السبت، 1 يونيو 2019

*آيات استوقفتني (11) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا*




هذه الآيات من سورة الأحزاب تدور حول إباحة زواج الآباء من مطلّقات أبنائهم بالتبني.
من المعروف أن العرب والمؤمنين من أتباع سيدنا محمد كانوا يعاملون أبنائهم بالتبني معاملة أبنائهم من صلبهم، ولم يكونوا يستسيغون الزواج من زوجات أبنائهم بالتبنّي بعد طلاقهم، حتى بعد أن أحلّ الله ذلك
فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل من زواج سيدنا محمد من طليقة ابنه بالتبني (زيد بن حارثة) دافعاً للمؤمنين بأن يرفع الحرج عنهم ويبيح لهم ذلك.
فقام سيدنا جبريل وبوحي من الله سبحانه وتعالى بإخبار النبي محمد بأن زيداً سيطلّق زوجته (زينب بنت جحش)، وأن الرسول عليه أن يرتبط بها بعد ذلك.
ولكن سيدنا محمد شعر بالحرج الشديد، لكونها أسبقيّة خارجة عن المألوف في المجتمع آنذاك، فقام أولاً بمحاولة الإصلاح بين زيد وزوجته وكتم خبر الوحي، إلى أن أتم الله أمره وتزوج سيدنا محمد من زينب ونزلت هذه الآيات:

((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا  (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا  (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا  (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا  (40)))

وموضوعنا اليوم عن الآية الأخيرة.

ما المقصود ب: (ما كان محمدّ أبا أحد من رجالكم)؟ وما علاقة ذلك بتتمّة الآية: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وما معنى خاتم النبيين؟

بداية وكما اتفقنا في منهجية القراءة المعاصرة بأن لكل كلمة معنى مستقل، فكلمة أب ليست ككلمة والد في الاستخدام والمعنى، وحين استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة أب قصد منها معنىً يتعدى معنى الوالدية البيولوجية.
فمن جهة لم يكن هناك داعٍ لنفي أن يكون محمد والد زيد بن حارثة، فكل قريش تعلم أن زيداً كان عبداً لدى السيدة خديجة قبل أن تهبه لسيدنا محمد (بعد زواجه منها)، ثم أعتقه سيدنا محمد واختار زيد أن يبقى في كنف سيدنا محمد وحينها قال سيدنا محمد قولته الشهيرة (يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا ابني أرثه ويرثني) وصار يّدعى زيد بن محمد.

إذاً هذا النفي الوارد في القرآن يتعدى المعنى السطحي للجملة، إلى نفي أن يكون محمدٌ هو الأب الروحي لأي من المؤمنين بحيث تنتقل النبوّة أو الخلافة المقدّسة من سيدنا محمد إلى أي أحد من بيته أو من أتباعه، كما يحصل الآن للأسف في الكهنوت الذي ابتدعته بعض الفرق الإسلامية، وتعتبر أن الإمامة تنتقل من شخص إلى آخر، وأن هذه المكانة المقدّسة هي هبة من الله سبحانه وتعالى وبركات منه.

فهذه الآية تنفي كل تلك الأساطير والقداسة المزيفة.

والدليل هو تتمة الآية التي توضّح أن محمد هو رسول الله وخاتم النبيين، وأن لا أحد من أتباعه له الحق في ادعاء وراثة مكانة سيدنا محمد الدينية أو المطالبة بتوريث منصبه السياسي بحجة انتمائه الى بيت سيدنا محمد (الارتباط البيولوجي) أو الانتماء الى سيدنا محمد بالأبوّة الروحيّة.

وهذا يجعلنا ننتقل الى الحديث عن خاتم النبيين، لماذا كان سيدنا محمد هو خاتم النبيين؟

كل الرسالات التي سبقت سيدنا محمد كانت تعتمد على تعاليم سماوية واضحة (افعل، لا تفعل) وكانت تعتمد على الوحي والإرشاد الإلهي مع هامش ضئيل من الاجتهاد وحرية التصرّف، وطبقاً لارتقاء البشر على سلم المعرفة الإنسانية وتقدم العلوم، كانت الحكمة الإلهية بأن الوقت قد حان كي ينقطع الوحي المباشر من السماء الى الأرض، وتبدأ رحلة جديدة في تاريخ البشرية بالاعتماد على منهج رباني متكامل (القرآن العظيم) قادر على استيعاب التطور البشري واختلاف العصور وتطور المعرفة ووسائل وأدوات المعرفة، دون اتصال مباشر مع السماء، أو خوارق للطبيعة أو معجزات تفوق قدرة البشر.

وأن العلم والابداع وتسخير الموارد المتاحة، هو الوسيلة الوحيدة للرقي في المعرفة.

ومن هنا كانت عظمة سيدنا محمد الذي أسّس لمرحلة جديدة في تاريخ البشرية بأن كان المعلّم الأول لجيل المؤمنين الأوائل في كيفية إدارة الدولة (الحكم) وتنظيم المجتمع المدني (المدينة المنورة) وفي أمور الحرب والسلم، والتعامل مع الدول المجاورة (السياسية الخارجية) وفوق كل هذا الاجتهاد في النص بما يتناسب مع طبيعة المجتمع وطبيعة المتلّقي واختلاف الظروف، والأخذ بالأسباب والابداع، دون الاعتماد على معجزات وخوارق للطبيعة.

وهذا ما مكّن الدولة الإسلامية في بداية عهدها من سيادة العالم وتحقيق قفزة حضارية هائلة لم يشهدها تاريخ العالم كله في فترة زمنية قياسية.

ولكن ما أن عادت العجلة الى الوراء وبدأنا بتقديس النص الثابت والجامد، وأغلقنا باب الاجتهاد، وتركناه محصوراً في أسماء معينة أحطناها بالقدسيّة ورفعنا مستوى نصوصها الى مستوى النص الإلهي، عاد بنا الزمن الى الوراء وبتنا للأسف نتوجه الى السماء لنجدتنا ونعلن فشلنا في الاعتماد على أنفسنا في الاجتهاد والتفكير في النص الإلهي القادر على القفز بنا الى الأمام، وهذا تجسيد لشهادة سيدنا محمد علينا يوم القيامة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، رسالة الى كل من يقدّس الرموز ويعتقد أنهم مرتبطين بحبل من السماء.

خاتم النبيين، رسالة الى كل من يعتقد أن النص الإلهي هو نص مغلق لا يقبل التدبر والاجتهاد، وأن فهم الجيل الأول له هو الفهم الوحيد الصحيح غير القابل للنقاش.

ولا حول ولا قوة الا بالله.

هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
1-6-2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق