أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
من نظريات الفكر الحديث المتداولة على نطاق واسع نظرية "التفكير خارج الصندوق" Thinking Out Of The Box وتهدف النظرية إلى دفع الفرد للخروج من دائرة أنماطه السلوكية المعتاد عليها وفتح المجال له لإطلاق فكره الإبداعي بعد أن يتحرّر من أثقال الفكر التقليدي، وهي نظرية تم تطويرها تحديداً لحل المشكلات وعوائق العمل بطرق ابداعية بعيداً عن الحلول التقليدية أو المحاكاة.
ويرمز الصندوق الى التفكير التقليدي النمطي، ويكون الخروج منه عن طريق تغيير طريقة التفكير أو عكسها وإعادة النظر في الفرضيات أو المسلّمات الموجودة في ذهننا، وهذا بدوره يساعد على ايجاد بدائل جديدة قد تكون أسهل الحلول وأقصرها، ولكن إصرارنا على التفكير النمطي التقليدي قد يجعلنا نغفل عن هذه الحلول البسيطة والبديهيّة.
الغريب في الأمر أن التجارب أثبتت أن الأشخاص البسطاء البعيدين عن الإختصاص، والأطفال عموماً يتمتعون بالقدرة على الإبداع والبُعد عن النمطيّة في التفكير، لأنهم لم يخضعوا لتجارب حياتيّة فرضت عليهم نمطا سلوكيا معينا، أو جعلتهم يتقوقعون داخل الصندوق، وكم من مشكلة عويصة قام بحلها طفل صغير أو شخص بسيط بتلقائية وبسهولة متناهيّة.
ومن الناحية الإجتماعية والنفسيّة ينصح المختصون مَنْ يُعانون من ضغوطات في العمل أو في الأسرة، بالتعبير عن الضغوط النفسية بطرق غير معتادة مثل رسم صورة، كتابة الشعر، الغناء، أو ممارسة رياضة جديدة، والقيام بزيارة أماكن جديدة يزورها الشخص لأول مرة، وكل هذه النصائح تندرج تحت باب "الخروج من الصندوق".
يقول المفكر الإسلامي الدكتور محمد شحرور أن أزمة الفكر الإسلامي أو العربي إجمالاً تكمن في البحث عن "النموذج" ومحاولة استنساخه أو إعادة انتاجه، ويضرب مثالاً على ذلك بأن الأمة الإسلاميّة تصبو لإعادة تكرار نموذج المسلمين الأوائل، بدلاً من العمل على تشكيل هويّة مستقلّة تخص جيلنا وتقدّم إضافةً للبشريّة، كما أنها حافظت على العلوم الدينيّة المتوارثة عبر الأجيال مع محاولات خجولة فيما يخص تطوير الخطاب الديني وإعادة إحياء هذه العلوم من جديد.
أتفق تماماً مع هذا التحليل الذي يضع اليد على الجرح تماماً، فعندما ننظر إلى واقعنا نجد أن العقل العربي هو أسير حلم الزعيم الذي ينهض بالأمة، والبطل "المُلهَم" الذي سيحقق المعجزات ويحل كل المشاكل بعصا سحرية، ولهذا ترانا دائمي البحث عن هذا "النموذج" في محاولة منّا للهروب من مسؤولياتنا، وعدم تكلّفنا عناء التغيير أو دفع ضريبته.
أما على مستوى موروثنا الديني، فبدلاً من إخضاع العلوم الدينية المختلفة للتراكم المعرفي والتطور باستخدام الأدوات المعرفية الحديثة كما حصل مع باقي العلوم، تم تأطير علوم الدين ووضع مُنتجاتها من عهد الأوائل داخل صندوق وحصر تفكير كل الأجيال التي تلت تلك الحقبة في نطاق هذا الصتدوق دون ترك أي مجال للتحديث والتطوير أو إخضاع هذه المُنتجات للتراكم المعرفي والتطوّر عبر الزمن، وبهذا نكون قد أغفلنا الواجب الأساسي لنا ألا وهو إضافة إبداعنا نحن كجيل مستقل مختلف فكرياً ومتقدّم معرفياً، تقع عليه مسؤولية النهوض بالأمة وتقديم حلول وأفكار تناسب العصر وتضعنا في تنافس مع باقي الأمم.
قال لي أحد الزملاء في العمل ذات يوم، أنه أراد تدريب أحد الموظفين الجدد على كتابة وتحرير السندات المالية، فقام بإحضار سند مالي من الأرشيف مُعبّأ حسب الأصول وطلب من الموظف تحرير سند مطابق له، مضى وقت طويل دون أن ينجح الموظف في اتمام المهمة ولاحظ زميلي أن الموظف الجديد يقوم بإعادة كتابة السند بالكامل ثم يتلفه ويعيد الكرّة من جديد، ولدى سؤاله عن السبب قال لقد قمت بتحرير السند ولكني أجد صعوبة في تقليد التوقيع الموجود على السند الأصلي !!
هذه القصة التي تحمل طابع الكوميديا السوداء، تُلخّص واقعنا العربي للأسف، فطرق التعليم عندنا هي طرق استنساخيّة تحث على التقليد والمحاكاة وحفظ المعلومة دون أن نعقلها أو نفهمها، نحن نهتم بالنتيجة والمحصّلة دون العمل على إمتلاكنا القدرة على ربط المعلومة بواقعنا للإستفادة منها أو تقديم أفكار جديدة، نحن نبحث عن السَمَك ولا نريد ان نتعلم الصيد، والمشكلة الأكبر أننا ننقل هذا الإرث الى الأجيال التي تلينا ونحاول إقناعهم أو إجبارهم في بعض الأحيان على اتباع نهجنا، وهذا ليس محصوراً في المدارس والجامعات ولكنه يشمل جميع قطاعات مؤسساتنا العربية الا ما رحم ربي، نحن بعيدون كل البُعد عن الحكمة التي تقول (( لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ))
معظمنا قرأ نظرية القرود الخمسة الشهيرة، وتأثر بها لأنه بشكل أو بآخر عاشها بنفسه في الواقع أو عانى منهاً في مكان العمل أو في الدوائر الحكوميّة التي راجعها، أو حتى في مجتمعه الأسري الصغير، ولكن القليل منّا من استفاد من هذه النظريّة وغيّر طريقة حياته بناءّ عليها.
مسؤولية المشاكل التي تسببنا بها تقع على عاتقنا نحن وليس على أي شخص آخر، وعلينا نحن أن نجتهد كي نقوم بحلّها، وكي ننجح في ذلك علينا أولاً أن نغيّر العقليّة التي تسبّبت بهذه المشاكل، وهذا التغيير المنشود يتطلّب البدء بمحاولة التفكير خارج الصندوق.
إبحث عن الصندوق الذي بداخلك، عايِنْ ما فيه وأَعِدْ ترتيبه، ثم احرص على أن تُبقيه مفتوحاً.
أيمن أبولبن
20-5-2015
رابط المقال على القدس العربي
صفحة الكاتب على الفيسبوك
للتواصل عبر تويتر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق