ما زلت أذكر
تماماً ليلة هروب "زين العابدين بن علي" من تونس، وتلك الجملة الشهيرة
التي قالها أحد المحتفلين في شوارع تونس: "لقد هرمنا من أجل هذه
اللحظة التاريخية!" نعم، لقد هرمنا وفقدنا الأمل بأن يستعيد الشارع العربي نبضه وفورته،
ويعود لامتلاك زمام الأمور واستعادة دوره المؤثر والمشاركة في كتابة التاريخ.
كنا حينها نُمنّي النفس كناشطين ومهتمين في
الشأن العام بأن تنجح ثورة تونس لتكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، وكنا
متيقنين أن تقويم العالم العربي الجديد، سيبدأ من تلك النقطة الفاصلة، مرحلة ما
بعد الربيع العربي!
ولكن، في
وسط انشغالنا بالأحلام الوردية، والمستقبل المشرق، غفلنا عن ردة فعل الأنظمة
السلطوية "الانتقامية" من ثورات الربيع العربي، وردة فعل العالم الغربي
على الفرص المتزايدة لقيام ديمقراطيات حقيقية في مناطق تستحوذ على مصادر الطاقة،
وتشرف على بوابات العالم المختلفة -إن جاز التعبير- من مضيق جبل طارق مروراً بقناة
السويس وصولاً إلى مضيقي باب المندب وهرمز، إضافة إلى الأهمية الكبرى للعالم
العربي في منظومة التجارة الحرة التي ترعاها الولايات المتحدة والشركات العابرة
للقارات.
أفقنا على كوابيس متتالية، فقد نجحوا في زرع
الإرهاب والتطرف بين ظهرانينا، ليقسموا العالم العربي قلوباً شتى، هذا يلصق تهمة
الإرهاب والفوضى بالربيع العربي، وذاك يتعلّل بنظرية المؤامرة لمساندة الأنظمة
السلطوية، وآخر يرى أن زمن الخلافة بدأ يلوح في الأفق حاملاً معه بشائر ظهور
المهدي!
وبعد انتهاء
الموجة الأولى، وجدنا أنفسنا أمام متغيرات جديدة فُرضت علينا، فقد عاقب العالم
(الغربي والعربي) الشعب المصري على سوء سلوكه الانتخابي وعلى اختياره الديمقراطي
الحر، وفي سوريا، ساهم الكل في إذكاء الصراع الطائفي وتحويل الثورة السلمية إلى
ثورة مسلحة، ومن وسط الركام ظهرت داعش لتتحكم في المشهد وتطغى جرائمها على الساحة
وتصبح "الغول" الذي يخوفوننا به من كل شيء اسمه ربيع عربي!
ولكن، ومع
نهاية هذا المشهد، جاءت بشائر الموجة الثانية من الربيع العربي، وكانت تونس الحصان
الأسود الذي كسب الرهان، فقد عززت تونس تجربتها السلمية الناجحة بأن صوّت الشعب
التونسي وبكثافة لصالح مرشح مستقل من خارج الأحزاب السياسية، لتصبح تونس أنموذجا يُحتذى
به في العالم العربي.
وعلى نفس
الغرار، انتصرت إرادة الشعب الجزائري وأسقطت الحكم العسكري في البلاد الذي استمر
لعقدين من الزمان، لتكتب الجزائر بذلك صفحة جديدة في تاريخ العالم العربي، تلاها
السودان بثورته الأنيقة والجميلة والتي أزاحت بدورها الحكم العسكري في البلاد
المستمر منذ ثلاثين عاما ونيّف.
وها نحن
اليوم نشهد مظاهرات لبنان، التي وحّدت الشعب اللبناني في وجه الطغيان والفساد
السياسي والمالي والاداري، تحت شعار ( كلّن يعني كلّن)، فالبلد قد انهارت
اقتصادياً من الخارج، بينما يأكلها سرطان الطائفية من الداخل، فكان أن وقف الشعب
بكل طوائفه معا، ليعلن حقبة جديدة من تاريخ لبنان، لا للطائفية لا للفساد، لا
للكهنوت، نعم للعمل النظيف والشريف ولحكومة تكنوقراط لا تقوم على أساس المُخاصصة.
ومع
تقديم سعد الحريري استقالة
حكومته تكون أولى اللاءات التي وضعها حسن نصرالله قد سقطت،
وبهذا يؤكد الشعب العربي رسالته من جديد، وهذه المرة من لبنان: (لا سلطة مهما كانت، سياسية أو دينية أو وطنية تستطيع فرض ولايتها
على الشعب بالقوة).
وفي العاصمة
الأردنية عمّان، كان هناك حدث عميق المعنى لا يقل أهمية عما ذكرنا آنفاً، وهو
انتصار نقابة المعلمين في وقفتها الاحتجاجية ضد غطرسة الحكومة وتعاليها، ونجاح
النقابة في انتزاع حقوق المعلمين بأداء نقابي عمّالي عالي المستوى، وسط تعاطف
ومساندة الغالبية العظمى من طبقات المجتمع الأردني.
وإذا أخذنا
في الحسبان الصراع التاريخي القائم بين الحكومات وحليفاتها شركات رجال الأعمال من
جهة، وبين النقابات العمّالية من جهة أخرى، واضعين في الحسبان أيضاً، الأرق الذي
تشكّله مؤسسات المجتمع المدني لأي حكومة في عالمنا العربي، لوجدنا ان هذا النصر قد
أعاد إحياء الايمان بمنهجية النقابات العمالية وأهمية المؤسسات المدنية في
المجتمع، وهو نصر آخر يضاف للربيع العربي.
ما يميّز هذه
الموجة الثانية من موجات الربيع العربي أنها غدت أكثر ثراءً في الفكر والنهج،
وأكثر حرصاً على عدم تكرار أخطاء الماضي، والأهم من ذلك، أنها تشهد إجماعاً من
الشارع العربي أكثر من ذي قبل، فنسبة كبيرة ممن كانوا يؤيدون نظرية المؤامرة في
السابق ويهاجمون الربيع العربي، أصبحوا اليوم على يقين أن أفكارهم التي بنوا عليها
مواقفهم قد أثبتت خطأها.
فالولايات
المتحدة والعالم الغربي لم يكونا يوماً من مناصري الديمقراطيات "الحقيقية"
في عالمنا العربي، كما أنهم لم يساندوا يوماً حركات الإسلام السياسي للسيطرة على
العالم العربي، بل على العكس من ذلك كانت الولايات المتحدة دوماً ما تساند الحركات
الإسلامية المتطرفة وتتعاون معها من القاعدة إلى داعش.
وفي الحديث عن
داعش، بات الجميع يعلم اليوم أن الربيع العربي بريء من هذه الجماعات الإرهابية،
وأن المخابرات الامريكية والموساد ضليعان في انشاء وتكوين هذا التنظيم، لزرع
الفوضى وإفساد الثورات المدنية في العالم العربي.
بل إن
مسرحية مقتل قائد التنظيم "البغدادي" لم تمر على أحد، ومعظم من كان يلوم
الربيع العربي على الفوضى والإرهاب، وانشاء داعش، بات اليوم يعلنها بكل صراحة ان
الولايات المتحدة والموساد هما من خلقا داعش، وهما من يدّعيان اليوم القضاء على
قائد التنظيم.
وفي مصر،
أقر الكثيرون بخطئهم في الاستعجال في دعم الحركة الانقلابية، وعدم تغيير الحكم عن
طريق صناديق الاقتراع، مما جعلهم اليوم يرزحون تحت رحمة العسكر لثلاثين عاماً
قادمة، قابلة للتجديد!
أما في
سوريا، فكل الأصوات الوطنية التي وقفت خلف بشار الأسد وعصابته الاجرامية، تحت شعار
الوقوف ضد المخطط الإمبريالي الصهيوني، قد باتوا اليوم أكثر اقتناعاً بأن الدولة
المدنية القائمة على التعددية السياسية وحرية الفكر، هي الضمان الوحيد للوقوف ضد ذلك
المشروع، وأن شبه الدولة السورية اليوم، لا تمثل شيئاً للسوريين سوى مقامرة فاشلة
قادها حزب فاشي لا يؤمن بالتغيير!
وفيما يخص حزب
الله، فمن لم يفق من أحلامه الوردية حين دخل حزب الله على خط المواجهة مع آمال
الشعب السوري ومطالبه الشرعية، فإنه اليوم قد أفاق من تلك الأحلام حين عاين بنفسه
كيف يقف حزب الله وأنصاره في مواجهة الشعب اللبناني بالتهديد والتنكيل، خوفاً على
مكانة الحزب، ومكتسباته السياسية، وخوفاً من مواجهة الخيار الديمقراطي الحقيقي
للشعب اللبناني.
وباتت
شعارات مواجهة العدو الصهيوني والتخويف من الفوضى، مجرد شعارات استهلاكية لا تسمن ولا
تغني من جوع.
حزب الله
مجرد سلطة فاسدة مثل أي سلطة أخرى في عالمنا العربي، الفارق الوحيد أنه يعمل في
الخفاء ولا يتصدر المشهد، رغم أنه الحاكم "العسكري" في لبنان.
والأدهى من
ذلك، أن الفكر الذي يقوم عليه حزب الله في الأساس هو نظام كهنوتي يؤمن بولاية
الفقيه، وهو بذلك يعارض أي حكم مدني أو ديمقراطي من حيث المبدأ، فهو يرى أنه يمثل
حكم الله في الأرض، وأن قداسة الحكم تتمثل في الأشخاص، وأن الأتباع لا يملكون سوى
تنفيذ أوامر ذلك "القدّيس" لنيل رضا الرب، فكيف يتّسق ذلك كله مع من
ينادي بالحرية ويطالب بدولة مدنية قائمة على أساس المؤسسات المدنية في المجتمع وأن
الشعب هو مصدر السلطات؟!
في الختام
نقول إن القادم أجمل وإن القادم أفضل، فالربيع العربي هو حركة ثورية رائدة وبديعة،
تحمل أفكاراً راسخة لا تموت بخسارة معركة، والربيع العربي كذلك ليس حكراً على
جماعة أو طائفة، بل هو ملك لكل مواطن عربي حر يحلم بدولة ديمقراطية تحترم حقوق
الانسان وتقوم على أساس التعددية.
الربيع
العربي حركة شبابية عفوية لا يقودها قائد أو زعيم أو قدّيس، ولكن هذا لا يجعل منها
مؤامرة أو تنظيماً مشبوهاً، لأن الزمن قد عفا على الزعامات الأسطورية والمعجزات
التي تنزل من السماء.
الربيع العربي لم تسبقه ثورة فكرية أو نهضة لأن
الفكر عندنا مُتخلّف، والنهضة قد تأخرت، وهذا لا يجعل من شباب الثورة مجموعة من المأجورين
أو المغرر بهم والمضحوك عليهم، بل يجعل منهم أبطالاً شامخين أمام أقزام المثقفين
والمفكرين والمتخلّفين عن الركب!
لا يوجد
لدينا جان دارك ولا جان جاك روسو، ولا مارتن لوثر كينج أو نيلسون مانديلا، ولكن
لدينا ذات الحلم، وذات الفكرة، مع اختلاف العصر وأدوات التطبيق ووسائل التعبير،
فدعوكم من دروس التلقين والنقل، وانزلوا إلى الميدان لتكتبوا التاريخ بأفكاركم
وحدكم وبشخوصكم، لا بالتقليد والمحاكاة.
لا تقبلوا
بأنصاف الحلول، ولتبقى شعارات الحرية والعدالة، ومطالبات إسقاط أنظمة الفساد
والحكم الكهنوتي والعسكر شعارات أبدية وميثاق حرية لكل مواطن عربي، وكلّن يعني
كلّن!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
6-11-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق