الاثنين، 12 نوفمبر 2018

البنت اللي قالت لأ!



أثناء دراستي الثانوية وخلال العطل الصيفية كنت أعمل لدى أحد محلات تأجير أشرطة الفيديو في منطقتي السكنية، فمن جهة كنت أقضي وقتا مفيدا في العمل، ومن جهة أخرى كنت مولعاً بالسينما ومشاهدة الأفلام.
وذات مساء وأثناء مراجعته لشؤون الأعمال اليومية وقوائم الحركة على الأفلام، وبّخ صاحبُ العمل الموظفَ المسؤول عن قسم الأفلام العربية، وصرخ في وجهه قائلاً: فيلم (البنت اللي قالت لأ) لم يتم استئجاره ولو لمرة واحدة منذ أن تم شراؤه منذ أكثر من سنة، ماذا تصنع!
هذا الفيلم بطبيعة الحال، كان من الأفلام الهابطة، فنياً وشعبياً وعلى مستوى شباك التذاكر وعلى صعيد كل المؤشرات التي قد تخطر على بالك!

عبد الرحمن (الموظف الذي تم لومه وتوبيخه)، كان داهية في عمله، وقد أثّرت هذه الحادثة فيه كثيراً، لذا بادر من صبيحة اليوم التالي إلى صنع عدة نسخ من الفيلم ووضعها خلف مكتبه مباشرة، وهو المكان المخصص لفئة أفلام ال VIP، ثم عمد الى تنفيذ خطة مُحكمة لترويج وتسويق الفيلم، ففي كل مرة يأتي فيها أحد الزبائن الشغوفين بالأفلام العربية، وبعد أن يختار مجموعة من الأفلام المميزة وفي اللحظة التي يهمّ بها في المحاسبة ومغادرة المحل، يبادر الى سؤاله بلهجته المصريّة: (هو انت شفت فيلم البنت اللي قالت لأ؟) بطبيعة الحال السؤال بحد ذاته يوحي أن هذا الفيلم هو نارٌ على علم، أو فيلم من أفلام الجوائز العالمية، خصوصاً أنه يحمل اسماً رناناً، وهنا تجتاح الشخص الواقع في الشرك، مجموعة من المشاعر المختلطة، فهو لم يسمع بهذا الفيلم من قبل، (إذ أنه غير موجود على خرائط الأعمال الفنية المعروفة أصلاً!)، ولكن من وحي السؤال يشعر بأنه قد فاته شيء عظيم، مع خليط من الشعور بالذنب، إذ كيف يفوت على أحد أكثر المتحمسين لمتابعة الأفلام العربية فرصة مشاهدة فيلم مهم كهذا، يتحدث عنه الناس!
وفي ظل هذا التأثير، ومع ابتسامة خبيثة مصطنعة من عبد الرحمن، يبادر الزبون بالإجابة: في الحقيقة لا، ثم يضيف بشيء من الرجاء، هو موجود؟ وهنا بالذات كنتُ ألمح في عيني عبد الرحمن نشوة الانتصار، فيجيب منتشياً، آه طبعاً، ده أكثر فيلم عندنا نسخ منه، يا سلام إزاي تفوّت الفيلم ده!
وهكذا زبون بعد آخر، إلى ان تصدّر الفيلم قائمة مبيعات المحل لذلك الشهر، حتى أن صاحب العمل أصابته الدهشة وعبثاً حاول فهم ما جرى!


بالتأكيد كان هناك بعض الزبائن الذين عادوا باللوم على عبد الرحمن لرداءة الفيلم، ولكن رد عبد الرحمن كان جاهزاً دائماً، (طبيعة الفيلم لم تناسب حضرتك) (غلطان والله، ده فيلم جوائز) (يا سيدي يعني فيلم واحد لم يعجبك من ضمن خمسة أفلام بسيطة يعني) (غريبة، الكل بيمدح في الفيلم!). ولكن كل هذا لم يكن في النهاية مهماً، فالأهم بالنسبة لعبد الرحمن أنه قام بتسويق أحد أسوأ الأفلام بشكل قياسي لم يسبق له مثيل. أما بالنسبة لصاحب المحل، فالأهم كان الربح الكثير وتعويض الخسارة المؤكدة، ولا ضير من بعض الاحتجاجات البسيطة!

ذات مساء، وبعد أن قلّ اهتمام عبد الرحمن بتسويق الفيلم، بعد تحقيقه أكثر من المتوقع من المبيعات، دخل أحد الزبائن الى المحل، وتوجّه بالسؤال دون تعيين هل أجد لديكم فيلم "البنت اللي قالت لأ"؟ وبحركة لا ارادية توجهت أنظارنا جميعاً إلى عبد الرحمن، مع صدمة ودهشة حقيقتين!
لحظات الصمت هذه شحنت الأجواء، وزادت من تعلّق الزبون بالفيلم، وبدأت نظرات الرجاء تطفو على ملامح وجهه، وبعد صمت طويل ومحاولة ادعاء أنه يبحث عن نسخة من الفيلم قال عبد الرحمن معتذراً، والله للأسف كل النسخ طالعة!، خاب أمل الزبون وخرج وهو يجر أثواب الخيبة.
سألت عبد الرحمن موبّخاً من جهة ومستفسراً بفضول من جهة أخرى، لماذا؟ ولكنه بكل ثقة ابن سوق محترف أجاب: (يا عم ده زبون طيّار وانا مش حأطلّع فيلم مطلوب في السوق لزبون مش دائم للمحل! الفيلم بقى عليه طلب!).


نعم كانت هذه هي الحقيقة التي لم أفهمها لحظتها، لقد بدأت عجلة التسويق بالدوران دون الحاجة الى أي عمل من عبد الرحمن!

لم أنسَ قصة عبد الرحمن مع هذا الفيلم بكل تفاصيلها رغم مضي أكثر من ربع قرن عليها، ليس فقط لأنها وسّعت مداركي نحو أهمية التسويق والنباهة في العمل ودراسة نفسية العميل...الخ ولكن لكونها أولاً وأخيراً درساً في تسويق الفساد والترويج الناجح للبضائع الهابطة!
في كل يوم أشاهد أمامي عبدالرحمن وفيلم البنت اللي قالت لأ، في كل اعلامي يقوم بتلميع شخصية فاسدة أو يدافع عن نظام دموي، في كل نائب عن الشعب يتاجر بصوته والأمانة التي يحملها، في كل وزير يقوم بتغيير أجندته وأقواله بعد جلوسه على كرسي السلطة، في كل مسؤول يتولى مركزا مهما وهو لا يحمل من المؤهلات سوى نسبه وحسبه، في كل موظف يمارس عمله في غش وخداع العميل ولا يراعي أخلاقيات المهنة، في كل صحافي ينفذ توجيهات عليا، رغم مخالفتها لكل قيم الصحافة، وفي كل طُغمة سياسية فاسدة تولّت الحكم في بلادنا، وتحكّمت في مصائرنا، رغم أنها هابطة ورديئة وفاشلة ومُقيتة بل ومُجرمة!

عبد الرحمن، تجسيدٌ بسيطٌ ولكنه حقيقي لكل سحّيج ومُطبّل، يمدح السلطة مقابل المال، أو ظناً منه أنه يمارس وطنيّته، ويخلط بين مفهوم الوطن والسلطة الرابضة على صدر الوطن!
فيلم البنت اللي قالت لأ، هو تجسيدٌ للفساد الذي أصبح مؤسّسيّا في مجتمعاتنا العربية، بحيث أصبح ينتج نفسه بنفسه دون الحاجة للتسويق له، بل إن محاربة الفساد في عالمنا العربي أصبحت أشبه ما تكون بمعركة "دون كيشوت" مع طواحين الهواء!

قد تكون قصة عبد الرحمن نسخةً بريئةً مقارنة بما آلت اليها الأحوال في عالمنا العربي، منذ بدء موجة ثورات الربيع العربي وما لازمها من تغييرات في تكتيكات الأنظمة القمعية، لمواكبة الأحداث وركوب موجة التأثير على المجتمعات، عبر وسائل التواصل ومنصات الاعلام المختلفة، بحيث لا يكاد يخلو يومٌ من ظهور نسخة متطورة من عبد الرحمن، في هيئة إعلامي مأجور أو سياسي فاشل أو فاسدٍ متكسّب، يمارسون نفس العمل: يطلّون برؤوسهم ناصبين شراكهم، محاولين تسويق برامجهم السياسية الفاشلة وخططهم الاقتصادية العبثية، ووعودهم الإصلاحية الكاذبة، ومستخدمين نفس الأسلوب الجذّاب ولغة الخطاب الماكرة: (هو أنتو شفتو فيلم البنت اللي قالت لأ؟!) 

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

11-11-2018

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

*لحظة تجلي*

الأفكار والخواطر التي تستحوذ علي لحظة أن أخلد إلى النوم، تكون الأعظم في يومي الطويل، ولكني عبثا أحاول التقاطها وتدوينها.

في كل ليلة، أشعر أن وحيا أو إلهاما ما، يستحوذني، أو نافذة تفتح أمامي فأطل من خلالها إلى عالم آخر في زمن آخر، فلا تعد الكلمات كلماتي، ولا الوصف إبداعي، بل هو ما يردني من ذلك الإلهام أو ذلك العالم الآخر.

ولكن كل هذا يتلاشى مع ساعات الصباح، عبثا أحاول أن استرجع تلك الكلمات أو ذلك الشعور. ورغم يقيني السابق أن أثر هذا الإلهام لن يمّحي أبدا، فإن ظني يخيب دائما!

ذات ليلة، استعنت بقلمي في محاولة أخيرة، كي أدون لحظة بلحظة تلك التجليات، ولكن قلمي تاه بين الحقيقة والخيال، ووقف عاجزا لا يكاد بُبين!

في صبيحة اليوم التالي، استيقظت وأنا أردد العبارة التالية،:
كي تكون مبدعا، عليك أن تتحكم بعوالمك، بحيث تتنقل بين الواقع والخيال والجنون، دون أن تخضع لأي منهم!

أيمن يوسف أبولبن
23-10-2018

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

قضية فساد جديدة في التعليم الجامعي في الأردن!



تسريب آخر لخبايا أروقة الدوائر السياسية في الأردن، يثير زوبعة إعلامية بعد أن تحوّل إلى قضية رأي عام، انتهت بتدخل رئيس الوزراء شخصياً إثر ضغوط شعبية واسعة.
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي قد سرّبت كتاباً موجهاً من وزير التعليم العالي إلى عدة جامعات حكومية، لتخصيص عدد من مقاعد الطب والصيدلة لنحو 20 طالباً، كقائمة إضافية ضمن ما يعرف بقوائم "المُكرمة الملكية" لأبناء العاملين في القوات المسلحة وأجهزة المخابرات، واللافت في هذه القوائم أن معدلات الطلاب الواردة أسماؤهم أقل من معدلات القبول الجامعي لتلك التخصصات!

وبعد إثارة القضية، صرّحت وزارة التعليم العالي، أن هذه القوائم جاءت من جهات رسمية معنيّة بالمكرمة الملكية السامية لأبناء العاملين في الجيش والمخابرات ووفق الأنظمة والتعليمات.
المثير للاستهجان في تصريح الوزارة، كان أمران، أولهما قبول الوزارة بخرق تعليمات القبول الجامعي بحجّة استلامها لتلك القوائم من "جهات رسميّة" وكأن الوزارة (وهي الجهة التنظيمية العليا للتعليم الجامعي)، يتلخّص دورها في استلام "الأوامر" وتوزيع المقاعد دون بحث أو تدقيق.
وثانيهما، أنها تصرّح بأنها ليست المرة الأولى التي تطلب فيها الجهة المذكورة مثل هذا الطلب، وهو ما يؤكد أنه لولا تسريب القوائم لما اعترض أحد ولذهبت المقاعد الى غير مستحقيها، ليس هذا فحسب بل إن المستقبل سيشهد بالتأكيد تكراراً لهذا السيناريو، ولكن مع ضمان "الجهات المسؤولة" سريّة الأمر وعدم تسريبه!

مؤسف بالفعل ما يحصل في حقل التعليم الجامعي تحت مسمّى "المكرمات" والمنح الجامعية، لقد وصلنا الى مرحلة تكاد تكون فيها جميع المقاعد موزعة بين التخصيص وبين الأغنياء (فئة التعليم الموازي)، في حين أن الطلاب المجتهدون الذين يبحثون عن مقاعد تنافسية أو الفقراء الذين لا يتسلّحون سوى بمؤهلاتهم وتفوّقهم في التحصيل العلمي، لن يجدوا سوى نسبة ضئيلة من المقاعد قد لا تتجاوز في بعض الحالات 5% في بعض التخصصات!

للأسف فإن العشائرية والانتساب لدوائر صنع القرار في البلد تطغى على الاجتهاد والكفاح والعمل، ليس في حقل التعليم الجامعي، بل في باقي الحقول ومؤسسات الدولة.
كنا نفترض أن الاجتهاد والكفاءة هو السبيل الوحيد للتفوّق على الأقل في حقل التعليم، وأن المنافسة هي السبيل الوحيد للحصول على مقعد جامعي، ولكن على ما يبدو فإنه وعلى عكس القاعدة ليس لكل مجتهد نصيب بل لكل واسطة ومحسوبية نصيب!

