الثلاثاء، 4 يونيو 2019

*آيات استوقفتني (14) سيدنا يعقوب*




هل كانت شخصية سيدنا يعقوب التي تجسّدت في سورة يوسف، ضعيفة، قليلة الحيلة، ومغلوبة على أمرها؟
أم كانت شخصية المؤمن الحكيم الواثق بأمر الله؟
تعالوا نرى سويةً.

((قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)))

من هنا يظهر أن سيدنا يعقوب رجل حكيم ذو بصيرة نافذة، يعلم من أمر غيرة إخوة يوسف، وهو رجل مؤمن يعلم كيد الشيطان، ثم إنه علم بتأويل الرؤيا التي قصّها يوسف عليه ولكنه أخفاها عنه، كما طلب منه إخفاءها حتى يتم الله أمره، ويعقوب منذ هذه اللحظة أيقن تماماً أن ابنه يوسف سيكون الوارث للنبوة وسيكون حامل الراية من بعده، ليس هذا فحسب بل إن شأنه سيعلو فوق شأنه هو، بحكم تأويل الرؤيا.

ولقد علم يعقوب أن هذا الأمر ولكي يستتب ليوسف، فلا بد له من رحلة صعبة وطويلة يصقل الله فيها مهاراته ويقوي شخصيته ويعلّمه الحكمة.

((قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ))

هنا بدأت المكيدة، وخاف يعقوب على ابنه من كيد أبنائه، ولكنه في نص صريح وواضح قال إنه يخاف على ابنه من الذئب، ألا تجدون أن ذكر الذئب هنا من قبل يعقوب هو نبوءة بحد ذاتها؟

لاحظوا معي:
(أخاف أن يأكله الذئب وانت عنه غافلون)
(قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)
لقد جاء إخوة يوسف بنفس الكذبة التي علمها يعقوب من قبل وأنبأهم بها، وكأنه كان يقول لهم (إني أعلم من الله ما تصنعون)

هل انطلت الحيلة على يعقوب وهل آمن بموت ابنه وسلّم بذلك:
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ))

فكان موقفه مطلق الايمان بالله والصبر على هذه المحنة التي علمها منذ اليوم الأول لنبوءة يوسف.

ثم جاء الموقف التالي لسيدنا يعقوب عندما أراد إخوة يوسف أخذ شقيقه الأصغر معهم الى عزيز مصر (يوسف)، وهذه المرة كانوا صادقين:

(قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
فكان جوابه: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
ثم قال:
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)

وهنا أشهد الله عليهم وأخذ منهم موثقاَ غليظاَ أن يعودوا به سالماً، ولكن مرة أخرى لاحظوا معي:
(إلا أن يُحاط بكم)
أي أن يعقوب أخذ موثقاً من أبنائه أن لا يؤذوه وأن يعيدوه سالماً، ولكنه ترك أمر تدبير الله وحكمته مفتوحاً فإن كان الأمر قضاءً من الله فقد سلّم أمره لله، ثم قال (الله على ما نقول وكيل).

فهل هذا موقف قليل الحيلة المغلوب على أمره، أم موقف الحكيم الواثق والمؤمن بقضاء بالله؟

ثم بدأ بإسداء النصح لهم من باب الحكمة التي علمها له ربنا سبحانه وتعالى:

(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)

ثم تبع ذلك ثناء الله عليه وعلى علمه وشهادة من الله ليعقوب بأن الله آتاه العلم من عنده (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

وتستمر الأحداث ويأخذ يوسف أخيه في دين الملك ويعود إخوة يوسف الى أبيهم يعقوب:

(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

ومرة أخرى يقف موقف الصابر المستعين بالله ولكن موقف الواثق في نفس الوقت (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم)

ثم يضيف قائلاً: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

ولاحظوا كيف يتناسق النص مع بعضه البعض، شهد الله له بأن آتاه العلم (وإنه لذو علم لما علّمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ثم جاء قول يعقوب نفسه (وأعلم من الله ما لا تعلمون)
ولاحظوا أيضاً (من الله) أي أن هذا العلم والإخبار يأتيه من الله تعالى وبوحي منه، وأنتم لا تعلمون (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

وتستمر الحكمة مع يعقوب (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ)

(فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

إذاً تحققت رؤية يوسف في النهاية، ولكن رؤية يعقوب كانت هي الأخرى تتحقق خطوة خطوة، وإذا كان يوسف صابراً وواثقاً، فقد كان يعقوب كذلك واثقاً بأمر الله صابراً حزينا يكتم حزنه، ويبث همه وشكواه لله سبحانه وتعالى وحده، راجياً الفرج.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)

وهنا يجب توضيح بعض الأمور، أولاً السجود هنا ليس بسجود الجبهة على الأرض، فهذا السجود خص الله فيه أتباع محمد في أداء الصلوات، بينما كان السجود في الملل الأخرى هو سجود انحناء فقط.

وفي عصر يعقوب ويوسف، كانت هذه التحية لأصحاب السلطة والمقامات العليا، من باب التحية والاكرام، وفي هذا الموقف فقد كان يوسف عزيز مصر.

أضف الى ذلك، أن يوسف أصبح حامل الرسالة والنبوّة الآن، في حين أن يعقوب هو نبي الله ولا يحمل رسالة، بل كان يبشّر برسالة سيدنا إبراهيم ونبوّة اسحق، ويتلقى الحكمة والوحي من الله تعالى:
(وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)

بينما سيدنا يوسف جاء برسالة واحكام جديدة وأصبح هو المتبوع:

(وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا)

يُذكر أيضاً ان صلاة السيدة مريم وسجودها يختلفان أيضاً عن السجود الذي نعرفه، وصلاة مريم هو ما نراه اليوم من صلاة المسيحيين في الكنائس، وسجودها هو الركوع على الأرض مع الانحناء.


نقطة على الهامش:
بما أن يعقوب والد يوسف هو نبي الله، لماذا لم يذكر الله تعالى دعوته وسيرته كنبي؟

كل من يتدبر القرآن يعلم جيداً أن الله سبحانه وتعالى أورد بعض أسماء الأنبياء ولم يذكر كافة الأنبياء، وكذلك ذكر سيرة بعض الأنبياء الذين ذكرهم، ولم يذكر سيرة كل الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن.

وكما أشرت في منشورات سابقة، الحكمة في ذلك أن كل القصص القرآني يعتمد على إلقاء الضوء على مراحل تاريخية مهمة في حياة البشر وتطورهم، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى مفاصل مهمة في حياة البشرية من خلال قصص الأنبياء، قصة بدء الخلق مع قصة سيدنا آدم، نوح والطوفان، سيدنا إبراهيم وبناء الكعبة وتحريم القرابين البشرية، سيدنا شعيب وتطور المقاييس والمواصفات ووحدات الوزن، سيدنا هود وتطور استخدام الأنعام، وهكذا.
ولكن هناك أنبياء كثر لم ترد قصصهم ولا سيرتهم ودعوتهم الى الله، على سبيل المثال لا الحصر (سيدتا إسماعيل، إسحق، ويعقوب)
بل إن سيدنا هارون الذي اشترك مع سيدنا موسى في الرسالة، لم يأت ذكره بالدعوة في قصة سيدنا موسى.


هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
4-6-2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق