لن آتٍ بجديد إذا قلت، إننا نعيش فجوةً حضارية هائلة بين دولنا العربية ودول العالم المتقدم، وإننا كشعوب عربية، يحلو لنا دوماً لوم الحكومات والأنظمة على السياسات الفاشلة، التي أوصلتنا إلى هذا القاع.
وربما يحلو للبعض أيضاً، أن يعزو أسباب هذا التخلّف الحضاري إلى الاستعمار الحديث، ونظريات المؤامرة.
ولكن احداً لا يعلّق الجرس، ويشير إلى تقصير الأفراد والمجتمعات والمؤسسات المدنية والأهلية على حد سواء، ودور ذلك التقصير، في ازدياد هذه الفجوة الحضارية.
والأنكى من ذلك، أننا وعلى مستوى الوجه الآخر للحضارة وأقصد الأخلاق الإنسانية والقيم المجتمعيّة، نعيشُ في الحضيض أيضاً، ولكننا رغم كل شيء، نصرُّ على تجاهل هذه الحقيقة، والادعاء باننا أفضل الأمم، وأحبّها إلى الله، وأننا وإن كنا خسرنا سباق الحضارة والإنجازات العلمية والتفوّق الأممي، فإن مجتمعاتنا ما زالت الأفضل أخلاقاً ومراعاة للقيم الإنسانية، وهذا ما يدحضه الواقع جملةً وتفصيلاً.
في العام الماضي، قمت بشراء مجموعة من الكتب العربية عبر موقع الكتروني لأحد أكثر المتاجر العربية رواجاً وشهرةً، وبما أني معتاد على طلب عدد من الكتب يكفيني مخزوناً للقراءة لمدة لا تقل عن ستة شهور، فقد فوجئت بأن أحد الكتب التي قرأتها متأخراً، فيه نقصٌ لأكثر من خمسةٍ وعشرين صفحة، وأن الصفحات التي تلي ذلك النقص مقلوبة رأساً على عقب!
قمت بمراسلة المتجر "العربي" وشرحت له المشكلة، وبعد انتظار عدة أيام جاءني الرد بطلب إثبات المشكلة، من خلال تصوير الصفحات وتبيان النقص، وتصوير الصفحات المقلوبة، مع تصوير الكتاب والرقم المتسلسل ....إلخ.
وهذا الطلب ليس بجديد على ثقافتنا العربية، فجميع مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية، تتعامل مع المواطن العربي بسياسة (أنت كاذب إلى أن تُثبت صدقك) على عكس باقي العالم المتحضّر، الذي يفترض أن الانسان صادقٌ مؤتمن، وأن الكذب والخداع هو الاستثناء.
ورغم أن ثمن الكتاب لا يتجاوز عشرة دولارات، إلا أن أسلوب الرد استفزّني، وبالفعل قمت بتصوير كل ما هو مطلوب، وأرسلته عبر الإيميل.
ويبدو أن سياسة المتجر انتقلت بعد ذلك إلى سياسة "التطنيش"، أي إهمال الطلب، إلى أن يملّ المستدعي وصاحب الحق ويتغاضى عن متابعته!
بعد عدة أيام من الانتظار والمتابعات، طلبوا مني تزويدهم بفاتورة الشحن، رغم أن جميع المعلومات متوفرة لديهم في النظام.
أسلوب التعجيز أو "التطفيش" هذا، ليس بغريب ولا مستهجن في عالمنا العربي، أذكر أني ذهبت الى أحد البنوك ذات مرة لفتح حساب، فطلبوا مني إحضار نسخة من فاتورة الكهرباء لآخر ثلاثة شهور، وعبثاً حاولت فهم العلاقة بين فاتورة الكهرباء وفتح حساب بنكي!
وحين أخبرتهم أني لست مُقيماً في البلد وأني أسدد جميع فواتيري من خلال قنوات الدفع الالكترونية وأن الفواتير الورقية لا تصلني أصلاً، طلبت مني الموظفة الذهاب الى شركة الكهرباء واستخراج الفواتير الورقية، بحجّة أن هذه هي التعليمات!
بالعودة الى المتجر العربي للكتب، وبما أني كنتُ مُصرّاً على تعويض الكتاب، فقد بحثت في أدراجي القديمة واستخرجت الفواتير اللازمة، وبعد طول انتظار جاءني الرد الحاسم والنهائي، بالاعتذار عن تزويدي بنسخة جديدة من الكتاب أو تعويضي عن ثمنه، بسبب مضي أكثر من ستة شهور على ارسال الكتب!
حينها، فقدت العزيمة على الاستمرار في الجدل البيزنطي، ورددت عليهم مُعقّباً: إذا كانت سياسة المتجر عدم قبول اعتراضات على الطلبات التي مر عليها مدة ستة شهور، لماذا قمتم بطلب تصوير الكتاب وإثبات النقص فيه، ثم طلبتم الفواتير المتعلقة به، هل كانت محاولة لاختبار صدقي؟
هذه التجربة قفزت الى الذاكرة من جديدة قبل نحو شهرين، حين اشتريت كتاباً في الإدارة، من أحد المواقع الأجنبية، ونظراً لحاجتي السريعة للكتاب قرّرت ولأول مرة شراء نسخة الكترونية من الكتاب، على أن أقوم بطباعته بعد ذلك كسباً للوقت، ولكن المفاجأة كانت أن خيار الطباعة محدود بعشرين صفحة فقط، عدا عن عدم إمكانية نسخ الكتاب على أي من وسائط النقل، أو نقل محتواه الى ملف آخر.
راسلت المتجر حول المشكلة، وجاءني الرد خلال أقل من 24 ساعة، حيث أوضحوا لي أن شروط الطباعة تختلف من كتاب الى كتاب حسب اتفاقية دار النشر، وأن هذا الكتاب يخضع لسياسة تقضي بعدم طباعة أكثر من عشرين صفحة في اليوم الواحد، أما بالنسبة لنقل محتوى الملف ومشاركته فهي سياسة عامة للموقع، تمنع نقل المحتوى للحفاظ على حقوق الملكيّة.
بعد هذا الرد "الاحترافي"، لا أخفيكم أني فقدت الأمل وشعرت في تلك اللحظة أني قد أضعت سبعين دولاراً أمريكيا عبثاً!
ولكني حقيقةً شعرت بالغبن، فقمت بالرد عليهم وفي نفس اليوم، بأني لم أطّلع على هذه الشروط حين اشتريت الكتاب، ولم يتم توضيح ذلك على الموقع قبل عملية الشراء، ولو كنت أعلم هذا لما أتممت عملية الشراء.
وفي اليوم التالي جاءني الرد الصاعق من المتجر: نأسف على الازعاج الذي حصل لك، وعن انطباعك السيء عن التسوق من خلال موقعنا. هل ترغب بإعادة المبلغ إلى بطاقتك الائتمانية أم الاحتفاظ به للشراء في المستقبل؟
لم يستغرق الأمر مع المتجر الغربي (في بلاد الكفر) لأكثر من 48 ساعة لإعادة المبلغ الذي يساوي أضعاف ثمن الكتاب الذي خسرته في المتجر العربي، رغم أنه كان بالإمكان تحميلي المسؤولية لجهلي في التعامل مع الكتب الالكترونية، ليس هذا فحسب بل إني احتفظت بالنسخة الالكترونية من الكتاب دون مقابل!
لم تنتهِ الحكاية هنا، فبعد حل مشكلة الكتاب الالكتروني، قمتُ مباشرة، بشراء نسخة ورقية من نفس الكتاب من متجر متخصص آخر، ووصلني الكتاب المطلوب عن طريق الشحن السريع. وبعد نحو شهر وصلني ايميل من ذات الموقع يعلمني فيه بإعادة مبلغ (دولار واحد) الى حسابي وذلك نتيجة فروقات في احتساب أجور الشحن، حيث أوضحوا لي أن سياسة الموقع هي احتساب قيمة الشحن حسب المنطقة الجغرافية التي يقطن فيها طالب الشراء، ويحدث أن يكون هناك بعض الفروقات تبعاً لبلد الإقامة!
نعم، أعادوا لي دولاراً واحداً!
كنت أتمنى ان تقوم المعاملة بيننا كأفراد وكمؤسسات، على أساس الثقة والاحترام والصدق المتبادل، وأن نتحلّى بالأخلاق التي نتشدّق بها في منتدياتنا، ونحشوها في كتبنا ومنشوراتنا، وتملأ فضاءنا في العوالم الافتراضية.
حبذا، لو راجع كل فرد فينا منظومته الأخلاقية في التعامل مع الآخرين، ومعايير النزاهة الشخصية والإخلاص في العمل، قبل أن نتوجه باللوم إلى الحكومات والأنظمة، فالريادة الحضارية تعتمد على حضارة الأفراد أولاً، كما أن أخلاق الأفراد والمجتمع تُعتبر انعكاساً لأخلاق الدول.
الفرق بيننا وبينهم، أننا حصرنا الأخلاق والنزاهة والإخلاص والصدق في التعامل، في الخُطَب والشعارات والكتب التاريخية، بينما هم جعلوا منها أنموذجاً حيّاً.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-6-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق