كاتب ومُدوّن من الأردن
تقفُ آليس صاحبة الخمسين خريفاً والتي تم تشخيصها مؤخراً بمرض "آلزهايمر" أمام حشدٍ من المصابين بالمرض وعائلاتهم للحديث عن معاناتها مع المرض وإيصال رسالة للمجتمع بإسم كل من أُصيب بأعراض "آلزهايمر".
لم يكن الحديثُ أمام جمعٍ من الناس ما يقلقُ آليس فهي أستاذة جامعيّة في علوم اللغويّات، قضت معظم وقتها في إلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات العلميّة والأكاديميّة، ولكن القلق الذي كان يساورها هذه المرة مرتبطٌ بخوفها من الفشل في المحافظة على صورة المُحاضرة المُتّقدة، المُفعمة بالنشاط والحيويّة وسرعة البديهة ولا تخلو من روح الفُكاهة وخفة الدم، هذا إرثها من الحياة وصورتها التي عملت جاهدةً طوال حياتها من أجل ترسيخها في أذهان المحيطين بها.
تتوجه آليس للحضور وتقول : ذكرياتي التي أحتفظت بها طوال عمري وكل ما جهدتُ من أجل إنجازه يُسرقُ مني، والوضع يزدادُ سوءاً. تدريجياً نصبحُ مع المرض أشخاصاً مُختلفين نظراً لإختلاف سلوكنا، وقدرتنا على التواصل مع المجتمع، والتغيرات التي تطرأ على تصرفاتنا، كل هذا يؤثر على صورتنا أمام الآخرين، بل وأمام أنفسنا.
نتحول رغم أنفنا وبشكلٍ سريع إلى عاجزين وعالة على الآخرين، مثيرين للشفقة أحياناً، وللسخرية أحياناً أخرى، ولكن الحقيقة أننا لسنا هؤلاء الأشخاص، هذا ما جعلنا المرض نبدو عليه، وليس حقيقتنا.
نجحت الممثلة الأمريكية "جوليان مور" في نقل معاناة مرضى "آلزهايمر"من خلال دورها في الفيلم الذي حمل عنوان " ما زلت آليس " وتوّجت أداءها الرائع بحصولها على جائزة أوسكار أفضل ممثلة لعام 2014.
لم يقتصر النجاح على أداء الممثلة فحسب، بل نجح الفيلم بشكلٍ عام في إلقاء الضوء على معاناة هؤلاء المرضى والغوص في أعماق شخصياتهم ونقل التغيّرات السلوكيّة والفكريّة التي تطرأ عليهم وعلى المحيطين بهم للمشاهد، ليس هذا فحسب بل تعدّى الأمر إلى مشاركة المشاهد في معاناتهم وجدانياً.
لا تقتصر هذه المعاناة الإنسانيّة في مجتمعاتنا على مرضى "آلزهايمر"، فهناك من يُصاب بجلطة دماغيّة تؤدي إلى فقدان الذاكرة أو جزء منها، أو فقدان القدرة على تغذية الذاكرة بالأحداث الجديدة، وهناك من يفقد بعض الحواس مثل القدرة على الكلام والتعبير، أو القدرة على الحركة فيصاب بشلل جزئي أو كلّي، وهناك من يعاني من حالة موت سريري فيستمر قلبه بالنبض أعواماً وجسده لا يحرك ساكناً.
تعدّدت الأسبابُ والنتيجة واحدة، فهذا الشخص قد أصبح في غمضة عين إنساناً آخر، بعيداً كل البعد عمّا كان عليه سابقاً، يبدأ رحلة معاناة مع المرض من جهة، ورحلة كفاح أخرى مع ذاته والمحيطين به لإعادة إحياء صورته الماضية، رويداً رويداً وبسبب طبيعتنا البشريّة وقدرتنا "العالية" على التكيّف وقدرتنا "الفائقة" على النسيان يُسلّم هو أمره ويخضع للواقع ويبدأ بتقبل الخسارة والبحث عن أقصر الطرق لإتمام المهمة.
أمّا المحيطون به فيتعايشون مع الواقع الجديد، يتألمون لألمه ويعانون من أجله، ولكنهم في النهاية سيجدون صعوبةً كبيرةً في الإحتفاظ بصورته الماضية، الجميلة والزاهية في أذهانهم، ستترسخ الصورة الحاضرة في أذهانهم وذاكرتهم دون أن يشعروا، وستبدأ رحلتهم المُضنية في البحث عن تلك الصورة في أعماقهم، سيضطرون للغوص عميقاً في قيعان المحيطات للبحث عن أجزاء تلك الصورة المتبعثرة والغارقة في النسيان، وسيعانون أشد المُعاناة في لملمة أجزائها المتناثرة وجمعها فسيفساء تحكي قصّة أحبّاءٍ في الماضي البعيد.
الرسالة التي حرص طاقم فيلم "ما زلت آليس" على إيصالها لنا عبر الشخصية الرئيسية للفيلم، ما زلتُ آليس، أنا ذات الإنسانة التي عرفتموها، ذكيّةً لمّاحة ومتحدّثة لبقة، حسّاسة وجيّاشة العواطف وفوق كل هذا عزيزة النفس، أنا ما زلت آليس التي تعرفونها، ليس المرض أو الموت ما أخشى، ولكن أخشى ان تنسوا آليس التي كانت. أنا ما زلتُ آليس !
أيمن أبولبن
14-6-2015
(( تحيّة إلى روح والدتي التي أفقدها المرض القدرة على التعبير في سنواتها الأخيرة، وإلى جميع المرضى الذين غيّرهم المرض وإلى المحيطين بهم ))
رابط المقال على القدس العربي
رابط المقال على موقع سواليف
صفحة الكاتب على الفيسبوك
للتواصل عبر تويتر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق