سورة يوسف من أحب السور والقصص القرآنية الى
قلبي، وقراءتها ممتعة إلى درجة لا توصف، ومن أجمل الأوقات الروحانية في الشهر
الفضيل هي صلاة قيام خلف إمام ذو صوت شجي يرتل سورة يوسف.
ولكن سورة يوسف فيها من دقائق الأمور التي
نمر عليها مرور الكرام، فنعجز عن إدراك معانيها الصحيحة (أو الأقرب الى الفهم
الصحيح). وسأحاول هنا استعراض بعض الومضات من سورة يوسف معتمداً على منهجية
القراءة المعاصرة، راجياً من الله التوفيق.
كنت قد تحدثت في العام الماضي عن مكيدة إخوة
يوسف، واليوم سنتحدث عن مكيدة إمرأة العزيز.
((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا
عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ
اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ))
(23)
كلمة ربّي هنا، تعود الى سيد المنزل
(العزيز)، من مقام رب العمل ورب النعمة وليس من مقام الربوبية كما يظن البعض، ولا
تنسوا أن يوسف هنا كان عبداً مملوكاً اشتراه العزيز بالمال.
ولتقريب المفهوم أكثر، عندما اشترى العزيزُ
يوسفَ وأحضره الى المنزل قال لزوجته:
((وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ
لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ))
لاحظوا معي أكرمي مثواه -------< أحسن مثواي
إذاً يوسف بدأ
بالرفض مستعيذاً بالله عن فعل المنكر (رافضاً الفاحشة من باب الإيمان أولاً) وفي
ذات الوقت حافظاً لجميل سيده، ومذكّراً في الوقت ذاته تلك المرأة بزوجها وحسن خلقه
(رافضاً الفاحشة من باب الأخلاق الحسنة ثانياً).
((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ
بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) (24)
لاحظوا استخدام كلمة (ولقد) التي تفيد استمرار
الحال من الماضي أي أن زوجة العزيز تولّدت لديها الرغبة من قبل، ثم تحوّلت هذه
الرغبة إلى أفكار ثم إلى تصرفات وأفعال (كما ذكر الله تعالى في الآية السابقة) في
حين قال عن سيدنا يوسف (وهمّ بها) أي عطفاً على المُغريات والحدث الذي عاشه تولّدت
لديه رغبة آنية سريعة ولكنها لم تتحول إلى أفعال أو تصرفات ظاهرة.
ولاحظوا أيضاً استخدام كلمة (لولا) التي تفيد
النفي والتوقف عمّا يتبع تلك الرغبة.
(لولا أن رأى برهان ربّه)
مفتاح الفهم هنا هو كلمه ربّه، والتي تعود
أيضاً على سيده العزيز وليس الله سبحانه وتعالى، مع ملاحظة أن كلمة رب بمعنى رب
العمل والنعمة قد ذُكرت أيضاً مع صاحبي السجن حين قال:
(أما أحدكما فيسقي ربّه خمراً)
إذاً، رأى يوسف ما يُعتبر دليلاً على عودة
سيده الى المنزل، وقد يكون هناك مجال للرؤية الخارجية مكّنه من رؤية موكب العزيز
أو بعض من جنده وخدمه فعلم أنه عاد الى المنزل.
أو أنه رأى رؤيا بوحي من الله تعالى استشعر
من خلالها عودة العزيز المفاجئة إلى المنزل.
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)
وتزامنت هذه الرؤيا مع وحي من الله سبحانه
وتعالى بخلاصه من هذه الورطة وعدم مساسه بسوء ونجاته من فعل الفحشاء، وأن سيده
العزيز سينصفه.
وللتذكير فإن الله سبحانه وتعالى قد أوحى
ليوسف من قبل في مكيدة إخوته لطمأنته:
((فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن
يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون))َ (15)
لذلك كان التصرف اللاحق ليوسف هو البدء بفتح
الأبواب التي غلّقتها زوجة العزيز ومحاولة الوصول الى باب المنزل الخارجي للقاء
العزيز، في حين كانت هي تحاول شدّه وجذبه ومنعه من الخروج.
تخيّلوا معي هذا المشهد وتابعوا الوصف القرآني:
((وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ
أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (25)
لاحظوا معي كلمة الباب بأل التعريف والتي
تفيد الباب الرئيسي المعلوم، ولو كان باباً آخر لكان لزاماً عطفه على اسم آخر
للتعريف كأن نقول باب الغرفة أو باب الصالة وهكذا.
ولاحظوا أيضاً استخدام كلمة (سيدها)، لماذا
اختار الله سبحانه وتعالى وصف العزيز نسبة الى امرأته وليس الى يوسف؟ لأن علاقة
العزيز بيوسف هي علاقة ظرفية وطارئة، بينما هو سيد هذا البيت من قبل وجود يوسف،
فكان الأجدر وصفه بهذه الصفة ونسبها (صفة السيد) الى زوجته.
إذاً وصلا الى باب المنزل الرئيسي والتقيا
وجهاً بوجه مع العزيز وحصلت المفاجأة، ولكن زوجة العزيز كانت شديدة الذكاء والمكر
وكانت سريعة ردة الفعل أيضا فسارعت الى اتهام يوسف وطلب العقوبة له، فما كان من
يوسف إلا أن دافع عن نفسه، وهنا جاء دور الشاهد.
((قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27)))
تخيلوا معي المشهد أمام منزل العزيز، والشاهد
هو بالضرورة أحد مرافقي العزيز العائدين معه الى المنزل وهو من أهل زوجته، وقد سمع
الجدال القائم، ولكنه ما زال خارج المنزل ولم يتمكن من رؤية يوسف ولا زوجة العزيز،
لهذا قام بتقديم شهادة خبير وليس شهيد واقعة، فقال: إن كان ثوب يوسف قد تمزّق من
الأمام فهو الذي اعتدى وإن كان قد تمزّق من الخلف فقد كان يحاول الهرب منها.
((فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)))
وهنا بدأ العزيز بالتدقيق في أمر يوسف بعد أن
تحرّر من المفاجأة، وبدأ بالتحقق من شهادة الشاهد، فلاحظ أن ثوب يوسف قد تمزّق من
الخلف فأدرك حينها كيد زوجته وصدق يوسف.
ملاحظة: لاحظوا معي الانتقال في الخطاب
واختلاف الضمير بين الآيتين المتتاليتين (وشهد شاهد، ثم تلاها: فلمّا رأى) الفعل
هنا يعود إلى شخصين مختلفين ولكن القرآن لم يستخدم في الآية الثانية اسم الفاعل
مثل الآية الأولى، كما هو متوقع في قواعد اللغة العربية (فلما رأى العزيز) وهذا ما
تحدثت عنه في الموضوع السابق عن تنوع الضمير والانتقال المفاجئ للخطاب، وهو سر من
أسرار فهم القرآن.
هذا ما اجتهدت به فإن كان صواباً فهو من توفيق الله، وإن
كان خطأً فهو من تقصيري.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
20-5-2019
#آيات_استوقفتني #سورة_يوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق