هناك خلط في مفهوم الحكمة في تراثنا الإسلامي،
فهناك من يعتقد أن ما يُعرف
اصطلاحاً بالسنة النبوية هي المقصود بالحكمة الواردة في القرآن والتي آتاها الله
سبحانه وتعالى لسيدنا محمد:
((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً
مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)) البقرة (151)
قال ابن كثير: ويعلمهم
الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة.
ومن خلال التدبر في القرآن الكريم، نجد أن
الحكمة لم تكن محصورة في سيدنا محمد، بل جاءت مع باقي الرسل والأنبياء، وورد ذلك
في القرآن تحديداً مع سيدنا إبراهيم وعيسى، وداود وسليمان، وللاختصار نذكر هذه
الآية التي جمعت بين الكتاب والحكمة لجميع الأنبياء:
((إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَة)) آل عمران 81
بل إن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الحكمة تؤتى
لمن يشاء من عباده
((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ
أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)) البقرة (269)
وفي التمعّن في سورة الاسراء بالذات نلاحظ أن
الله سبحانه وتعالى قد أنزل على سيدنا محمد مجموعة من الوصايا الإلهية التي بدأت
بقوله تعالى
((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)) (23)
وانتهت بقوله تعالى
((وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ
لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) )) ثم تلاها
مباشرةً قوله :
((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ
مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي
جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا)) (39)
وهنا يتبين المعنى المراد من الحكمة، وهي
القدرة على الحكم على الأمور بعقلانية وصواب، والتصرف برشاد ورزانة، ونشر الإيجابية
والمعرفة في المجتمع، واستخدام المميزات والمواهب الشخصية (فن التواصل والخطاب
والقيادة) من أجل نشر القيم الإنسانية العليا ورسالة الإسلام. باختصار هي مجموعة
من الوصايا الأخلاقية والآداب العامة.
((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين))
ويلاحظ أيضاً أن الوعظ والإرشاد ونشر قيم
التسامح والقيم الإنسانية هي جزء من الحكمة، فحينما وردت الحكمة في سورة لقمان، (لقمان
ليس بنبي ولكنه أوتي الحكمة وعُرف بلقمان الحكيم) تلاها مباشرة مجموعة من الوصايا من
لقمان الى ابنه:
((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ
أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ))
وهكذا نستدل ان الله سبحانه وتعالى عندما
يؤتي الحكمة الى رسله وانبيائه فهو يجعل منهم نبراساً لنشر تلك الحكمة وتعليمها
لأتباعهم، وعندما يمنّ على أحد من عباده الصالحين بالحكمة ووضع الأمور في نصابها
الحقيقي، فهو يجعل منه قائداً ومُلهماً وناشراً للوعي والمعرفة لمن حوله.
بعيداً عن النصوص القرآنية، عندما نلتقي بشخص
متزن يضع الأمور في نصابها الصحيح فلا يستعجل إطلاق الأحكام، ولا ينجر وراء توافه
الأمور، ولديه من المقومات الشخصية ما يجعله مؤثراً فيمن حوله، ومصدراً لبث الطاقة
الإيجابية وابداء النصح والقول السديد، نقول عنه باختصار (رجلٌ حكيم). وهذه هي
الحكمة وليست أي شيء آخر.
وبناءً على هذا
الفهم للحكمة الواردة في القرآن، سنكمل لإعادة تعريف مفهوم السنة النبوية بعيداً
عن كتب التراث التي وضعتها في نفس الدرجة من القداسة مع التنزيل الحكيم واعتبرتها
وحياً من الله سبحانه وتعالى، وبعيداً أيضاً عن مُنكري السنّة بالكامل.
ولكن علينا أولاً
توضيح مفهوم (خاتم النبيين) في المنشور القادم، كي يكتمل فهمنا.
وفي النهاية أوجز القول بتعداد ما أورده الله
سبحانه وتعالى في سورة الاسراء ووصفه أنه من الحكمة:
·
وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
·
رَّبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ
·
وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
·
وَلاَ
تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ
·
فَقُل
لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً
·
وَلاَ
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُوماً مَّحْسُوراً
·
إِنَّ
رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
·
وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم
إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئا كَبِيراً
·
وَلاَ
تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً
·
وَلاَ
تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ
·
وَلاَ
تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ
·
وَأَوْفُواْ
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
·
وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
·
وَلاَ
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
·
نَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
·
وَلاَ
تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً
·
وَلاَ
تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
جعلنا وإياكم ممن سعى وراء الحكمة فجازاه الله
خيراً أن آتاه إياها، ثم عمل كل ما يلزم لنشر تلك الحكمة والمعرفة من أجل خير
الآخرين.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
28-5-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق