التقيتُ قبل
أيام مع مجموعة من أصدقاء الدراسة، الذين ترافقت معهم في المرحلة الثانوية، وما
زالت تجمعنا علاقة صداقة وطيدة إلى اليوم، رغم أن الحياة قد باعدت بين مساراتنا
وأماكن إقامتنا.
ورغم أننا
نلتقي كل عام في الاجازة الصيفية، إلا أن لقاءنا الأخير هذا، كان مميزاً، إذ أنه
صادف بلوغنا الخمسين من العمر، بعضنا قد جاوزه بقليل، والبعض الآخر يقف على
أعتابه.
وقد غلب هذا
الحدث على حديثنا، وغلّف أجواءه، حيث تبادلنا الحديث تارةً عن أزمة منتصف العمر،
وتارةً عن مفارقات عمر "الخمسين"، وما يلازمه من شعور بالعجز عن مجاراة
سباق الزمن الذي لا يتوقف، ونزيف السنوات الذي لا نملك إيقافه أو تعطيله.
وقد أخذ
حديثنا طابع التندّر، إذ أننا في داخلنا لا نشعر بأي تغيير قد طرأ علينا، يتناسب
مع تقدّمنا "الخارجي" المهول في العمر، أو ازدياد أرصدتنا في بنك الأعمار،
فروح الشباب فينا ما تزال متقدة، وحسّ الطفل في داخلنا ما زال مشاكساً، كما أن نظرتنا
إلى الحياة ما تزال متفائلة ومشغولة بمشاريع كبيرة وطموحات وآفاق بعيدة، ولكن هذا
كله يتوقف أمام نظرة الآخرين وخصوصاً نظرة جيل الشباب الذي قد يرى فينا جيلاً قد
أفل زمانه!
ومن هذه المفارقات
التي تحدثنا عنها، مصطلح "يا عمّو" الذي بدأنا نسمعه حديثاً ونستهجنه،
خصوصاً إذا ما جاء من إحدى الفتيات الحسناوات في مقتبل العمر!
أو
الاستغراب الذي تثيره رغبة أحدنا في ممارسة هواية ما، تبدو كأنها لا تليق بجيلنا.
أو تلك الصدمة
التي ترتسم على وجوهنا عندما نطالع خبراً في إحدى الصحف، يحتوي على عبارة "عجوزٌ
خمسينيّ" تصفُ أحد الأشخاص الذي أنهى العقد الخامس من حياته!!
يقول الكاتب
خالد محمد توفيق عن أزمة الخمسين من العمر: (فجأة وجدت أنني في الأربعين، الخامسة
والأربعين، ثم سن الخمسين! هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة.
بدأت أشعر
بالذعر عندما لاحظت أن الباعة يقولون لي «يا حاج»، والمراهقون يقولون لي «يا عمو»،
ثم ازداد الأمر سوءاً عندما صار الأولاد المهذبون يقفون لي في وسائل المواصلات كي
أجلس مكانهم)
أذكر موقفاً
طريفاً لأحد الزملاء السابقين في العمل، والمعروف بخفة دمّه، حيث توجه بالسؤال إلى
أحد الموظفين ذات يوم: كم بلغت من العمر؟، فأجابه أنا في منتصف الثلاثينات، فقال:
لو اقتطعنا عمر الطفولة غير الواعية من عمرك لأصبح عمرك الآن عشرون عاماً!
ثم أردف
قائلاً: ولو خصمنا من سنواتك العشرين هذه، ما قضيته في نومك وحاجاتك الفسيولوجية،
لوجدنا أن عمرك الحقيقي هو عشر سنوات فقط! وهنا تناثرت الضحكات على الحضور، وتصاعدت
القهقهات.
في البدايات
كنت أقصّ هذه الحادثة على أنها طُرفة للفُكاهة لا أكثر، ولكني في الحقيقة وبعد
سنوات تأملت فيها، فوجدت فيها نظرة فلسفية عميقة، أستطيع القول بناءً عليها، إن
عمر الانسان يُقاس بما أنجزه لا بما عاشه، والسؤال الذي يجب علينا طرحه على أنفسنا
مع كل رأس سنة خاص بنا: ماذا أنجزت هذا العام، وماذا حققت من الأهداف؟ كم كتاب
قرأت، وكم تقدّمت معرفياً؟ ماذا أضفت من فائدة او معرفة إلى حيوات البشر، بمعنى
آخر: كم تقدمت على سلّم الحياة، لا على خط الزمن؟!
والاجابة
باختصار، هي عمرك الحقيقي.
لعل هذه
النظرة الفلسفية للحياة، قد تعمّقت لدي بشكل أكبر وأوضح مع بلوغي الأربعين من
العمر، ولا شك أن العقد الرابع من العمر يُعدُّ مرحلة فاصلة لكل إنسان، وعلامة
فارقة في حياته. إنه مرحلة الحكمة والنضوج الفكري وتمام العقل.
والملاحظ أن
نظرة المرء إلى الحياة تختلف مع بلوغ الأربعين، حيث تبدأ مرحلة المراجعة النقدية
لما مضى من التجارب، وللمخزون المعرفي من قيم ومبادئ عليا، وهنا تلعب الخبرة
والحكمة دوراً حيوياً في إعادة صياغة الأهداف، وإعداد برنامج متجدد من الأهداف والطموحات
الكبيرة.
وقد خصّ
الله سبحانه وتعالى، هذا العمر بالذات بالحكمة ورجاحة العقل، في قوله: (حَتَّىٰ
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
وللدلالة
على هذا الأمر، فإني لم أقتنع بصحة الحكمة الشهيرة التي قالها الكاتب الدكتور واين
داير "عندما يتاح لك الاختيار بين أن تكون على صواب أو أن تكون لطيفاً، اختر أن
تكون لطيفاً"، ولم أتمكن من تطبيقها والالتزام بها إلا في عمر الأربعين، وحينها
اكتشفت أنها رغم كونها بسيطة في الطرح، ولكنها عميقة في المعنى، بل وعظيمة الأثر
أيضاً.
وأنا أخطو
خطواتي الأولى في العقد السادس من العمر، مُخلّفاً ورائي خمسة عقود كاملة من الزمن،
ما زلت أنظر الى المستقبل كما نظرت إليه قبل عقد من الزمان، أحمل بداخلي أحلاماً
عظيمة، وأرى في نفسي طاقة نابضة، وروحاً من الشباب لم تذبل، ما زلت مصرّاً على
تجاهل النصائح التي تحجب عني ألوان الحياة الزاهية، وتضعني في قالب "العجوز
الخمسيني"، فعمري الحقيقي هو ما أشعر فيه بداخلي، وما يستطيع جسدي أن يعاونني
عليه، لا ما أراه مكتوباً في شهادة الميلاد. وفوق هذا فإني أكثرُ اهتماماً بعمري "الحقيقي"
على سلّم الحياة، لا على خط الزمن.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-6-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق