عادت الاعتصامات الى محيط الدوّار الرابع بعد أقل من ستة
شهور على الاعتصامات السابقة التي جاءت برئيس الحكومة الحالية (د عمر الرزاز) وإقالة
حكومة د هاني الملقي.
الإحباط هو الشعور الذي يتملّك قلوب الأردنيين بعد فترة
وجيزة من تشكيل الحكومة الجديدة، وأدى إلى عودة الاعتصامات والمظاهرات، وتكرار ذات
المطالب، لا سيما أن سقف التوقعات كان مرتفعاً هذه المرة.
من خلال متابعة ما يجري في الميادين، وكذلك لقاءات دولة
الرئيس مع الناشطين والمؤثرين مؤخراً، ومع احترامي لكل تلك المشاعر والمطالب
المستحقة، إلا أنها جميعها لا تعدو أن تكون سطحية ولا تعالج سوى قشور الأزمة.
الإعفاء العام، إطلاق سراح المعتقلين، سحب قانون الجرائم
الالكترونية، رفض قانون الضريبة، محاسبة الفاسدين، معالجة الوضع المعيشي الصعب، أو
تنحّي الحكومة، وماذا بعد!
أعلم جيداً أن الحكومة الحالية منزوعة الصلاحيات ويشوبها
التقصير، بل إن تشكيلتها لم تختلف عن النهج المتبع للحكومات السابقة مع حرصها
أيضاً على التوافقات مع الدولة العميقة، ولكني أعلم أيضاً أن بعض الأصوات التي تتوجه
لها بالنقد والتجريح لن تكون أفضل حالاً لو تولّت زمام المسؤولية وجلست على كرسي
الوزارة، وهؤلاء المنتقدون يعلمون ذلك جيدا، ولكن في النهاية، يبقى الانتقاد ورمي
سهام التقصير هو أسهل ما يمكن عمله!
لقد تكرّرت مطالبات الشعب الأردني في السنوات الأخيرة، بعزل
الحكومات وتحميلها مسؤولية تدهور أحوال البلاد، بدءاً من المطالبة بعزل النسور،
تلا ذلك المطالبة بعزل الملقي، وها نحن الآن نطالب باستقالة الرزاز، فهل ما زلنا
نأمل أن تحصل المعجزة، بتعديل حكومي آخر؟!
هناك ثلاثة أنواع من العلاجات التي يعرضها الأطباء
لمرضاهم، النوع الأول هو الوصفة الجاهزة، والتي تعالج نسبة كبيرة من الأمراض
الشائعة ولا تستدعي أية فحوصات أو تحليلات أو متابعة بعد العلاج.
النوع الثاني هو الاهتمام بعلاج الأعراض الملازمة للمرض
للتخفيف عن المريض، أما النوع الثالث فهو طويل الأمد، ويعتمد على التحليل والفحص
الدقيق للوصول إلى سبب المرض ثم علاجه، لذا فهو يتطلب جهدا طويلا ومعاناة أطول.
وبالتالي، فإننا نستسهل النوعين الأول والثاني من العلاجات،
لأنها لا تحتاج إلى جهد أو فحص وتمحيص، وهذا ما ينطبق على حالنا اليوم، فنحن في
الأردن ما زلنا نلهث (مسؤولين ومواطنين) وراء الوصفات الجاهزة وعلاج الأعراض وليس
علاج المشكلة.
بالعودة الى الحراك الأردني عام 2012 والمرافق لأحداث
الربيع العربي، وباستعراض المطالب التي أصرّ المتظاهرون في جميع مدن ومحافظات
المملكة، على تحقيقها، نجد أنها كانت تشير إلى وعي وإدراك سياسي عالي بحجم المشكلة
وأسبابها، فكانت المطالب واقعية وجريئة وتعالج أزمات البلد الحقيقية، حيث ركّزت
على إعادة صياغة الدستور والتأكيد على مؤسّسية العمل الحزبي الذي يُفضي إلى تشكيل
حكومات منتخبة بما يعني إعادة الولاية العامة الى الشعب مُمثلاًّ بالسلطتين (التنفيذية
والتشريعية)، مع تفعيل دور مؤسسات الرقابة، والمؤسسات الأهلية والمدنية.
وهذا يتطلب بالضرورة قانون انتخابات عصري مُنصف بعيداً
عن العشائرية وقانون الصوت الواحد.
ولكن ما الذي حصل آنذاك، مجموعة من الوعود الإصلاحية التي
لم تنفذ بالكامل والإجراءات الهامشية التي لا تمس الأزمات الحقيقية، وقانون
انتخابات شبيه بالصوت الواحد تمّت صياغته بحرفيّة عالية لوأد تشكيل قوى برلمانية
ذات وزن في الحياة السياسية، مما أفرز في النهاية مجلس نواب غير قادر على أداء
دوره التشريعي، وغير قادر على أداء دوره الرقابي ومحاسبة الحكومة، فما بالك بقدرته
على تشكيل حكومة!
إن التعامي عن أسباب مشاكل البلد وسبب مرضها، أو عدم
الجرأة في تلبية مطالب الإصلاح الحقيقية، لن يضر سوى بالشعب الأردني وسيطيل مدة
صراعه مع المرض، وستعاود عجلة الوقت دورانها، دون تقدم حقيقي ولا تغيير جذري، فطالما
لم تملك السلطة التنفيذية الولاية العامة وحرية اتخاذ القرارات بل وإعادة صياغة
الاستراتيجيات العليا للبلد، واتخاذ حزمة من الإجراءات الإصلاحية للخروج من عباءة
البنك الدولي وصندوق النقد ومظلة الديون الخارجية فلن يكون هناك أي تحسّن اقتصادي
ملموس، وستبقى عجلة التقشف الاقتصادي تدهس أحلامنا وتطلعاتنا، وسيستمر الفساد في
التفشي، مع تناقص مطرّد في القدرة على احتوائه، بينما نستمر نحن في التحدث عن
الإصلاح وتحسين أحوال البلد!
إذا أردنا التغيير الحقيقي، فعلينا الانتقال من نقد
الأفراد الى نقد السياسات ومن نقد القرارات الى نقد الدستور والقوانين التي تحدد
الصلاحيات والمسؤوليات، ومن لعن الظروف الاقتصادية والمعيشية الى تحليل التوجهات
الاقتصادية والسياسية العليا.
ومن هنا أقول، إن تغيير الحكومة لن يفيد بشيء وتجريب المُجرّب
خطيئة، ولكن التحدّي الحقيقي، يكمن في كسر عقدة الخوف من المساس بالدستور أو
النظام المؤسساتي القائم، والعمل على تفسير القوانين المعمول بها، وتحديد مسؤولية
كل مؤسسة أو سلطة في الدولة.
باختصار، ما نريده في الأردن، هو ملكية دستورية تكون
فيها مؤسسة العرش الضامن لتناغم مؤسسات الدولة المختلفة، وضمان قيام كل جهة بواجباتها
دون تجاوز لصلاحياتها، والبداية تكون بانتقال الولاية العامة للشعب لتشكيل السلطات
التنفيذية والتشريعية ومزاولة شؤون الحكم والمراقبة والمحاسبة والتشريع.
وهذا يتطلب أيضاً أن تنضوي الأجهزة الأمنية تحت لواء
وزير دفاع يأتمر بدوره بأوامر وتوجيهات رئاسة الوزراء، وهكذا يتحمل الشعب المسؤوليات
الكاملة عن إدارة شؤون البلد، ويصبح مصدراً للسلطات عملياً وليس فقط بنص الدستور.
قبل ستة شهور نزلنا الى الشوارع، وصرخنا بأعلى صوتنا (ما
معناش)، فتم اعطاؤنا خافض للحرارة ومسكّن موضعي للألم، وأثناء فترة السكون تلك، تم
تمرير قانون الضريبة، وتقديم قانون الجرائم الالكترونية للبرلمان، وأخشى ما أخشاه،
أن تؤول المظاهرات الشعبية الحالية وهتافات الحناجر المشحونة بالغضب، وعبرات
المواطنين وأنّات الفقراء ودموع البسطاء، إلى الاكتفاء بنزول زيد عن الكرسي
واعتلاء عبيد!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-12-2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق