نستمر مع فاتحة الكتاب والسبع المثاني،
ونتحدث اليوم عن ثنائية (العبادة
والاستعانة بالله) وصراط الله المستقيم، وهذه
المواضيع من أهم المواضيع التي يركز عليها القرآن العظيم في مجمل آياته، والتي
تعتبر ركائز الدين القويم (الطاعة والاستعانة ومجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية).
*مفهوم العبادة*:
هناك تركيز كبير في الفقه الإسلامي على حصر مفهوم
العبادات في شعائر الصلاة والحج، وفروض الصوم والزكاة، ولكن مفهوم العبادات يتجاوز
ذلك بكثير.
((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ
اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) النحل (36)
فكل الرسالات جاءت بشيء مشترك هو عبادة الله
وتجنب الطاغوت وسبل الشيطان، والعبادة هي الطاعة والخضوع والانقياد لله سبحانه
وتعالى في جميع شؤون الحياة، بالالتزام بأوامره واتباع تعاليمه وتجنب نواهيه
ومخالفة أمره.
((ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) الحج (77)
((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99))) الحجر
هنا يتضح ان العبادة أشمل من الشعائر وحدها،
فلاحظوا كيف جاءت العبادة مستقلّة عن الركوع والسجود (أداء الفرائض)
((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ
الدِّينَ))
وهذه الآية أيضاً، توضح المعنى المطلوب من العبادة
وهي بالإيمان بالله (التوحيد) واتباع أوامره
ونواهيه والإخلاص في الدين وليس فقط في الشعائر أو ما يعرف اصطلاحا
بالعبادات.
وهذا يعني بالضرورة أن العبادة ليست محصورة
في مكة والمدينة والمساجد ودور العبادة، بل هي عبادة مفتوحة في كافة جوانب الدين،
وتشمل كافة أمور الحياة. ولعل هذا القصور بالفهم، هو ما جعل ميزان الدين مختلاً في
مجتمعاتنا، وجعل الاهتمام بالشعائر والفرائض مُقدماّ على جانب المعاملات وحقوق المجتمع
واحترام حقوق الآخرين.
والمؤسف أيضاً أن بعض رجال الدين والعلماء
يعززون هذا القصور في الفهم عند العامة، في تركيزهم الكبير على الفرائض في مقابل
التجاهل التام للمعاملات في المجتمع ومجموعة القيم الإنسانية (الصراط المستقيم)
ومن الملاحظ ان هناك غياب شبه كامل لدور
الخطباء ودروس الدين في الحث على حسن التعامل والتحلّي بالأخلاق الحسنة ومراعاة
الله في كل كبيرة وصغيرة، في مقابل التركيز على موضوع الفرائض والطهارة والتخويف
من يوم الحساب.
وأذكر أن أحد الخطباء والعلماء المعروفين قال
في إحدى خطبه إن الله لن يحاسبك إذا قطعت إشارة ضوئية أو عصيت بعض القوانين
المدنيّة ولكنه سيحاسبك إذا أفطرت في رمضان أو أخلّيت في الصلاة. وهذا مثال حي على
تعزيز القصور في فهم العبادة على وجهها الصحيح، كما طالبنا بها الله سبحانه وتعالى
في كتابه الكريم.
أما معنى الاستعانة والذي اقترن بالعبادة،
فهي تعني الأخذ بالأسباب والاجتهاد والصبر مع طلب العون من الله سبحانه بنيّة
التوفيق والرشاد.
((قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ)) الأعراف:
128
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) البقرة: 153
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) البقرة: 153
ما يعني أننا نستعين على أمور حياتنا بطلب
الرشد من الله سبحانه وتعالى والاهتداء بهديه واتباع منهجه وسبيله. فما أجمله من
معنى، حين نقول إياك نعبد، أنت وحدك، ومنك وحدك نطلب العون والرشد في أمور حياتنا،
بحيث ان امتثالنا بأوامرك والتزامنا بعبادتك سيكون أكبر عون لنا على العيش الكريم
والهنيء، فأرشدنا وأعنّا على الطاعة.
*ما هو الصراط المستقيم*
أما الصراط المستقيم فهو مجموعة الأخلاق
والقيم الإنسانية (إضافةً إلى المُحرّمات المذكورة نصّاً) والتي تعتبر فلسفة حياة
ومجموعة من المبادئ التي يتبناها المؤمن في طريقة حياته، والتي تجعل من حياته
وشخصيته وتعامله صراطاً مستقيماً لا يحيد عن الحق ولا ينحرف، وهذا هو معنى
الاستقامة.
((وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً
رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى
مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ))
لاحظوا الأمر بالعدل والصراط المستقيم
((وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(153))) الأنعام
لاحظوا كيف جاءت الوصايا والقيم الإنسانية في
هذه الآية ثم تلاها (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)
إذاً هناك تكامل بين العبادات (بمفهومها
الشامل) والاستعانة وطلب الهداية من الله، ثم اتباع سبيله في الحياة (الصراط
المستقيم) كي يكتمل ايمان الفرد، ويكون أنموذجاً أو مثالاً للمؤمن الصادق، وكي
ينعكس هذا على طمأنينته وراحته النفسية.
والسؤال هنا، ما هو نقيض هذا الصراط؟
((قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ
المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16))) الأعراف
لاحظوا معي أن إبليس توعّدنا بأن يقعد لنا
صراط الله المستقيم ويحرفنا عنه، وهذا كفيل باختلال ميزان الحياة لنا كأفراد
ومجتمعات، وكفيل بهدم منظومة الدين كلها.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)) (208) البقرة
إذاُ فالثنائية هنا، هي الصراط المستقيم وهو
سبيل الله وما يقابله من سبل الشيطان (شياطين الانس والجن) ومحاولات حرفنا عن هذا
الصراط.
أعجبني تشبيه أحد الدعاة للمنظومة الدينية
أنقله ببعض التصرف، يقول إن الدين بناء جميل، أساساته وإنشاءاته هي الايمان
والفرائض، وتشطيباته الداخلية مجموعة العبادات (الالتزام بالأوامر والنواهي)، أما
أثاثه وفرشه فهو مجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية.
فإذا خلا إيمان المرء من القيم والأخلاق كان
فارغاً جلفاً، لا يحتوي سوى على مظاهر خارجية بلا معنى للحياة.
وإذا خلا من الايمان والفرائض، كان جميلاً
ولكن لا أساس له، وما أسرع أن ينهار.
اللهم
اجعلنا وإياكم ممّن عبد الله مخلصاً له الدين واستعان به وحده على أمور الحياة،
واتبع صراطه المستقيم.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
14-5-2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق