بعد ما تقدّم من مواضيع حول مفهوم الحكمة،
ومفهوم توارث النبوّة (خاتم النبيين)، وما طرحناه في العام الماضي حول مفهوم الوحي
(وما ينطق عن الهوى) وحصر الوحي في تنزيل الكتاب والقرآن، نتحدث اليوم باختصار عن
مفهوم السنة.
هناك من العلماء الذين تحدثوا عن خطأ استخدام
كلمة سنة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: د. محمد شحرور و د. محمد هداية. وسأستخدم
مصطلح السنّة هنا بالمعنى المتعارف عليه (الاقتداء بالنبي محمد).
الحديث هنا سيكون موجزاً ومختصراً لأن
الموضوع عميق ويمكن الاستزادة بقراءة الكتب المختصة والتي تبحث في الموضوع
باستفاضة وأخص منها بالذكر (السنّة الرسوليّة والسنّة النبويّة) للدكتور محمد
شحرور.
أولاً يجب التفريق بين اتباع أوامر الرسول
محمد (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وبين ما يُعرف اصطلاحاً بالسنة النبوية، حيث
لم يرد في القرآن: (وأطيعوا النبي). وهذا بحد ذاته مفصل رئيسي لفهم موضوع السنة.
فكل ما جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم حول
أحكام الدين مثل الصلاة، الزكاة، شعائر الحج، أحكام الصوم، هو واجب الاتباع بنص
القرآن.
ثانياً: كل ما جاء خلاف ذلك من أحكام شرعية
أو تفصيل لحكم، فيجب عرضه على القرآن فإن توافق معه أخذنا به وإلا فلا، لأن الله
سبحانه وتعالى تعهّد بحفظ الكتاب ولم يتعهد بحفظ الأحاديث أو بلاغ الرسول.
وهذا يتضمن على سبيل المثال لا الحصر، حديث
الرجم، وحديث التبنّي، وحديث الوصية وغيرها.
ويجب
على علماء الأمة الاجتهاد في هذا الموضوع بالذات وتبيان الاختلاقات التي نسبت إلى الرسول
صلى الله وعليه وسلم وتتعارض مع القرآن ثم الإعلان صراحة بعدم صحتها، بدلاً من
محاولة الجمع بينها بين آيات الكتاب، تارة بحجة نسخ الآيات، وتارة بتحميل الآيات
ما لا تحتمل من معنى، وكل ذلك من أجل عدم المساس بالتراث والأحاديث المتواترة.
ثالثاً:
الوصايا الأخلاقية والقيم الإنسانية، كل ما جاء عن الرسول من أحاديث تتعلق بمنظومة
الأخلاق والوصايا والمعاملات تنضوي تحت لواء الوصايا الإلهية لخير البشرية، وهي
واجبة الاتباع من باب الاقتداء بالرسول، وقول العلماء في هذا الباب هو نيل الرضا
والقبول لدى الله تعالى نتيجة القيام بهذه الأعمال، ولكنها لا ترتقي الى درجة
الأوامر والنواهي الإلهية المباشرة والواردة في الكتاب العظيم.
ومنها على سبيل المثال:
((يُسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على
القاعد، والقليلُ على الكثير))
((كل بيمينك وكل مما يليك))
رابعاً: الأذكار والدعاء وما ورد من صلاة
الشكر وصلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة والاستخارة وغيرها، كل هذا برأيي الشخصي يتعلق
ببند مهم جدا هو البرمجة اللغوية العصبية او التنمية الذاتية، وهي باب مهم جداً من
أكبر أبواب الحكمة من وجهة نظري والذي يعمل على صقل النفوس البشرية وإعادة تنظيمها
بما يضمن الصحة النفسية والذهنية لها.
وكل من جعل من الأذكار اليومية برنامجاً
يومياً له، ولجأ دوماً إلى أداء كل ما ورد من وصايا للرسول في هذا الباب يعرف مدى
الأثر الإيجابي على حياته.
وأسوق هنا بعض الأمثلة:
((بشِّرُوا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا
تعسِّروا))
((لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أنْ
تَلْقَى أخاك بوجه طلق))
((تبسمك في وجه أخيك صدقة))
((تفاءلوا بالخير تجدوه))
خامساً: ما ورد من اجتهادات من النبي صلى
الله وعليه وسلم في تنظيم المجتمع والسوق والمعاملات وأمور النظافة الشخصية
والطهارة واللباس.... الخ، فإن الأصل فيه الاقتداء وليس التقليد حيث من الواجب
علينا إعمال العقل والاجتهاد والرقي بأمور المجتمع والحضارة بناء على ادواتنا
المعرفية وما توصلت له البشرية كما فعل سيدنا محمد بالنسبة لعصره من باب النبوّة
وليس من باب الرسوليّة.
فكما ذكرت في الموضوع السابق إن النبي صلى
الله عليه وسلم كان خاتم النبيين وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه وأغلق باب
المعجزات وحرّي بنا ان نستمر على طريق الاجتهاد لا ان نتوقف عند اجتهاد النبي
والصحابة من بعده.
والأمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال لا
الحصر، سفر المرأة، حُكم المرأة للدولة، حكم الموسيقى والفنون بشكل عام، المسواك،
تقصير الثوب والحجامة.....الخ.
فالأصل في هذه الأمور هو الهدف والقصد وليس
التقليد، فاستخدام فرشاة الأسنان وغسول الفم من السنة طالما أن الهدف هو الاعتناء
بنظافة الفم والأسنان، مع الاستغناء عن المسواك إلا للحاجة مثل السفر.
وتقصير الثوب خوفاً من النجاسة، لا ينطبق على
المجتمعات المدنية التي لديها من البنية التحتية ما يغنيها عن الخوف من النجاسة.
وحكم المرأة للدول قد أثبت نجاحاً عظيماً،
نظراً للقفزة الحضارية التي حدثت.
وسفر المرأة اليوم من بلد إلى بلد لا يوجد
فيه مخاطر ولا خوف على عرض أو حياة.
والموسيقى لها معايير أخلاقية إذا تم
الالتزام بها فتصبح غذاء للروح، وأداة عصرية لا يمكن الاستغناء عنها.
والحديث يطول عن هذا الباب، وهو لبّ الموضوع
الذي يختلف عليه معظم من يقول بالالتزام بنص السنّة، وبين من يرى ضرورة اخذ الهدف
والقصد منها.
هذا باختصار ما أراه من كيفية الاقتداء بالسنة
النبوية والرسولية لتحقيق الهدف المنشود منهما، لا من أجل التقليد والإبقاء على
ذات الأدوات المعرفية التي راجت في المجتمعات الأولى.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
2-6-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق