الاثنين، 18 نوفمبر 2019

مأساة "جوكر"




أثار فيلم "جوكر" الكثير من الجدل واللغط، حتى قبل بدء عرضه الرسمي في صالات السينما، كما شهدت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، موجة من التفاعلات مع الفيلم، والدلالات التي يمكن قراءتها من القصة، وماهيّة الرسالة التي يريد القائمون على العمل ايصالها الى المشاهد، كما تباينت كذلك آراء النقّاد السينمائيين، وإن اتفق الجميع على نجاح الفيلم فنيّاً.

فيلم "جوكر" هو فيلم درامي تشويقي اجتماعي بحت، لا ينتمي لسلسلة أفلام "الكوميكس" رغم أنه يتحدث عن شخصية رئيسية في تلك السلسلة، إذ أنه يغوص في أعماق شخصية "جوكر" ويبحث عن بدايات تكوين سلوكياته وبناء شخصيته، حيث يركز الفيلم على الظروف الاجتماعية السيئة التي عاش فيها "آرثر" ممثل الكومبارس الهزلي الذي يعاني من أمراض نفسية مزمنة ويعيش مع والدته المعتلّة صحياً، والتي يتبين في النهاية أنها تعاني من هلوسات وأزمات نفسية أيضاً.

وفي الوقت الذي يحلم فيه آرثر أن يصبح نجما كوميديا ناجحا في عروض "ستاند أب كوميدي" فإنه يتحول إلى محل للسخرية والنقد، نتيجة مشاكله النفسية التي تؤثر على سلوكه ونطقه بل وشكله الخارجي.

في المجمل، الفيلم قدّم لنا الممثل "خواكين فونيكس" بشكل لم نعهده من قبل وبأداء باهر تجاوز التوقعات وتفوّق فيه على سابقيه، وبات المرشح الأوفر حظا للفوز بجائزة أوسكار هذا العام لفئة أفضل ممثل. كما تميّز الفيلم أيضاً بالإخراج المتقن والتكنيك العالي، وبالموسيقى التصويرية التي أدّت دورها في الاستحواذ على حواس المشاهد وجذب انتباهه طوال مدة الفيلم.

نجاح الفيلم فنيا ودراميا في حبك القصة وعرض الجانب الآخر من قصة "جوكر"، قدّم لنا شكلاً آخر من المآسي الأدبية الشهيرة، يصح تسميتها ب "مأساة جوكر". هذه المأساة الأدبية أدت في النهاية الى تعاطف شريحة كبيرة من المشاهدين والجمهور والنقاد مع هذه الشخصية، وبدا هذا لافتاً ليس فقط في التعليقات والمنشورات وتأوهات الجمهور وضحكاتهم في صالات السينما وتفاعلهم مع تلك الشخصية، بل إنه وصل إلى حد الإعجاب البطولي بهذه الشخصية.
فقد تحوّلت السلالم في برونكس-نيويورك التي شهدت رقصة جوكر الشهيرة في الفيلم، إلى مزار سياحي للعديد من المعجبين، وباتت تعرف اليوم ب "سلالم جوكر"، مما اضطر شرطة نيويورك إلى الاشراف على تلك المنطقة وتنظيم الدخول اليها.

هذا الاعجاب البطولي بحد ذاته بفرض علينا سؤالاً غاية في الأهمية: ما السر وراء هذا التعاطف وهل يمكن التلاعب بالبشر عن طريق دغدغة المشاعر واستدرار العطف؟

في الحقيقة إن العقل البشري قابل للخداع والتمويه واستدرار العطف، وهو خاضع أيضاً لقبول العديد من الحجج والبراهين التي تبدو في ظاهرها منطقية، ولكنها في الحقيقة مبنية على مغالطات للمنطق والواقع، وهو ما يطلق عليه مصطلح "المغالطات المنطقية". وفي هذا المجال يقع العديد من الناس في خطأ إطلاق أحكام خاطئة أو تكوين مواقف بعيدة عن الحق والمنطق.

ومن ضمن هذه المواقف والقرارات، التعاطف مع الجلاد أو الخلط بين خطيئة الظلم واستخدام العنف كوسيلة للانتقام، ذلك العنف الذي سرعان ما يتحول الى غاية في حد ذاته.

ويكفي أن نستشهد بما تصنعه السينما بشكل عام في عقول المشاهدين، فسلسة أفلام "رامبو" أعطت الشرعية لحرب أمريكا في فيتنام، (على الأقل في أذهان المشاهدين)، وهو ما فشلت في تحقيقه الإدارة الأمريكية خلال عقود، بل إن شخصية "رامبو" أصبحت شخصية وطنية بطولية تستحق الإعجاب والاشادة.
ورغم أن الجزء الأول من أفلام السلسلة كان يتناول مشكلة الجنود العائدين من ساحة المعركة وصعوبة اندماجهم في المجتمع من جديد، إلا أن بروباغندا الحرب وعقدة التفوّق الأنجلوساكسوني استغلت نجاح الفيلم وحوّلت مساره في الأجزاء التالية إلى تمثيلية هزلية عن الحروب الإنسانية التي يخوضها الجيش الأمريكي!

يمكن القول، إن البشر بطبيعتهم يميلون إلى مساندة الضعيف في مواجهة القوي، بغض النظر عن ميزان الحق والعدل، وهم بالتالي يميلون إلى مساندة المواطن ضد السلطة (أي سلطة) لا شعورياً، وهذه المتلازمة السيكولوجية جزء من سيكولوجية الجماهير التي تحدث عنها بإسهاب عالم الاجتماع غوستاف لوبون.

ويبقى السؤال الأخير هل يروّج الفيلم للعنف أو يبرّره؟ وهل يخلط الفيلم بين مفهوم الضحية والجلاد؟

   للإنصاف نقول إن الفيلم جاء ليلقي الضوء على الخلفية السيكولوجية والاجتماعية لشخصية "جوكر" الشريرة في سلسلة أفلام "باتمان"، وكان لزاماً أن تكون هذه الشخصية في النهاية هي نتاج المجتمع وآفاته، والاضطهاد القسري لها، فإذا أضفنا إلى ذلك، الانحرافات النفسية والسيكولوجية التي تعاني منها، ستكون النتيجة حتماً شخصية منحرفة وخارجة عن القانون.

الفيلم لا يتبنى وجهة نظر معينة في هذا الخصوص، وإنما يعرض الواقع كما هو، فالانحرافات النفسية والسلوكية في شخصية جوكر واضحة للعيان، كما ان الاضطهاد والعنف والسخرية والتهميش والظلم، التي تعرض لها في المجتمع واضحة وجليّة، ويبقى الحكم مرهون بوجهة نظر المشاهد، وقناعاته وميوله.

ولعل ذلك يتوضح حين يتعرض جوكر للسخرية من قبل الإعلامي والكوميدي الشهير موراي (يقوم بدوره روبرت دي نيرو)، حيث يشعر المشاهد وبشكل عفوي بالتعاطف مع جوكر، ولكن عندما يتحاور هذا الإعلامي مع جوكر ويتحدث معه عن جرائمه، يظهر لكل عاقل ألاّ منطق ولا حجة تحكم كلام وسلوكيات جوكر، ويظهر جليّاً أنه مجرد شخص ضعيف مضطرب نفسيا يستخدم العنف الشديد والسلوك الحاد، ليعبّر عن رفضه الباطني لظروفه السلبية، ولكي يغطّي على فشله في التعامل مع هذه الظروف أو التغلب عليها، سواء على المستوى الفكري أو السلوكي.

فعندما يتعرض أحد طلاب المدارس على سبيل المثال للتحرش أو التنمر فإنه يكسب تعاطف زملائه بل وتعاطف المجتمع ككل، ولكن عندما يفشل هذا الطالب في التعامل مع الأمر ضمن نطاق القانون والمحاسبة المسؤولة، وينكفأ على نفسه ويداري على ضعفه وعدم قدرته على المواجهة، ثم يتخذ من العنف أو تدمير الممتلكات، وسيلة للدفاع عن النفس، فإنه حينها يفقد مشروعية المواجهة، ويتحوّل الى مجرد ضال ومخالف للأعراف وقيم المجتمع.

"مأساة جوكر"، باختصار هي مأساة كل شخص مُهمّش وضعيف أساء له المجتمع، أو عامله النظام بازدراء، وتم تشويه صورته، والتركيز على مساوئه وعيوبه الشخصية ومشاكله النفسية، فانحرف وحاد عن جادة الصواب واستسلم لاضطراباته النفسية بل ووجد فيها الستر والدرع الواقي لمواجهة ذاته والمجتمع، وحدث في النهاية، أن تعاطفت معه جموع المهمشين والمظلومين وقليلي الحيلة، وكل من كسرته الحياة، إشباعاً منهم لرغبة الانتقام لديهم، وتحقيقاً لأمانيهم المكبوتة باسترجاع حقوقهم، حتى لو كان ذلك على شاشات السينما!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-11-2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق