك المركزي لعمليات مراقبة وتدقيق للتأكد من عدم وجود شبهات تبييض أموال،
كما يعطي القانون الصلاحية لفرض عقوبات على الأشخاص والشركات الأجنبية التي تقدم
الدعم المالي أو اللوجستي والتقني للنظام السوري، وهذا البند يهدد مصالح حزب الله
وإيران و روسيا مباشرةً. كما يهدد هذا القانون قطاع الصناعات والانتاج المحلي من
الغاز والبترول وتشغيل الآلآت والمعدات العسكرية .
وتتلخص شروط وقف العقوبات بوقف عمليات
القصف ضد المدنيين، وقف قصف المنشآت الصحية والمرافق الحيوية، إطلاق سراح
المعتقلين السياسيين، عودة اللاجئين، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.
ورغم جدية هذه الشروط للوهلة الأولى وما
توحي به من حرص شديد على حياة المدنيين وعودة السلم إلى البلاد، إلا أن المفارقة
في أن القانون نفسه يمنح الرئيس الأمريكي الحق في وقف العقوبات إذا ارتأى أن أطراف
النزاع قد دخلوا في مفاوضات "جديّة"، أو أن التهديد على حيوات المدنيين
لم يعد موجوداً، وهو ما يؤكد مجدداً الرغبة الحقيقية للادارة الأمريكية، في التحكم
في إدارة الصراع في سوريا، وضمان مصالحها لا أكثر.
إرهاصات قانون قيصر بدأت بمجرد قرب موعد
تنفيذه، حيث انهارت الليرة السورية، وبدا النظام عاجزاً عن ايقاف مسلسل انهيار
الاقتصاد المحلي في وجه التحديات الجديدة، لا سيما أنه سبق له أن رهن جميع مقدرات
البلد للحكومات والحركات التي دعمته خلال الصراع، حيث باتت جميع ثروات ومصادر البلد
الطبيعية، مرهونة لجهات خارجية، عبر عقود طويلة الأجل، ناهيك عن القواعد العسكرية
والموانىء، وحقوق الاستثمار التي تنتهك السيادة الوطنية، مما جعل البلاد على شفا
حفرة من الانهيار التام واعلان الإفلاس (إن جاز ذلك).
غالباً ما تنجرّ الأنظمة الطاغية وراء
الدفاع عن مصالحها بأي ثمن، دون اعتبار لمصلحة البلاد أو العباد، وشعارها (أنا ومن
بعدي الطوفان)، وقد قالها شبيحة النظام منذ اليوم الأول (الأسد أو نحرق البلد)،
وقد نفذوا وعيدهم حرفياً!.
وخلال فورة الطغيان هذه، يدخل على الخط
أدعياء المحبة والسلام والمحافظة على حياة المدنيين، فيقوم كل طرف منهم بحماية
مصالح بلاده الاستراتيجية من خلال تغليفها بغلاف القانون الدولي وشعارات الحرية
والعدالة، وتبقى الحلقة الأضعف (الشعوب المستضعفة)، التي لا ذنب لها إلا انها
أرادت ان تعيش بسلام وتطالب بدولة مدنية، تحترم الانسان وتراعي حرية الفكر والمعتقد
ولا تمارس التمييز، وتخلو من الفساد.
النظام السوري نظام متهالك بقانون قيصر أو
بدونه، وهي مسألة وقت لا أكثر حتى ينهار هذا النظام على عروشه الخاوية، ويبقى
الأمر مرهون بوعي الشعب السوري، وإدراكه حجم التضحيات التي قدمها من أجل العيش في
حرية وسلام وعدالة، لتحقيق التغيير الحقيقي بما يضمن المصالحة الوطنية، وترسيخ
مبادىء العمل الحزبي وحرية الرأي، وإعادة ممتلكات هذه الدولة التي تنازل عنها نظام
لا يمتلك الشرعية.
إن أي حركة إصلاحية تطالب بالتغيير تُقذف
في البداية بلائحة طويلة من الاتهامات على شاكلة (زندقة، مؤامرة ، حركة مجنونة
طائشة)، لكن سرعان ما ينتصر التغيير بفعل الزمن الذي لا يقبل الركود، فيتم
الاحتفاء لاحقاً بتلك الحركات وأبطالها.
وتكمن المفارقة في أن معظم هؤلاء الأبطال
لا يعيشون الحلم الذي راودهم، بل يغادرون قبل ذلك، ولكنهم يجعلون من العالم مكاناً
أفضل لمن بقي وراءهم، تلك هي رسالتهم وذلك هو قدرهم.
إلى قيصر وكل من ساهم في كشف زيف هذا
النظام وتعرية وجهه القبيح، إلى حمزة الخطيب طفل درعا، وإبراهيم قاووش مُغني
الثورة، إلى السجناء والمعتقلين والشهداء، والمدنيين الأحرار الذين أنشدوا في
الميادين (الله، سوريا، حرية وبس) إلى هؤلاء وأمثالهم نقف إحتراماً وإجلالاً.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
15-6-2020