الأربعاء، 6 مايو 2015

ضع نفسك مكاني وسترى الأزرق أسود !



 

أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

 




 

انتشرت في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الإجتماعي مجموعة من الصور التي تثير حيرة المُشاهد وتحتمل أكثر من وجهة نظر، ومن أشهر هذه الصور صور الفستان الشهير الذي رآه البعض باللونين الأزرق والأسود، والبعض الآخر رآه باللونين الأبيض والذهبي، ثم تلا هذه الصورة، صورة لقِطّة إيرانيّة وهي تنزل درجات السلّم فيما يراها البعض أنها تصعد الدرج.

 

التفسير العلمي لهذه الظاهرة، يشير إلى أن اختلاف الإضاءة وانعكاسها في الصورة، بالإضافة إلى إختلاف خلفية الصورة وودرجة الظل يؤدي إلى إختلاف درجات اللون بين شخص وآخر، ويؤثر على تحليل الدماغ للصورة ومن هنا يأتي اختلاف تحليل الصورة بين شخص وآخر، والأدهى من ذلك أن الشخص الواحد إذا قام بتغيير الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الصورة، أو قام بالتركيز على نقطة معينة في الصورة، سيؤدي إلى إختلاف تحليله الشخصي للصورة ويستطيع أن يرى الجانب الآخر من الصورة والذي كان مُغيّباً عنه !!

 

ويضيف العلماء، أن النظام البصري الخاص بكل شخص قد يُهمل بعض الجوانب في الصورة مما يؤثر على تركيزه ويقوده إلى تحليل بصري مختلف عن الآخرين، أو مختلف عن الواقع.

 


 



 

هذه الظاهرة تستحق أن نتوقف عندها ونتأملها مليّاً، فبالرغم من تكرارها وإختلافنا في الرؤية مع الآخرين في مناسبات عديدة، إلا أننا نحاول أن نقفز عن هذه الحقيقة ونُصر على إقناع الآخرين بوجهة نظرنا في أمور تحتمل الرأي والرأي الآخر وتستوعب كل الإحتمالات، وفي خضم حماسنا لوجهة نظرنا الخاصة ننسى أو نتناسى إن الإختلاف في وجهات النظر يجب أن لا يُفسد للود قضية وكما قال الإمام الشافعي : (( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ))

 

لقد خلقنا الله مختلفين في كل شيء ولو أراد أن يخلقنا على نفس الشاكلة لفعل، ولكنه جعل لكلٍ منا خصوصيّة وسمات شخصيّة نختص بها دون غيرنا، وأعطانا حريّة التفكير والقرار وسخّر لنا الأدوات المعرفيّة كي نتميّز عن بعضنا ونختلف ونتحاور ونتعاون فيما بيننا في تبادل المعرفة وتحقيق المصالح المشتركة، يقول الله تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ولكن على ما يبدو أن كل واحد فينا يتوق في داخله للشعور بأنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة التي لا تحتمل أي إختلاف أو تعارض معها.

 

في إحدى الدورات التدريبيّة في الإدارة، وزّع المُحاضر علينا أوراق قصّة قصيرة بعنوان " مَنْ قتلَ الحاجّة آمنة؟ " تتحدّث بإختصار عن إمرأة كبيرة في السن تسكن في أحد الأحياء الشعبيّة وتُصاب بأزمة قلبيّة مُفاجئة تستدعي ذهابها إلى المستشفى على وجه السرعة، ولمّا كانت تعيش لوحدها ولا تملك سيّارة، طلبت مساعدة جارتها التي حاولت طلب سيّارة إسعاف فتعذّر ذلك واضطرّت إلى النزول بها إلى الشارع والبحث عن أي سيّارة تُقلّهما، وبالفعل استقلّت سيّارة أجرة وطلبت من السائق أن يسلك طريقاً مختصراً للوصول إلى المستشفى بأسرع وقت ولكنه رفض وتعلّل بأن الطريق المُختصرة غير مُعبّدة بالكامل وأصر على سلوك الطريق الرئيسيّة رغم الإزدحام المروري، وتتعدّد الشخصيّات في القصة من شرطي السير الذي يرفض مغادرة موقعه ومرافقة السيّارة لضمان وصولها بأسرع وقت الى موظف الإستقبال في المستشفى الذي يصر على طلب الوثائق الرسميّة لعمل إدخال المستشفى، الى الطبيب المقيم الذي يحاول اسعاف المُصابة ويفشل في ذلك.

 

بعد قراءة القصّة بتمعّن طلب منّا المًحاضر أن نكتب على ورقة مستقلّة إسم الشخصيّة التي تسبّبت بوفاة الحاجّة آمنة حسب وجهة نظرنا الشخصيّة وتعليل ذلك، وكانت المفاجأة أن أجوبة المُشاركين قد شملت كل الشخصيّات في القصّة وكانت التعليلات منطقيّة إلى حدٍ ما ولكن بعضها راجح أكثر من الآخر؛ قال المحاضر أن كل شخص منّا إختار هوية القاتل بناءً على معلموات معرفيّة وسلوكيّة متراكمة في فكره تؤثر على تحليله ورؤيته للأشياء وقد تقوده إلى استنتاجات وقرارات خاطئة، وأشار إلى أن الشخصيّة التي تسبّبت بشكل مباشر في مقتل الحاجة آمنة كان السائق الذي تقاعس عن أداء واجبه في إيصالها إلى المستشفى بوقت مناسب، بينما كان تأثير بقيّة الشخصيّات محدوداً وغير مباشر.

 

في نهاية المحاضرة تناقشت مع الدكتور المُحاضر وقلت له أن شرطي المرور كان بإمكانه أن يستخدم السلطة الممنوحة له في إخلاء الطريق وضمان وصول السيّارة إلى المستشفى في وقت قصير، فقال لي يبدو أنك تعاني من مشاكل مع السُلطة يا بُنيّ !

 

هناك حكمة تقول put yourself in my shoes أي ضع نفسك مكاني وأنظر إلى الأمور من منظوري الشخصي حتى تتمكن من الحُكْم على الأشياء من زاوية أخرى غير تلك التي تُركّز عليها، وهنا يكمن سر إحترام وجهات النظر الأخرى رغم إحتفاظنا بحق الإختلاف بين بعضنا البعض، ولكننا على الأقل نستطيع أن نتفهّم هذا الإختلاف ونقدّره ونتقبّله بصدر رحب، وقد تكون هذه التجربة أو محاولة رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخر، كفيلة بأن تغيّر من وجهة نظرنا الشخصيّة وتدفعنا للإعتراف بصحة الرأي الآخر، ولكن الإختلافات ستتعمّق وتتعاظم إذا أدركنا خطأ قراراتنا وآرائنا في موضوع ما ثم أخذتنا العزّة بالخطأ وأصرّينا عليه كما يفعل البعض !!

 

هناك توصيف باللغة الإنجليزية في حالة حدوث شيء غير متوقع رغم أن مقدّماته واضحة للعيان، I didn't see that coming وهو وصف جميل يعجبني، لأنه يقرّ ويعترف بأن البوادر كانت موجودة وبالإمكان رؤيتها لكن الشخص عجز عن ملاحظتها وقراءة الأحداث بعناية مما أدى إلى التفاجىء بنتائجها. بالفعل فالحقيقة متوفرّة ومُتاحة لمن يُمعن النظر ويتحقق من الأشياء ولكن، يعجز عن رؤيتها كل من يستخدم نظّارة خاصّة، لا يرى العالم إلاّ من خلالها.

 

ليتنا نتوقف قليلاً ونقوم بتغيير الزاوية التي ننظر إلى الأمور من خلالها، وأن نستمع بعناية إلى الآخر ونتمعّن في كلامه محاولين أن نضع أنفسنا في مكانه حتى نتمكّن من فهم وجهة نظره، بدلاً من حالة الجمود في الرأي التي نعاني منها. وليتنا نحاول إدراك ما بين السطور والتدقيق في الأحداث وتحليلها بتجرّد بعيداً عن الشخصنة والأفكار المُسبقة والقراءات السطحيّة التي لن تؤدي سوى لقرارات خاطئة مصيرها محتومٌ بالفشل.

 

أيمن أبولبن
2-5-2015

 

رابط المقال على القدس العربي


 

صفحة الكاتب على الفيسبوك


 

للتواصل عبر تويتر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق