الأحد، 5 يوليو 2015

الدراما الرمضانيّة، إحترموا عقولنا !

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن



   تحرص شركات الإنتاج التلفزيوني كل عام على إنتاج مسلسلات متميزة تمثل باكورة إنتاجها، لتُعرض في شهر رمضان أملاً في الحصول على أعلى نسب للمشاهدة والإستفادة من التجمع العائلي بعد الإفطار وحاجة العائلات لقضاء أمسيات جميلة، خصوصاً مع امتداد ساعات السهر إلى وقت السحور، وبالفعل شهدت مواسم الدراما الرمضانية خلال السنوات الماضية عرض أهم وأفضل الأعمال التلفزيونية والتي صاحبها أيضاً صعود نجم الدراما السورية بشكل سريع ولافت ممّا شكل مفاجأة مفرحة للجمهور العربي.

من المسلسلات التي شكلت علامة فارقة في الدراما التلفزيونية وعرضت في موسم رمضان مسلسل اخوة التراب، التغريبة الفلسطينية، الاجتياح، ليالي الحلمية، أيام شامية، الفصول الأربعة، آرابيسك وغيرها، ولكن مع تزايد المنافسة بين شركات الإنتاج المختلفة وارتفاع الطلب على المسلسلات من قبل القنوات الفضائية والتي تسعى الى ملىء ساعات بثها بكل ما يجذب انتباه المشاهد ويرفع من أعداد المشاهدين للقناة ومع ارتفاع حمّى الاعلانات التجارية واستعداد الشركات لدفع مبالغ طائلة لبث دعاياتها التجارية في المسلسلات التي تحقق اعلى مشاهدة، انقلبت صناعة الدراما العربية من صناعة الفن الجميل الى صناعة ما يعرف بالمسلسلات التجاريّة.

المراقب للدراما الرمضانية في الأعوام القليلة الماضية يلاحظ أن معظم المسلسلات التي تُعرض يتم انتاجها على عجل أو "سلقها على الماشي" حتى تتمكن من اللحاق بالموسم الرمضاني ناهيك عن تدنّي مستوى النصوص ومضمون القصة والتكرار الممل ومطّ الحلقات دون مضمون وبمشاهد لا تخدم الخط الدرامي للعمل. بحيث أصبح الهدف هو الكسب المادي وحسب، لا قيمة فنيّة ترجى من العمل ولا فائدة تنعكس على المجتمع، على عكس المتوقع والمرجو.

  لو راجعنا المسلسلات التي حققت نجاحاً على مستوى الجمهور والنقاد على حد سواء لوجدنا ان الدراما الناجحة عموماً ترتبط بالواقع وتتناول هموم ومشاكل الانسان والمجتمع، على إختلاف نوع الدراما التي يتم تقديمها، سواءً عن طريق تقديم أعمال تاريخيّة لاضاءة حقبة ماضية من التاريخ وابراز ايجابيات وسلبيات تلك الحقبة دون تجميل أو تشويه، أو عرض قصص واقعية تحاكي مشاكل وهموم المجتمع تدعو فيها للفضيلة وتحذر من المظاهر السلبية والسلوكيات المسيئة أو تستشرف المستقبل وتقدّم نبوءات مستقبلية لحال المجتمعات وتكون هذه النبوءة اما ايجابية بحيث تساعد المجتمع على تجسيد أهداف جميلة والسعي لتحقيقها أو سلبية تحذر من خطر الاستمرار في السلوكيات السلبية والانحدار نحو الهاوية.

من المؤسف أن الدراما العربية الحالية حين تتناول الماضي تُحرّفه او تشوّهه وعندما تصوّر الواقع تعطينا واقعاً لا يعيشه سوى قلة قليلة ونادرة، فإما ان يدور المسلسل حول عائلات ثرية وسيارات فارهة وجمال فتّان لنجوم ونجمات المسلسل، مما يدفع المشاهد وخصوصاً من فئة الشباب الى التصادم مع الواقع، واما ان يقتحم العمل العالم السفلي للمجتمعات ويأخذ كل ما فيه من فجاجة ويعرضه على انه من يوميات المواطن العربي الاعتيادية، وهذا ما يزيد من الفجوة بين الدراما العربية والواقع.

  تتكرّس هذه الفجوة بشكل واضح في الدراما الرمضانية لهذا العام، والتي باتت منفصلة تماماً عن الواقع ولا تقدّم للمشاهد أي فائدة أو قيمة فنيّة، ففي مسلسل بيت الحارة على سبيل المثال نرى أن العمل يبرز "نظرياً" العمل الوطني وإحياء القيم الشامية الأصيلة في حين أن معظم طاقم العمل يؤيد نظام الأسد ويقف ضد تطلعات الشعب السوري ! ليس هذا فحسب بل ان المسلسل بات مفصولاً عن الحقبة التاريخية لسوريا ويستعيض عن ذلك بتقديم قصص عن خبايا البيوت و "سواليف حصيدة" لا تسمن ولا تغني من جوع !



اما في الدراما المصرية فنجد ان الزعيم عادل إمام وبعد أن امضى سنين عمره وهو يصر على تجسيد شخصية محطم قلوب العذارى وساحر الجنس اللطيف رغم عدم امتلاكه اي مقومات ل "فتى الأحلام" يجسد لنا هذا العام شخصية اكاديمي يساري ثوري يؤيد تغيير النظام ويصبو لتحقيق العدالة والحرية والمساواة وهو نقيض شخصية عادل امام تماماً ! لا أحد سينسى موقف الممثل الشهير من ثورة يناير أو مواقفه المؤيدة للنظام المصري وتماهيه معه على طول مسيرته الفنيّة، فهل هذا استخفاف بعقول المشاهدين ام قلة اعتبار لأهمية آرائنا وقناعتنا ؟! ناهيك عن الصورة السلبية للثورة والقائمين عليها ولأحزاب المعارضة من يسار ويمين، كعادة كاتب العمل يوسف معاطي في التعامل مع هذه القضايا.

  يزداد سخط المُشاهد عندما يقرأ عن أجور الممثلين والميزانيات الضخمة للأعمال الدراميّة، هل تعلم عزيزي القارىء ان عادل امام تقاضى مليون جنيه مصري عن الحلقة الواحدة اي ما يعادل 4 مليون دولار عن العمل ؟!



من الملاحظ أيضاً، غياب القضايا التي تشغل بال المواطن العربي عن الساحة الدراميّة، قليلة هي الأعمال التي تتناول حقبة الربيع العربي وما صاحبها من هموم ومشاكل للمجتمعات العربية، مثل مشاكل اللاجئين السوريين او المعتقلين والسجناء السياسيين، أزمة الفكر الاسلامي، والطائفية والعنصرية.... الخ القائمة الطويلة من مشاكل وأوجاع الوطن العربي، وهنا يجب ان نرفع القبعة لبرنامج سيلفي للفنان غازي القصبي الذي يتناول سلبيات المجتمع السعودي والخليجي خاصة والعربي عامة ويتناول قضايا التطرف الداعشي والإرهاب، وكذلك برنامج خواطر في موسمه الأخير.

هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن جميع مسلسلات هذا العام هي دون المستوى، إذ لا يمكن لمتابع واحد ان يشاهد جميع المسلسلات ويحكم عليها، ولكن الحديث بشكل عام عن تدهور مستوى الدراما العربية إجمالاً وإعتمادها على الربح المادي والتسويق الجماهيري وإبتعادها عن الغاية الأساسية وهي إضافة قيمة فنيّة وتوجيه رسائل ذات قيمة للمجتمع.


أدعوكم الى اغلاق شاشات التلفاز وعدم متابعة أي مسلسل يستخف بعقولكم او مشاعركم، ويضر بالصحّة النفسيّة لأطفالنا وشبابنا، واحترام الوقت الذي نضيعه في مشاهدة هذه المسلسلات، علينا الإعتراف أن كل من يتابع هذه المسلسلات هو مساهم في نجاحها ودر الدخل والأرباح للقائمين عليها واصحاب الاعلانات التجارية، هذه دعوة لتوجيه رسالة حاسمة للعاملين على القنوات الفضائية والعاملين في مجال الدراما التلفزيونية، احترموا عقولنا !!

 
أيمن أبولبن
2-7-2015




الخميس، 18 يونيو 2015

الإصلاح الثقافي والديني


دراسة مهمة  في الاصلاح الثقافي والديني للدكتور محمد شحرور

 
قيّمة جداً وتستحق التأمل والتفكّر وانتهاج نهج الاصلاح بتغيير المفاهيم واعلاء قيم الحرية والعدالة والمساواة  

 
الحاجة الملحة للإصلاح الثقافي (الديني) في بلدان الشرقين الأدنى والأوسط – معهد العلاقات الثقافية الخارجية، ألمانيا
بسم الله الرحمن الرحيم
د. محمد شحرور

 
يسعدني في البداية أن أسجل شكري وإعجابي بالعاملين في معهد العلاقات الثقافية الخارجية في ألمانيا، أما شكري فعلى دعوتهم لي للمشاركة في فعاليات هذا المؤتمر. وأما إعجابي، فبهذه العناوين الدقيقة المتفائلة للمؤتمر: "مسارات التحول في بلدان الشرقين الأدنى والأوسط "، "الحاجة إلى إصلاحات في العالم العربي من ثلاث زوايا"، "هل يمكن تصدير الديموقراطية؟"، التي قرر واضعها ألا ينضم إلى قوافل المتشائمين الذين يشغلون حيزاً ملحوظاً من الشارع في بلدان العالمين العربي والإسلامي عامة، وفي بلدان الشرق الأوسط خاصة.
هناك "عمليات تحول" تجري، وهناك "مسارات تحول" تتشكل في بلدان الشرقين الأدنى والأوسط، تلك حقيقة أولى. وهناك "حاجة إلى إصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية في العالم العربي"، وتلك حقيقة ثانية. وهناك محاولات – من أكثر من جانب – للتحكم في مسارات التحول هذه، وتوجيه عملياته ومراحله، من جهة، ولوضع قائمة بأولويات الإصلاحات المطلوبة من جهة أخرى، وتلك حقيقة ثالثة. وهناك أخيراً أسلوب في التحكم، وقائمة بالأولويات، يصوغها كل جانب وفق مصالحه ورؤيته لما يجب أن تكون عليه الأمور، وتلك حقيقة رابعة.
والطريف أن "موضة" الإصلاحات هذه شاعت في الشهور الأخيرة في عدد من دول العالم بما فيها دول المنطقة، تحول معها الإصلاح لدى الدارسين المنظرين في حقول السياسة والاقتصاد والثقافة إلى مصطلح غامض فضفاض، تختلف دلالته من بلد لآخر، ومن نخبة لأخرى ضمن البلد الواحد. مصطلح يتدرج تأويله – شأن العديد من المصطلحات الأخرى كالديموقراطية والإرهاب – على مدرج طيفي متعدد الألوان. فمثلاً الملالي المعارضين في إيران يطلقون على أنفسهم اسم الإصلاحيين.
ولكن، هل يعتبر تغيير الألبسة الموحدة لطلاب المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية – كما حصل في سوريا واليمن هذا العام – إصلاحاً ثقافياً؟ وهل يعتبر تغيير أغلفة كتب المناهج الدينية وتبديل عناوينها – كما حصل في السعودية – إصلاحاً دينياً؟ وهل يعتبر حل الوزارات وإعادة تشكيلها – كما حصل في سوريا – إصلاحاً سياسياً؟ هل يعتبر السماح لبعض التيارات السياسية والمدنية بإصدار صحف ونشرات إصلاحاً ديموقراطياً في بلدان تحكمها الرقابة الأمنية من جانب والأحكام العرفية من جانب آخر؟.
طبقاً للرؤية البريطانية كما شرحها السيد مونرو الديبلوماسي العجوز على شاشة الجزيرة، يبدأ الإصلاح بنسيان الماضي والتعامل بواقعية مع الحاضر القائم. إنها نفس الرؤية الأمريكية التي انطلق منها السيد باول حين أعلن مؤخراً أن المشكلة في الشرق الأوسط – وفي فلسطين المحتلة تحديداً – بدأت في عام 1967. ونحن – بشكل طبيعي وأساسي – ندعو إلى استذكار الحاضر والتعامل معه بواقعية، وإجراء قطيعة معرفية مع التراث مع المحافظة على استمراريته التاريخية، أما نسيان الماضي، ونسيان كل ما حصل قبل عام 1967 فأمر يمكن أن نطلق عليه ما شئنا من عناوين وأسماء ما عدا الإصلاح.
بتاريخ 1/9/2002، ألقيت محاضرة في "منتدى الحوار الديموقراطي" بدمشق بعنوان "مفهوم الحرية والعدالة في الإسلام". انتقدت فيها الداعين إلى الإصلاحات في العالم العربي الإسلامي لإعطائهم الأولوية للإصلاح السياسي، ورأيت – وما زلت أرى – أن الإصلاح الفكري والثقافي، ومن ضمنه الفكري الديني، أحق بالأولوية.
في الواقع، حين أدعو إلى "إصلاح فكري ثقافي ديني أولاً" إنما أفعل ذلك رداً على دعاة الإصلاح السياسي الذين يتجاهلون – لسبب أو لآخر – أهمية العامل الديني في تشكيل الثقافة العربية والفكر العربي، أهمية تبدو واضحة الأثر والتأثير في الحاضر والماضي، أهمية لا ينفع التجاهل في نفي وجودها. فالإصلاحات يجب أن تسير – كما أرى – على نسق في وقت واحد معاً وليس على رتل. بعبارة أخرى لا يجوز – بل لا يمكن عملياً – إخضاع الإصلاحات لقائمة أولويات.
من هنا، يصبح واضحاً تماماً ما أعنيه بقولي إن الدين هو المُكوّنُ الأساسي في الثقافة العربية، وإن أي إصلاح ثقافي في العالم العربي لابد وأن يمر عبر بوابة إصلاح ديني، اعتدت أن أسميه في كتاباتي "إصلاحاً دينياً"، يتم من خلال قراءة الأحكام والنصوص الدينية قراءةً معاصرةً بعيداً عن التفاسير والاجتهادات التراثية.
لقد تحالف – منذ القرن السابع الميلادي – هامانات المؤسسة الدينية مع فراعين المؤسسة السياسية على تحويل ما جرى من أحداث وما ساد من ثقافة وفقه في القرنين السابع والثامن إلى دين يقر الاستبداد ويكرسه، ويربط طاعة الحاكم المستبد بطاعة الله والرسول، ويلزم الناس بطاعة "ولي الأمر" وفق تعاليم تلبس أحياناً لباس الحديث النبوي، وأحياناً أخرى لباس الأحكام الفقهية، كحديث نبوي يزعم حذيفة بن اليمان فيه أن النبي قال "اسمع وأطع ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك" وكغيره من أحكام فقهية تقول "الطاعة لمن غلب"، "إذا ظلمك الأمير فعليه الوزر وعليك الصبر"، "سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها".
وكان يحصل أحياناً أن يجد فقهاء البلاط أنفسهم أمام آية قرآنية تكشف مقاصدهم المذهبية والطائفية والسلطوية، وتفضح توجهاتهم في إضفاء الشرعية على حكم المستبد، فيلجأون إلى تفسير الآية وتأويلها بشكل يغطي هذه التوجهات وتلك المقاصد. كما فعلوا بآية الإرث إرضاءً لبني العباس الذين استولوا على مقاليد الحكم بالقوة والعنف حين اعتبروا أن الولد الذكر هو الذي يحجب الإرث عن الأعمام أما الأنثى فلا تحجب. وكان هذا الرأي الفقهي كافياً في حينه لإخراج فاطمة وزوجها الإمام علي من اللعبة السياسية. وكما فعلوا بآية الشورى، حين اعتبروا الشورى مُعلمة وليست ملزمة، وكان هذا التفسير – وما زال – كافياً لنسف المقصد الإلهي للشورى من أساسه.
هذه الثقافة التراثية الفقهية بالذات – التي امتدت وتراكمت زهاء ثلاثة عشر قرناً، بدءاً من معاوية وانتهاء بالسلطان عبد الحميد العثماني مروراً بالأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين – هي التي نعيشها ونعيش عليها اليوم. وحين أطاح أتاتورك بنظام الخلافة منذ قرن تقريباً، لم يكن ذلك غيرة على الديموقراطية والعدل والمساواة التي ذبحها حكم الفرد المستبد باسم الخلافة، فقد ذهبت الخلافة كشكل، وبقي مضمونها الاستبدادي حياً في الفكر العربي والإسلامي، فمصطلح المستبد العادل ما زال شائعاً في الثقافة العربية الإسلامية وهذا ما جعل كثير من الناس إلى الآن لا يقاومون الحكم الاستبدادي إذا تم تحت شعار العدالة، الأمر الذي يفسر لنا عدداً من الظواهر لا يمكن تفسيرها بدونه:
1 – عدم وجود فقه دستوري في التراث، وبالتالي انعدام الوعي الدستوري لدى الناس. والسبب هو أن الفقه الدستوري يحتاج إلى إبداع، والإبداع معدوم في ثقافتنا الموروثة القائمة أساساً على النقل والتلقين والتقليد.
2 – في عام 1860 وضع الفرنسيون دستوراً لتونس بعد احتلالها، وحصلت انتفاضة في تونس وكان أول طلباتها إلغاء الدستور.
3 – عدم احتجاج أحد في سورية عام 1973 على المادة 93 من الدستور المطروح حينها للتصويت، والتي تنص على أن رئيس الجمهورية لا يخضع للمساءلة، وبلغت نسبة الموافقين حسب ما نشرته الصحف 99%. بينما بالرغم من أن حزب البعث حزب علماني اضطر أن يذكر في المادة 3 أن دين رئيس الجمهورية الإسلام، وأن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.
4 – عدم وجود إحساس عميق وراسخ بقيمة الحرية في الوعي الجمعي الإنساني التراثي عامة والعربي والإسلامي خاصة، هذه القيمة التي تبلورت جوانبها وأخذت معانيها على مختلف المرتسمات في العصور الحديثة. أما تراثياً فقد اختلطت مع العدالة والمساواة. فالثورة الفرنسية – كما أراها – حركة إصلاح ضخمة تهدف في جوهرها إلى المساواة، ومثلها الثورة البلشفية في روسيا، حركة إصلاح تهدف إلى العدالة.
لقد ظلت الحرية زمناً طويلاً لا تعني في الفكر أكثر من نقيض للرق، فالحر هو الذي لا يباع ويشترى في أسواق النخاسة. لكننا لا نشك أبداً في أن عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، حين أطلق منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً عبارته المشهورة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، كان سابقاً لعصره في استشفاف معنى العدالة والمساواة ضمن مصطلح الحرية، فهو لم يقصد استنكار استعباد الناس بالرق، بدليل أن نظام الرق كان سائداً في عصره، ولم نسمع أنه فعل شيئاً كخليفة لإلغائه. وبرغم ذلك بقي في التراث الفقهي الإسلامي أن الحر هو نقيض الرق لا أكثر من ذلك.
5 – انعدام الشعور لدى الإنسان العربي بأنه يعيش في ظل أحكام عرفية تتجدد آلياً كلما انتهت مدتها، تزعم السلطات الحاكمة المستبدة أنها لازمة لحماية الناس من أخطار الصهيونية حيناً، والشيوعية حيناً، والعلمانية حيناً، وطمس الهوية القومية حيناً والحضارة الغربية الفاسدة أحياناً أخرى.
6 – عدم قدرة الفكر الإسلامي على التمييز بين الإسلام الأصل كما نزل على قلب النبي (ص) والتطبيق التاريخي لهذا الإسلام، أي بين التنزيل الحكيم وكتب التفسير والحديث والفقه، بين إسلام جاء ليتمم مكارم الأخلاق وليؤكد كرامة الإنسان، وإسلام يعتبر كل الآخرين كفرة. بين إسلام يفتح أبواب الإبداع على مصاريعها، وإسلام يختزل التاريخ والجغرافيا ويقيد العقل بنصوص تراثية يزعم سدنتها أنها تحوي الحقيقة المطلقة في كل زمان ومكان.
7 – عدم قدرة الفكر الإسلامي العربي التاريخي حتى الآن على تحويل قيم الحرية والعدالة والشورى إلى مؤسسات، فبقيت مجسدة من خلال أشخاص بعينهم.
والسؤال الآن: كيف يعقل أن نسأل – أو نبحث – عن إصلاحات سياسية في مجتمعات تقولب وعيها وتشكل فكرها عبر القرون على النحو الذي ذكرناه؟
لقد بدأت في النصف الثاني من القرن الماضي تظهر مشاريع حداثة وتحديث في المنطقة، منها الماركسي ومنها الاشتراكي ومنها القومي والبعثي والليبرالي، ومنها ما هو مزيج من هذا وذاك. لكنها باءت كلها بالفشل، وانتهت بانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وكان أحد أسباب فشلها تجاهل أهمية العامل الديني في تشكيل الفكر والثقافة. وظهرت بالمقابل شعارات تنادي "بحاكمية الله" وبأن "الإسلام هو الحل"، وباءت كلها بدورها بالفشل حتى الآن، ولم تنتج سوى المزيد من الاستبداد والمزيد من العنف الذي بلغ ذروته في أحداث 11/9 في الولايات المتحدة. وكان السبب الوحيد لفشلها انطلاقها من أرضية فقه إسلامي تراثي تاريخي توهمت أنه يحوي الحقيقة المطلقة وهي بالذات ضحية ثقافة مريضة.
والسؤال الآن: كيف يمكن – بعيداً عن الأطر الموروثة – استنباط مفاهيم مثل: التعددية، الحقوق الدستورية، الانتخابات، التمثيل البرلماني، فصل السلطات، حقوق المرأة، المساواة وتكافؤ الفرص.. وغيرها، من القرآن الأصل، وزرعها في العقل العربي المسلم بدلاً من جذور رسختها قرون وقرون من الاستبداد السياسي والديني والثقافي والمعرفي؟ مثل: الكافر، المرتد، الزنديق..
الولايات المتحدة، رغبة منها بعدم تكرار ما حدث يوم 11/9، تدعو إلى "إصلاحات"، وكان يمكن لدعواتها الإصلاحية هذه أن تثمر – نظراً لاتفاقها بالمصادفة مع دعوات الإصلاحيين في الداخل – لو أنها تبنت الأسلوب الفرنسي والألماني والبريطاني إلى حد ما، المتمثل في موقف الاتحاد الأوربي من الأوضاع في المنطقة، وقامت بإصلاحات ثقافية فكرية على مدى طويل، على رأسها ترسيخ حقوق الإنسان والحرية في الوجدان العربي، يتمكن معه وبعده أصحاب العلاقة المستهدفين بالإصلاح من إصلاح أنفسهم.
وفي تصوري أن الولايات المتحدة قد تنجح بالقوة العسكرية في إزاحة نظام ما واستبداله بنظام آخر، وفي احتلال هذا البلد وزرع قواعدها في ذاك، لكن ذلك كله سيبقى يحمل اسماً آخر لا علاقة له بالإصلاح. قد تعتقد أمريكا – مع كثير من التفاؤل – أنها نجحت مع طالبان وصدام حسين.. ولكن ماذا تفعل مع بقية الدول في المنطقة، وكلها بلدان يحمل كثير من الناس فيها الفكر الطالباني وفكر الملالي وتحمل أنظمتها الحاكمة الفكر الصدامي؟ الفكر والثقافة هما الموجه الأول والأخير للسلوك، تلك حقيقة أولى. والإصلاح الثقافي والفكري – بما فيه تصحيح المفاهيم الدينية – أمر لا يتم بين ليلة وضحاها بفعل قوة عسكرية خارجية قاهرة، وتلك حقيقة ثانية. ولعل يلتسين وغورباتشيف خير مثال يؤكد ما نقول، فقد كان غورباتشيف يحلم منذ أيام دراسته الثانوية بإصلاح النظام في روسيا، أي قبل 35 عاماً من إعلانه (البيريسترويكا ). نقول هذا نقلاً عنه شخصياً في العديد من مقابلاته الصحفية.
هناك إذاً من يدعو إلى الإصلاح في الداخل والخارج، ويرى أنه ممكن، سواء في ضوء رؤية أمريكية أو رؤية أوربية. لكن هناك بالمقابل من يرى فيه "مجرد عباءة إصلاحية" تخفي تحتها استعماراً جديداً يهدف إلى طمس الهوية العربية وتفريغ الإسلام من مضمونه. وهناك إلى جانب هؤلاء وأولئك شريحة أخرى، رصدها الدكتور فيصل قاسم في إحدى حلقات برنامجه على شاشة الجزيرة، ترى الإصلاح مستحيلاً لا أمل فيه ولا فائدة منه، وأنه بالأساس "عملية تجميل" لأنظمة متفق على بقائها، فالعلة في رأيهم كما يقول روبيسبيير متجذرة في الرأس لا علاج لها إلا بالقطع.
ومن هنا يجد المتأمل المراقب الدارس نفسه أمام معان وتطبيقات إصلاحية، تختلف واحدتها عن الأخرى باختلاف المنادين بالإصلاح والداعين إليه أو الرافضين له. أما أنا فأقول إن للإسلام الحالي أربعة جوانب: قيمي وشعائري وتشريعي وجانب رابع هو الجانب السياسي وفيه تكمن المأساة.
أما الجانب القيمي – مجسداً بالمثل العليا عموماً في التنزيل الحكيم وبالوصايا العشر خصوصاً في سورة الأنعام 151، 152، 153 – فليس محل خلاف، لأنها قيم يحترمها البوذي ويقدسها المسيحي بذات الدرجة التي يحترمها فيها المسلم ويقدسها.
وأما الجانب الشعائري – بما فيه من صلاة وصيام وزكاة وحج – فهو أيضاً ليس محل خلاف، إذ لكل ملة شعائرها التي تشبه في المضمون شعائر كل الملل الأخرى وإن اختلفت في الشكل. فالمسلم يصلي ويصوم، والمسيحي يصلي ويصوم، المسلم يزكي ويحج إلى الكعبة في مكة، والبوذي يتصدق وله كعبة خاصة به يحج إليها.

 

(( ملاحظة: البوذية ليست دين سماوي وبوذا ليس نبياً، وأحسب أن الكاتب قصد الإشارة الى تنوّع طقوس العبادات بين البشر ))

 

تبقى الإشكالات قائمة حصراً في الجانبين التشريعي والسياسي، ليس بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى وحسب، بل بين طوائف ومذاهب الأمة الإسلامية ذاتها. ففيهما يتجلى – تطبيقاً وممارسة – الانحراف والتحريف في فهم التنزيل السماوي الموحى، وفيهما يتجسد الفقه التراثي كأداة من أدوات الاستبداد الديني تدعم الاستبداد السياسي وتبرره، وتجعل من هامانات المؤسسة الدينية حراساً على جسر العلاقات بين الإنسان وربه، وبينه وبين الآخرين، لا يمر أمر في الاتجاهين إلا بإذنهم. أو كأداة بيد من يمارس العنف باسم الإسلام معارضاً رجال الدين والسياسة معاً، علماً أن كليهما يحمل نفس المرجعية، وكلاهما انتقائي يختار من التراث ما يناسبه وما يؤيد موقفه.
ثمة من يظن أن بالإمكان تحقيق إصلاحات يتم فيها استبعاد العامل الديني، أو تحييده، كما حصل في الغرب، وأن بالإمكان إقناع الناس بأن حاجتهم إلى برلمانات وتعددية حزبية وصحافة أكبر من حاجتهم إلى مجالس للإفتاء. لهؤلاء أقول، إن الدين في المنطقة العربية والإسلامية هو المكون الأساسي للثقافة والمحرك الأساسي للسلوك. ولا بد لتأصيل وترسيخ هذه المفاهيم من إصلاح إبداعي ديني لتصبح هذه المفاهيم جزءاً منه، خاصة وأن رسوخ الفقه التراثي التقليدي يقاوم ويعرقل أية محاولة للإصلاح والتصحيح.
من جهة أخرى، حين نجح الإصلاح في الغرب كانت السلطة الدينية بيدها تعيين الحكام والملوك والأمراء، أما عندنا فالوضع مقلوب، فالسلطة السياسية هي التي تعين أعضاء المؤسسة الدينية بدءاً من خادم الجامع وانتهاء بالمفتي العام وتنفق عليها. وما الحركات السياسية الدينية بالأساس إلا احتجاجاً على هذا الوضع. فنحن نرى بشكل واضح كيف اجتمعت السلطة الدينية والسياسية معاً في سلطة واحدة بيد طالبان في أفغانستان وبيد الملالي في إيران. وهذا ما يطمح إليه كثير من الحركات السياسية الإسلامية التي تحمل رصيداً شعبياً كبيراً حتى ولو لم تمارس العنف.
في ضوء هذا كله، وضمن ما سمح لي به المجال من شرح مدى الحاجة الملحة إلى إصلاح ثقافي فكري ديني بشكل عام، دون التطرق إلى آليات هذا الإصلاح وخطواته ومراحله، تاركاً الفرصة لأصحاب المداخلات عبر الحوار لرسمها وتحديدها، أقول:
أعطني وعياً فكرياً لدى الناس بأهمية الحرية والعدالة والمساواة، والتركيز على أولوية الحرية كما أرادها الله لهم في تنزيله الحكيم، وعياً رافضاً لأوهام الجبرية التي تحوله إلى دمية على مسرح عرائس، يقاتل في سبيل حرية الآخرين ورفع الظلم عنهم، بغض النظر عن انتمائهم الديني والعرقي والسياسي، ولن تبقى في ضوء هذا الوعي إشكالات تضطرك إلى البحث عن إصلاحات. وستنقلب الأطروحة التراثية السابقة إلى "حاكم يخاف من الرعية خير للرعية من حاكم تخافه".

والحمد لله رب العالمين.
معهد العلاقات الثقافية الخارجية – ألمانيا

 

تم توثيق هذه الدراسة في كتاب (( الإسلام، الأصل والصورة المنشور عام 2014 )

الاثنين، 15 يونيو 2015

ما زلت آليس



 
أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

 


 

 

تقفُ آليس صاحبة الخمسين خريفاً والتي تم تشخيصها مؤخراً بمرض "آلزهايمر" أمام حشدٍ من المصابين بالمرض وعائلاتهم للحديث عن معاناتها مع المرض وإيصال رسالة للمجتمع بإسم كل من أُصيب بأعراض "آلزهايمر".

 

لم يكن الحديثُ أمام جمعٍ من الناس ما يقلقُ آليس فهي أستاذة جامعيّة في علوم اللغويّات، قضت معظم وقتها في إلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات العلميّة والأكاديميّة، ولكن القلق الذي كان يساورها هذه المرة مرتبطٌ بخوفها من الفشل في المحافظة على صورة المُحاضرة المُتّقدة، المُفعمة بالنشاط والحيويّة وسرعة البديهة ولا تخلو من روح الفُكاهة وخفة الدم، هذا إرثها من الحياة وصورتها التي عملت جاهدةً طوال حياتها من أجل ترسيخها في أذهان المحيطين بها.

 

تتوجه آليس للحضور وتقول : ذكرياتي التي أحتفظت بها طوال عمري وكل ما جهدتُ من أجل إنجازه يُسرقُ مني، والوضع يزدادُ سوءاً. تدريجياً نصبحُ مع المرض أشخاصاً مُختلفين نظراً لإختلاف سلوكنا، وقدرتنا على التواصل مع المجتمع، والتغيرات التي تطرأ على تصرفاتنا، كل هذا يؤثر على صورتنا أمام الآخرين، بل وأمام أنفسنا.

 

نتحول رغم أنفنا وبشكلٍ سريع إلى عاجزين وعالة على الآخرين، مثيرين للشفقة أحياناً، وللسخرية أحياناً أخرى، ولكن الحقيقة أننا لسنا هؤلاء الأشخاص، هذا ما جعلنا المرض نبدو عليه، وليس حقيقتنا.

 

نجحت الممثلة الأمريكية "جوليان مور" في نقل معاناة مرضى "آلزهايمر"من خلال دورها في الفيلم الذي حمل عنوان " ما زلت آليس " وتوّجت أداءها الرائع بحصولها على جائزة أوسكار أفضل ممثلة لعام 2014.

 

لم يقتصر النجاح على أداء الممثلة فحسب، بل نجح الفيلم بشكلٍ عام في إلقاء الضوء على معاناة هؤلاء المرضى والغوص في أعماق شخصياتهم ونقل التغيّرات السلوكيّة والفكريّة التي تطرأ عليهم وعلى المحيطين بهم للمشاهد، ليس هذا فحسب بل تعدّى الأمر إلى مشاركة المشاهد في معاناتهم وجدانياً.

 

لا تقتصر هذه المعاناة الإنسانيّة في مجتمعاتنا على مرضى "آلزهايمر"، فهناك من يُصاب بجلطة دماغيّة تؤدي إلى فقدان الذاكرة أو جزء منها، أو فقدان القدرة على تغذية الذاكرة بالأحداث الجديدة، وهناك من يفقد بعض الحواس مثل القدرة على الكلام والتعبير، أو القدرة على الحركة فيصاب بشلل جزئي أو كلّي، وهناك من يعاني من حالة موت سريري فيستمر قلبه بالنبض أعواماً وجسده لا يحرك ساكناً.

 

تعدّدت الأسبابُ والنتيجة واحدة، فهذا الشخص قد أصبح في غمضة عين إنساناً آخر، بعيداً كل البعد عمّا كان عليه سابقاً، يبدأ رحلة معاناة مع المرض من جهة، ورحلة كفاح أخرى مع ذاته والمحيطين به لإعادة إحياء صورته الماضية، رويداً رويداً وبسبب طبيعتنا البشريّة وقدرتنا "العالية" على التكيّف وقدرتنا "الفائقة" على النسيان يُسلّم هو أمره ويخضع للواقع ويبدأ بتقبل الخسارة والبحث عن أقصر الطرق لإتمام المهمة.

 

أمّا المحيطون به فيتعايشون مع الواقع الجديد، يتألمون لألمه ويعانون من أجله، ولكنهم في النهاية سيجدون صعوبةً كبيرةً في الإحتفاظ بصورته الماضية، الجميلة والزاهية في أذهانهم، ستترسخ الصورة الحاضرة في أذهانهم وذاكرتهم دون أن يشعروا، وستبدأ رحلتهم المُضنية في البحث عن تلك الصورة في أعماقهم، سيضطرون للغوص عميقاً في قيعان المحيطات للبحث عن أجزاء تلك الصورة المتبعثرة والغارقة في النسيان، وسيعانون أشد المُعاناة في لملمة أجزائها المتناثرة وجمعها فسيفساء تحكي قصّة أحبّاءٍ في الماضي البعيد.

 

الرسالة التي حرص طاقم فيلم "ما زلت آليس" على إيصالها لنا عبر الشخصية الرئيسية للفيلم، ما زلتُ آليس، أنا ذات الإنسانة التي عرفتموها، ذكيّةً لمّاحة ومتحدّثة لبقة، حسّاسة وجيّاشة العواطف وفوق كل هذا عزيزة النفس، أنا ما زلت آليس التي تعرفونها، ليس المرض أو الموت ما أخشى، ولكن أخشى ان تنسوا آليس التي كانت. أنا ما زلتُ آليس !

 


 

أيمن أبولبن
14-6-2015

(( تحيّة إلى روح والدتي التي أفقدها المرض القدرة على التعبير في سنواتها الأخيرة، وإلى جميع المرضى الذين غيّرهم المرض وإلى المحيطين بهم ))

 

رابط المقال على القدس العربي


 

رابط المقال على موقع سواليف


 

صفحة الكاتب على الفيسبوك


 

للتواصل عبر تويتر


 

الأربعاء، 27 مايو 2015

هل هتفت جماهير النادي الفيصلي الأردني لتمجيد إسرائيل ؟!





  قبل أيام قليلة وبالتحديد يوم الجمعة الماضية فاز #النادي_الفيصلي ببطولة #كأس_الأردن وتناقلت وسائل التواصل الإجتماعي أنباءً عن هتاف مستغرب من #جماهير_الفيصلي ( بالروح بالدم نفديكي اسرائيل !! ) بينما نفت إدارة وجماهير النادي هذه الأنباء مشيرة إلى أن الهتاف كان ( بالروح بالدم نفديك فيصلي )

بحثت عن التسجيل على مواقع النت ووجدت التسجيل المرفق ولكني لم أستطع التأكد من الهتاف بدقّة نظراً لعدم وضوح الصوت، حيث احترت بين الهتافين أيهما صحيح، وتذكرت مقالتي (ضع نفسك مكاني وسترى الأزرق أسود ! )

  بغض النظر عن صحة الأنباء من عدمها فهذا لن يغيّر من حقيقة انتشار ظاهرة الهتافات العنصرية والمسيئة في ملاعبنا الأردنية بشكل عام، والتي شهدت حالات متكررة من الهتافات العنصرية المسيئة خلال الأعوام الماضية عدا عن الكم الهائل من الشتائم البذيئة التي يندى لها الجبين !


المتابع للساحة الرياضية الأردنية يعلم جيداً أن صراع قطبي العاصمة #نادي_الوحدات و #نادي_الفيصلي بات مُسيّساً ووصل حد الإنفجار وسط طبطبات من المسؤولين وهمهمات عشائرية وضحك على الذقون بينما على أرض الواقع أصبحت ملاعب كرة القدم مستنقعاً لأوحل وأقذر التصرفات والهتافات غير الأخلاقية واللاوطنيّة التي تثير الفتن بين أبناء الوطن الواحد.

هذا الواقع المرير هو ما أدى إلى عزوف فئة كبيرة من متابعي الرياضة في البلد عن حضور المباريات وإنعدام ظاهرة حضور العائلات للمباريات علماً بوجود ركن كامل من أركان ستاد عمان معروف شعبياً ب (الدرجة الثانية عائلات) !

عزوف الجماهير العاشقة للرياضة أدى إلى خلو الملاعب من الجماهير في معظم المباريات على عكس ما شهدته الملاعب في عقدي الثمانينات والتسعينات من إقبال كثيف على المباريات فاق كل التصورات، مما أدى إلى تعالي الأصوات و المطالبات بتوسعة الملاعب أو بناء ستادات رياضية ضخمة لاستيعاب الجماهير !! ألا تستحق ظاهرة عزوف الجماهير من المسؤولين إعادة النظر في شؤون اللعبة ؟!

في معظم دول العالم هناك أندية تغلب عليها صبغة جالية من الجاليات أو جنسية من الجنسيات أو أقليم من الأقاليم بالرغم من أنها تمثل البلد الذي تلعب فيه وتنتمي للإتحاد الوطني ويحمل لاعبو هذه الأندية جنسية هذا البلد ولكن مسألة الأصول والعرق لا تتعارض مع الهوية الوطنية ومظلة البلد الواحد طالما أن جمهور النادي و لاعبوه ملتزمون بالروح الوطنية

أنديتنا الرياضية لا تخرج عن هذا الإطار فهناك أندية تمثل العاصمة وأندية أخرى تمثل مدن الشمال والوسط والجنوب وهكذا دواليك ، وهناك أندية تمثل أبناء المخيمات الفلسطينية يأتي على رأسها النادي الأكثر شعبية نادي الوحدات الذي حمل اسم مخيم الوحدات في وسط العاصمة، مكان إقامة النادي، وهناك بعض الأندية التي لها خصوصية مثل النادي الأهلي الذي يعتبر ممثلاً للشركس، ولكن هذه الأندية جميعاً تنصهر في وطن واحد وتمثل بلد واحد، فعلى سبيل المثال تضم معظم الأندية الممتازة لاعبين أردنيين من أصل فلسطيني ومن أبناء المخيمات، وهم يمثلون المنتخب الوطني ويدافعون عن قميصه ، فلماذا نعطي الموضوع أكثر من حقه، خصوصاً مع فتح باب الإحتراف وتواجد لاعبين أردنيين مع أندية عربية أو أجنبية وتواجد لاعبين أجانب في صفوف الأندية الأردنية مما يقلّل من الأقليمية وخصوصية الأندية.

 ولكن يجب القول أن من حق هذه الأندية على الدولة والإتحادات الرياضية مراعاة خصوصيتها ضمن إطار الوحدة الوطنية ، وليس هناك من مبرر وطني أو اخلاقي  لترديد شعارات أو هتافات عنصرية بحق أي نادي من هذه الأندية، وفي المقابل لا يجوز لجماهير هذه الأندية التي تمثل فئة من فئات المجتمع ترديد هتافات تسيء لوحدة البلد الذي يمثلونه ويحملون جنسيته أو تسيء إلى فئة أو طائفة أخرى في المجتمع .

#القضية_الفلسطينيّة لا تنحصر في الجنسية أو الإنتماء الفئوي أو في نادي من الأندية، قضية فلسطين أكبر من مجرد نادي أو رياضة، فلسطين هي قضية العرب والمسلمين، وأول هؤلاء العرب والمسلمين هم الأردنيون الشرفاء الذين روّوا بدمائهم أرض فلسطين الطاهرة دون أن يولوا إهتماماً إن استشهدوا شرق النهر أو غربه.


ما العمل في مواجهة #التعصّب_الرياضي و #الهتافات_المسيئة ؟!

يقع العاتق الكبير على الأندية نفسها بإداراتها ومشجعيها ولاعبيها، عليهم العمل سريعاً لنبذ أي فئة متعصبة واستئصالها

كما ان هناك واجب على #اتحاد_كرة_القدم_الأردني بلجانه المختلفة في العمل على استئصال أي فئة تخرج عن الروح الوطنية وتسيء الى البلد أو تثير القتنة بين صفوف ابنائه ، بايقاع العقوبة على أي نادي مسيء و تخسيره المباراة حتى لو أدى ذلك الى هبوطه الى درجات دنيا بل وحتى شطبه من إتحاد اللعبة في حالة تكرار ذلك عملاً بالقوانين واللوائح، كما يجب ملاحقة المتسببين عن طريق القضاء واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم.

أما العمل الأكبر فيقع على عاتق المجتمع، من يذهب الى المدرجات ليهتف هذه الهتافات هو جاري وجارك وابن عمي وابن خالتك وصديقي ونسيبك ، إذا كنا جميعاً ضد هذه الهتافات ولا نتفوه بها ، فهل هؤلاء مستوردون من الصين مثلاً ؟! اذا كانت هذه الجماهير هي فئة مندسة فلماذا لا يتصدى لها باقي الجمهور؟! لماذا يسكت عنها حكم ومراقب المباراة وهم يملكون صلاحية ايقاف المباراة اذا كانت هناك هتافات جماعية عنصرية او مسيئة للبلد ؟! لماذا لا يمتنع لاعبو النادي الذي تصدر عن جماهيره هتافات مسيئة عن الاستمرار في اللعب تحت ظل هتافات جماهيرهم الجارحة والمسيئة ؟!

   لماذا يقوم أفراد الأمن العام/الدرك باستفزاز جماهير بعض الأندية بناءّ على ميولهم الرياضية الشخصية ؟! ولماذا تسكت إدارة الأمن العام عن تصرفات هؤلاء الأفراد ؟! بماذا نفسر قيام أفراد الأمن العام بالإحتفال بتسجيل أحد الأندية هدفاً في المباريات المحلية رغم أنهم متواجدون بصفة رسمية وبلباسهم الرسمي لحفظ الأمن وليس لمتابعة المباراة ؟!

إذا كنا نطالب الجمهور بالإلتزام الأخلاقي وعدم ترديد عبارات مسيئة فمن باب أولى أن نطالب إدارات الأندية بعدم نشر اي عبارات مسيئة للآخرين أو للوحدة الوطنية وعلينا أيضاً مطالبة إدارة #الأمن_العام_الأردني و #قوات_الدرك بضرورة الحياد وتوفير أجواء تسودها #الروح_الوطنية


لنراجع أنفسنا ونعترف بأن المسؤولية هي مسؤولية المجتمع ككل وهي مسؤولية مشتركة تبدا من بيوتنا .  لنبدأ من اليوم بتحمل مسؤوليتنا أمام المجتمع ونتصدى بأنفسنا لكل هتاف يسيء الى سمعة البلد والى الرياضة ويؤدي إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد وكفانا تمسكاً بشعارات براقة بينما صدورنا ما تزال تحمل الضغينة والفرقة.

#فلسطين #الأردن

أيمن أبولبن
27-5-2015


السبت، 23 مايو 2015

أزمة الصندوق الذي بداخلنا


أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

 


 

 

من نظريات الفكر الحديث المتداولة على نطاق واسع نظرية "التفكير خارج الصندوق" Thinking Out Of The Box وتهدف النظرية إلى دفع الفرد للخروج من دائرة أنماطه السلوكية المعتاد عليها وفتح المجال له لإطلاق فكره الإبداعي بعد أن يتحرّر من أثقال الفكر التقليدي، وهي نظرية تم تطويرها تحديداً لحل المشكلات وعوائق العمل بطرق ابداعية بعيداً عن الحلول التقليدية أو المحاكاة.

 

ويرمز الصندوق الى التفكير التقليدي النمطي، ويكون الخروج منه عن طريق تغيير طريقة التفكير أو عكسها وإعادة النظر في الفرضيات أو المسلّمات الموجودة في ذهننا، وهذا بدوره يساعد على ايجاد بدائل جديدة قد تكون أسهل الحلول وأقصرها، ولكن إصرارنا على التفكير النمطي التقليدي قد يجعلنا نغفل عن هذه الحلول البسيطة والبديهيّة.

 

الغريب في الأمر أن التجارب أثبتت أن الأشخاص البسطاء البعيدين عن الإختصاص، والأطفال عموماً يتمتعون بالقدرة على الإبداع والبُعد عن النمطيّة في التفكير، لأنهم لم يخضعوا لتجارب حياتيّة فرضت عليهم نمطا سلوكيا معينا، أو جعلتهم يتقوقعون داخل الصندوق، وكم من مشكلة عويصة قام بحلها طفل صغير أو شخص بسيط بتلقائية وبسهولة متناهيّة.

 

ومن الناحية الإجتماعية والنفسيّة ينصح المختصون مَنْ يُعانون من ضغوطات في العمل أو في الأسرة، بالتعبير عن الضغوط النفسية بطرق غير معتادة مثل رسم صورة، كتابة الشعر، الغناء، أو ممارسة رياضة جديدة، والقيام بزيارة أماكن جديدة يزورها الشخص لأول مرة، وكل هذه النصائح تندرج تحت باب "الخروج من الصندوق".

 

يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد شحرور أن أزمة الفكر الإسلامي أو العربي إجمالاً تكمن في البحث عن "النموذج" ومحاولة استنساخه أو إعادة انتاجه، ويضرب مثالاً على ذلك بأن الأمة الإسلاميّة تصبو لإعادة تكرار نموذج المسلمين الأوائل، بدلاً من العمل على تشكيل هويّة مستقلّة تخص جيلنا وتقدّم إضافةً للبشريّة، كما أنها حافظت على العلوم الدينيّة المتوارثة عبر الأجيال مع محاولات خجولة فيما يخص تطوير الخطاب الديني وإعادة إحياء هذه العلوم من جديد.

 

أتفق تماماً مع هذا التحليل الذي يضع اليد على الجرح تماماً، فعندما ننظر إلى واقعنا نجد أن العقل العربي هو أسير حلم الزعيم الذي ينهض بالأمة، والبطل "المُلهَم" الذي سيحقق المعجزات ويحل كل المشاكل بعصا سحرية، ولهذا ترانا دائمي البحث عن هذا "النموذج" في محاولة منّا للهروب من مسؤولياتنا، وعدم تكلّفنا عناء التغيير أو دفع ضريبته.

 

أما على مستوى موروثنا الديني، فبدلاً من إخضاع العلوم الدينية المختلفة للتراكم المعرفي والتطور باستخدام الأدوات المعرفية الحديثة كما حصل مع باقي العلوم، تم تأطير علوم الدين ووضع مُنتجاتها من عهد الأوائل داخل صندوق وحصر تفكير كل الأجيال التي تلت تلك الحقبة في نطاق هذا الصتدوق دون ترك أي مجال للتحديث والتطوير أو إخضاع هذه المُنتجات للتراكم المعرفي والتطوّر عبر الزمن، وبهذا نكون قد أغفلنا الواجب الأساسي لنا ألا وهو إضافة إبداعنا نحن كجيل مستقل مختلف فكرياً ومتقدّم معرفياً، تقع عليه مسؤولية النهوض بالأمة وتقديم حلول وأفكار تناسب العصر وتضعنا في تنافس مع باقي الأمم.

 


 


 

قال لي أحد الزملاء في العمل ذات يوم، أنه أراد تدريب أحد الموظفين الجدد على كتابة وتحرير السندات المالية، فقام بإحضار سند مالي من الأرشيف مُعبّأ حسب الأصول وطلب من الموظف تحرير سند مطابق له، مضى وقت طويل دون أن ينجح الموظف في اتمام المهمة ولاحظ زميلي أن الموظف الجديد يقوم بإعادة كتابة السند بالكامل ثم يتلفه ويعيد الكرّة من جديد، ولدى سؤاله عن السبب قال لقد قمت بتحرير السند ولكني أجد صعوبة في تقليد التوقيع الموجود على السند الأصلي !!

 

هذه القصة التي تحمل طابع الكوميديا السوداء، تُلخّص واقعنا العربي للأسف، فطرق التعليم عندنا هي طرق استنساخيّة تحث على التقليد والمحاكاة وحفظ المعلومة دون أن نعقلها أو نفهمها، نحن نهتم بالنتيجة والمحصّلة دون العمل على إمتلاكنا القدرة على ربط المعلومة بواقعنا للإستفادة منها أو تقديم أفكار جديدة، نحن نبحث عن السَمَك ولا نريد ان نتعلم الصيد، والمشكلة الأكبر أننا ننقل هذا الإرث الى الأجيال التي تلينا ونحاول إقناعهم أو إجبارهم في بعض الأحيان على اتباع نهجنا، وهذا ليس محصوراً في المدارس والجامعات ولكنه يشمل جميع قطاعات مؤسساتنا العربية الا ما رحم ربي، نحن بعيدون كل البُعد عن الحكمة التي تقول (( لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ))


 

معظمنا قرأ نظرية القرود الخمسة الشهيرة، وتأثر بها لأنه بشكل أو بآخر عاشها بنفسه في الواقع أو عانى منهاً في مكان العمل أو في الدوائر الحكوميّة التي راجعها، أو حتى في مجتمعه الأسري الصغير، ولكن القليل منّا من استفاد من هذه النظريّة وغيّر طريقة حياته بناءّ عليها.

 

مسؤولية المشاكل التي تسببنا بها تقع على عاتقنا نحن وليس على أي شخص آخر، وعلينا نحن أن نجتهد كي نقوم بحلّها، وكي ننجح في ذلك علينا أولاً أن نغيّر العقليّة التي تسبّبت بهذه المشاكل، وهذا التغيير المنشود يتطلّب البدء بمحاولة التفكير خارج الصندوق.

 

إبحث عن الصندوق الذي بداخلك، عايِنْ ما فيه وأَعِدْ ترتيبه، ثم احرص على أن تُبقيه مفتوحاً.


 


أيمن أبولبن
20-5-2015

 

رابط المقال على القدس العربي


 

صفحة الكاتب على الفيسبوك


 

للتواصل عبر تويتر


 

الأربعاء، 6 مايو 2015

ضع نفسك مكاني وسترى الأزرق أسود !



 

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

 




 

انتشرت في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الإجتماعي مجموعة من الصور التي تثير حيرة المُشاهد وتحتمل أكثر من وجهة نظر، ومن أشهر هذه الصور صور الفستان الشهير الذي رآه البعض باللونين الأزرق والأسود، والبعض الآخر رآه باللونين الأبيض والذهبي، ثم تلا هذه الصورة، صورة لقِطّة إيرانيّة وهي تنزل درجات السلّم فيما يراها البعض أنها تصعد الدرج.

 

التفسير العلمي لهذه الظاهرة، يشير إلى أن اختلاف الإضاءة وانعكاسها في الصورة، بالإضافة إلى إختلاف خلفية الصورة وودرجة الظل يؤدي إلى إختلاف درجات اللون بين شخص وآخر، ويؤثر على تحليل الدماغ للصورة ومن هنا يأتي اختلاف تحليل الصورة بين شخص وآخر، والأدهى من ذلك أن الشخص الواحد إذا قام بتغيير الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الصورة، أو قام بالتركيز على نقطة معينة في الصورة، سيؤدي إلى إختلاف تحليله الشخصي للصورة ويستطيع أن يرى الجانب الآخر من الصورة والذي كان مُغيّباً عنه !!

 

ويضيف العلماء، أن النظام البصري الخاص بكل شخص قد يُهمل بعض الجوانب في الصورة مما يؤثر على تركيزه ويقوده إلى تحليل بصري مختلف عن الآخرين، أو مختلف عن الواقع.

 


 



 

هذه الظاهرة تستحق أن نتوقف عندها ونتأملها مليّاً، فبالرغم من تكرارها وإختلافنا في الرؤية مع الآخرين في مناسبات عديدة، إلا أننا نحاول أن نقفز عن هذه الحقيقة ونُصر على إقناع الآخرين بوجهة نظرنا في أمور تحتمل الرأي والرأي الآخر وتستوعب كل الإحتمالات، وفي خضم حماسنا لوجهة نظرنا الخاصة ننسى أو نتناسى إن الإختلاف في وجهات النظر يجب أن لا يُفسد للود قضية وكما قال الإمام الشافعي : (( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ))

 

لقد خلقنا الله مختلفين في كل شيء ولو أراد أن يخلقنا على نفس الشاكلة لفعل، ولكنه جعل لكلٍ منا خصوصيّة وسمات شخصيّة نختص بها دون غيرنا، وأعطانا حريّة التفكير والقرار وسخّر لنا الأدوات المعرفيّة كي نتميّز عن بعضنا ونختلف ونتحاور ونتعاون فيما بيننا في تبادل المعرفة وتحقيق المصالح المشتركة، يقول الله تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ولكن على ما يبدو أن كل واحد فينا يتوق في داخله للشعور بأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة التي لا تحتمل أي إختلاف أو تعارض معها.

 

في إحدى الدورات التدريبيّة في الإدارة، وزّع المُحاضر علينا أوراق قصّة قصيرة بعنوان " مَنْ قتلَ الحاجّة آمنة؟ " تتحدّث بإختصار عن إمرأة كبيرة في السن تسكن في أحد الأحياء الشعبيّة وتُصاب بأزمة قلبيّة مُفاجئة تستدعي ذهابها إلى المستشفى على وجه السرعة، ولمّا كانت تعيش لوحدها ولا تملك سيّارة، طلبت مساعدة جارتها التي حاولت طلب سيّارة إسعاف فتعذّر ذلك واضطرّت إلى النزول بها إلى الشارع والبحث عن أي سيّارة تُقلّهما، وبالفعل استقلّت سيّارة أجرة وطلبت من السائق أن يسلك طريقاً مختصراً للوصول إلى المستشفى بأسرع وقت ولكنه رفض وتعلّل بأن الطريق المُختصرة غير مُعبّدة بالكامل وأصر على سلوك الطريق الرئيسيّة رغم الإزدحام المروري، وتتعدّد الشخصيّات في القصة من شرطي السير الذي يرفض مغادرة موقعه ومرافقة السيّارة لضمان وصولها بأسرع وقت الى موظف الإستقبال في المستشفى الذي يصر على طلب الوثائق الرسميّة لعمل إدخال المستشفى، الى الطبيب المقيم الذي يحاول اسعاف المُصابة ويفشل في ذلك.

 

بعد قراءة القصّة بتمعّن طلب منّا المًحاضر أن نكتب على ورقة مستقلّة إسم الشخصيّة التي تسبّبت بوفاة الحاجّة آمنة حسب وجهة نظرنا الشخصيّة وتعليل ذلك، وكانت المفاجأة أن أجوبة المُشاركين قد شملت كل الشخصيّات في القصّة وكانت التعليلات منطقيّة إلى حدٍ ما ولكن بعضها راجح أكثر من الآخر؛ قال المحاضر أن كل شخص منّا إختار هوية القاتل بناءً على معلموات معرفيّة وسلوكيّة متراكمة في فكره تؤثر على تحليله ورؤيته للأشياء وقد تقوده إلى استنتاجات وقرارات خاطئة، وأشار إلى أن الشخصيّة التي تسبّبت بشكل مباشر في مقتل الحاجة آمنة كان السائق الذي تقاعس عن أداء واجبه في إيصالها إلى المستشفى بوقت مناسب، بينما كان تأثير بقيّة الشخصيّات محدوداً وغير مباشر.

 

في نهاية المحاضرة تناقشت مع الدكتور المُحاضر وقلت له أن شرطي المرور كان بإمكانه أن يستخدم السلطة الممنوحة له في إخلاء الطريق وضمان وصول السيّارة إلى المستشفى في وقت قصير، فقال لي يبدو أنك تعاني من مشاكل مع السُلطة يا بُنيّ !

 

هناك حكمة تقول put yourself in my shoes أي ضع نفسك مكاني وأنظر إلى الأمور من منظوري الشخصي حتى تتمكن من الحُكْم على الأشياء من زاوية أخرى غير تلك التي تُركّز عليها، وهنا يكمن سر إحترام وجهات النظر الأخرى رغم إحتفاظنا بحق الإختلاف بين بعضنا البعض، ولكننا على الأقل نستطيع أن نتفهّم هذا الإختلاف ونقدّره ونتقبّله بصدر رحب، وقد تكون هذه التجربة أو محاولة رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخر، كفيلة بأن تغيّر من وجهة نظرنا الشخصيّة وتدفعنا للإعتراف بصحة الرأي الآخر، ولكن الإختلافات ستتعمّق وتتعاظم إذا أدركنا خطأ قراراتنا وآرائنا في موضوع ما ثم أخذتنا العزّة بالخطأ وأصرّينا عليه كما يفعل البعض !!

 

هناك توصيف باللغة الإنجليزية في حالة حدوث شيء غير متوقع رغم أن مقدّماته واضحة للعيان، I didn't see that coming وهو وصف جميل يعجبني، لأنه يقرّ ويعترف بأن البوادر كانت موجودة وبالإمكان رؤيتها لكن الشخص عجز عن ملاحظتها وقراءة الأحداث بعناية مما أدى إلى التفاجىء بنتائجها. بالفعل فالحقيقة متوفرّة ومُتاحة لمن يُمعن النظر ويتحقق من الأشياء ولكن، يعجز عن رؤيتها كل من يستخدم نظّارة خاصّة، لا يرى العالم إلاّ من خلالها.

 

ليتنا نتوقف قليلاً ونقوم بتغيير الزاوية التي ننظر إلى الأمور من خلالها، وأن نستمع بعناية إلى الآخر ونتمعّن في كلامه محاولين أن نضع أنفسنا في مكانه حتى نتمكّن من فهم وجهة نظره، بدلاً من حالة الجمود في الرأي التي نعاني منها. وليتنا نحاول إدراك ما بين السطور والتدقيق في الأحداث وتحليلها بتجرّد بعيداً عن الشخصنة والأفكار المُسبقة والقراءات السطحيّة التي لن تؤدي سوى لقرارات خاطئة مصيرها محتومٌ بالفشل.

 

أيمن أبولبن
2-5-2015

 

رابط المقال على القدس العربي


 

صفحة الكاتب على الفيسبوك


 

للتواصل عبر تويتر

الجمعة، 1 مايو 2015

لا تقتلوا الفلسطينيّ مرّتين



   أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

اختارت دولة الكيان الصهيوني مذيعة القناة الاسرائيلية العاشرة "لوسي هريش"، التي تنحدر من أصول عربيّة وبالتحديد من مدينة الناصرة، للمشاركة في أحتفاليّة الذكرى السابعة والستين لقيام دولة إسرائيل، بإيقادها شعلة الإحتفالات التي إنطلقت الأسبوع الماضي وتستمر عدة أيام. وتأتي هذه الإحتفلات بالترادف مع إحياء الفلسطينيين ذكرى إغتصاب فلسطين أو ما يُعرف بذكرى "النكبة".

   لوسي هريش صحافية عربيّة مُسلمة تحمل الجنسية الإسرائيلية، من مواليد ديمونا عام 1981، نشأت وترعرعت في كنف الدولة الصهيونية ودرست في مدارس يهودية من عمر الثالثة ولغاية تخرّجها من المدرسة الثانوية، لتلتحق بعدها بجامعة تل أبيب وتحصل على درجة البكالوريوس في الصحافة والإعلام، وتنطلق بعد ذلك في مشوارها المهني الذي شهد إستقرارها مؤخراً في القناة الاسرائيلية العاشرة.

  لا شك أن إختيار الدولة الصهيونيّة لفتاة عربيّة فلسطينيّة للمشاركة في إحتفاليّة قيام الدولة له مدلولات كثيرة، فالدولة الصهيونيّة تسعى للرد على إتهامها بأنها دولة إحتلال تُمارس العنصريّة ضد المواطنين العرب وتُصادر حقوقهم الأساسيّة، بالإدعاء أنها دولة ديمقراطيّة بعيدة عن التعصّب والتطرّف والعنصريّة، تُعامل مواطنيها بمبدأ العدل والمساواة بغض النظر عن العِرْق والجنس والدِين، دولة القانون التي تعمل وفق الدستور. المفارقة أنّ مجموعة من اليهود المتطرفين قاموا بالإعتراض على إختيار فتاة عربيّة للمشاركة في إحتفالات قيام الدولة، متجاهلين الفوائد الجمّة التي جنتها دولتهم من هذه الدعاية الإعلاميّة، وهذا دليل عمليّ على أن التعصّب والتطرّف يشلّ تفكير صاحبه ويجعله لا يرى أبعد من أنفه !!

  من المؤسف حقاً أن نرى إعلاميّةً فلسطينيّةً ناجحة مثل لوسي هريش تلعب دوراً سلبياً مسيئاً للقضيّة الفلسطينيّة في حين أنه كان بالإمكان أن تلعب دوراً بارزاً ومهماً في إيصال وجهة النظر الفلسطينيّة للمجتمع الدولي بطريقة فعّالة ومؤثرة نظراً لمهاراتها ومهنتها وموقعها في دولة الإحتلال.

   خيبة الأمل التي أُصبنا بها جميعاً، يجب أن تكون حافزاً لنا لإعادة النظر في تناولنا لقضية فلسطينيي الداخل أو عرب ال 48، فهذه الفئة من الشعب الفلسطيني قد تم تجاهلها وتغييبها عن الحاضر العربي وعزلها عن المأساة الفلسطينيّة، وكأنهم أصبحوا جزءاً من الدولة الإسرائيليّة لا يمتّون لنا بصلة، ويتجلّى هذا في الغياب الكامل لوسائل الإعلام العربيّة في تناول قضاياهم وإلقاء الضوء على معاناتهم اليوميّة مع سلطات الإحتلال، وإذا كان هناك من تغطية فهي تغطية خجولة وبإمكانيات محدودة لا تتعدّى بضع تقارير من هنا وهناك تتناول في مجملها قضايا انتخابات الكنيست وتمثيل الأحزاب العربيّة، وهذا التقصير ليس محصوراً على وسائل الإعلام فالمؤسسات الرسميّة العربيّة ومنظمات حقوق الإنسان لا تتناول قضايا التمييز العنصري الذي يتعرّض له المواطنون العرب في الدولة الصهيونيّة بقدرٍ كافٍ من الإهتمام.

  هذه العُزلة التي أطبقت على فلسطينيي الداخل، أثّرت بشكل لا إراديّ على صورتهم في أذهاننا نحن المواطنون العاديّون من المحيط إلى الخليج فبمجرّد ذكر أن شخص ما يحمل هويّة اسرائيلية أو ينتمي لمناطق 48 المحتلّة يتبادر إلى ذهننا خليطٌ من المشاعر المتناقضة في كيفية التعامل مع هذا الشخص وأي قالب سنضعه فيه ؟ هل هو ذلك العربي الذي انسلخ عن قوميّته وتأثر بمخالطته للصهاينة وإقامته في دولتهم ليصبح من "عرب إسرائيل"، أم هو ذلك الشخص الذي ما زال يحمل همّ الإستقلال والتحرّر!!

   قبل أن نبدأ بإصدار الأحكام، دعونا نراجع أنفسنا أولاً، لقد دفعنا كل الفلسطينيين الذين صمدوا على أرضهم ولم يغادروها خوفاً أو فزعاً أثناء حرب عام 48، نحو الإنضواء تحت لواء الدولة الصهيونيّة، فعندما تعترف منظمة التحرير الفلسطينيّة (مدعومةً بقرارٍ عربي) بدولة إسرائيل على أراضي فلسطين المحتلة قبل عام 67، فهذا إعترافٌ بأن المدن والقرى الفلسطينية داخل الخط الأخضر أصبحت تابعة لإسرائيل، وأن أصحابها الأصليين باتوا مواطنين في هذه الدولة، وعليهم التعامل مع السلطات الإسرائيلية على هذا الأساس، وأقصى ما يمكن أن يطمحوا اليه هو الحصول على حقوقهم المدنية الكاملة أُسوةً بجيرانهم اليهود (أصحاب الأغلبية).

   مليون ونصف فلسطيني يحملون الهويّة الإسرائيليّة ويقبعون تحت سلطة الإحتلال، بما يشكّل نسبة 20% من السكّان، إلاّ أن هؤلاء يُعاملون كمواطنين درجة ثالثة بفعل يهوديّة الدولة، فهم يتعرضون لحملات تذويب من الداخل على كافة الأصعدة، الثقافيّة والفكريّة والإقتصاديّة والدينيّة، حتى الموتى منهم لا يفلتون من تعسّف سلطات الإحتلال.

  فلسطينيو الداخل منقطعون عن باقي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربيّة وفي الشتات بفعل قانون المواطنة، الذي يحصر حقوق المواطنة بالفلسطيني الذي تواجد على أرضه عند إحتلالها عام 48، ويحرم البقيّة من حق العودة والإقامة على أرضه، ليس هذا فحسب، بل إنه يحظر على الفلسطيني المواطن في دولة إسرائيل من لمّ شمل عائلته إذا لم تنطبق على أفرادها شروط المواطنة، وهو بالتالي ممنوع من تكوين روابط عائلية خارج إطار الدولة الإسرائيليّة، بينما يتم إعتبار إسرائيل وطناً قومياً لليهود بغض النظر عن مكان مولدهم أو إقامتهم.
  
  ماذا قدّمت السلطة الفلسطينيّة وحكومات الدول العربيّة لفلسطينيي الداخل لتعويضهم أو لضمان عدم إنسلاخهم عن القضية الفلسطينيّة، هل تم إعتبارهم جزءاً من الشعب الفلسطيني في مفاوضات السلام ؟ هل هم شركاء في صناعة القرار الفلسطيني ؟ هل يحق لهم التصويت في انتخابات السلطة ؟ هل يحملون اي وثيقة فلسطينية ؟ هل هناك من يمثلهم في دوائر صنع القرار ؟ هل هناك من مظلّة فلسطينية يستظلّون بها ويتعاملون مع العالم العربي من خلالها ؟!

الإجابة على جميع هذه الأسئلة هو النفي بالطبع، فمَن يُحاسب مَن !!

أستذكر هنا، وصف الراحل محمود درويش لحال الفلسطيني تحت الإحتلال

عارٍ من الإسم من الإنتماء
في تُربةٍ ربّيتها باليدين

أيّوبُ صاحَ اليوم ملء السماء
لا تجعلوني عبرةً مرتين !


 أمثال لوسي هريش من فلسطينيي الداخل هم قلّة قليلة بل نادرة، بينما بقيّتهم ما زال محافظاً على هوّيته كالقابض على الجمر، لا تخذلوهم ولا تقتلوهم مرّتين.

26-4-2015