حسب الأرقام المتوفرة من العام الدراسي 2016، فإن نسبة مقاعد المكرمة تصل إلى نحو 30%، يضاف لها 5 % منح لأبناء المعلمين، فإذا أضفنا إلى هذه الأرقام ما نسبته 30% إلى 40% مخصصة لبرنامج الموازي يتبقى ما نسبته أقل من مقعد واحد تنافسي لكل ثلاثة مقاعد جامعية!
علماً، بأن هذه النسبة تختلف من جامعة إلى أخرى ومن تخصص إلى آخر، وحسب المعلومات فإن تخصصات الطب وطب الأسنان يعتبران أقل التخصصات الخاضعة للتنافس بين التخصصات الأخرى.

لقد آن الأوان لفتح ملف التنافس الجامعي وتوزيع المقاعد في الجامعات الأردنية، فإذا أراد دولة الرئيس حل المشكلة، وليس نزع فتيل الأزمة فقط، عليه أن يُخرج هذا الملف من التابوهات المغلقة ومناقشته بشكل منهجي من قبل خبراء همّهم الوحيد مستقبل البلاد والعباد.

من الأفكار التي يطرحها العديد من الأكاديميين، تشكيل دائرة مركزية لإدارة ملف المنح الجامعية، يكون من أولوياتها وضع تعليمات واضحة ومحددة وموحدة للحصول على المنحة الجامعية، على ان تتوافق هذه التعليمات مع سياسة التعليم الجامعي في الوزارة والجامعات المعنية.

ثانياً، يجب البحث عن أفكار خلاّقة أخرى، لا تعتمد على سلب حق المجتهد وتوزيع المقاعد بشكل غير عادل بين أبناء البلد الواحد، بل بتحويل المنحة الجامعية إلى مفهوم تمويل وتغطية مصاريف الدراسة بدلاً من تخصيص مقعد جامعي خارج إطار التنافس.
كما تبرز أيضاً، فكرة انشاء بنك جامعي، يختص بتمويل نفقات الدراسة لأبناء العاملين في القطاعات الحكومية والقوات المسلحة والمخابرات..الخ بدلاً من تخصيص نسبة معينة من المقاعد لهذه الفئة، ويتم تمويل هذا البنك بشكل مشترك بين الجهات الرسمية والخاصة.
كما يطرح البنك أيضاً، خيار تمويل نسبة من المصاريف الدراسية في برنامج الموازي أو التعليم في الخارج لمن لم يتمكن من الحصول على مقعد في التنافس الحر، مع تغطية الفرق في الأسعار من الطالب نفسه.

وهذا يقودنا الى المطالبة بإنشاء تخصصات مهنية ومعاهد تدريب تابعة للجامعات تقوم باستيعاب الطلاب الذين يرغبون بالتعليم المهني، أو الذين يفشلون في الحصول على مقعد أكاديمي.
وهذا بدوره سيقوم برفد السوق المحلي بكفاءات مهنية عالية يفتقدها السوق المحلي.

أما الملف الأهم، فهو العمل على زيادة دعم الجامعات والبحث العلمي، الذي يكاد يكون في أدنى درجاته، فبدلاً من إنفاق ملايين الدنانير سنويا على برامج المنح الجامعية (تشير الأرقام الى وصوله حد 30 مليون دينار سنوياً) يمكن تخصيص جزءٍ من هذه الميزانية لدعم البحوث العلمية وسبل ريادة السوق الإقليمية، خصوصا في قطاع الطب وتقنية المعلومات.

مهما كانت الغاية سامية، ومهما ادعينا أن الهدف من منح مقاعد جامعية لأبناء العاملين في سلك الدولة هو تكريم ومكافأة أبناء الوطن، إلا أن الواقع أثبت خلال الأعوام الطويلة الماضية أن حجم الظلم الذي يقع في حق أبناء البلد غير المحسوبين على أي جهة رسمية أو حكومية هو أعظم شأناً وذو تأثير سلبي أكبر، بل فيه إخلال للمنظومة الاجتماعية والاقتصادية في البلد.

وإني أتساءل كما تساءل غيري، كيف يمكن بعد ما شاهدناه من تسريبات وما علمناه من تعليمات خاصة تتجاوز كل القوانين والأعراف، أن نُقنع أبناءنا بان الاجتهاد هو سبيل النجاح في هذه البلد!

في الختام، تولّد لدي فضول كبير، بعد متابعتي لهذه التسريبات أن أدرس وأحلّل عن قرب شعور أحد الطلاب الذين حصلوا على مقعد جامعي وهو يعلم أنه لا يستحقه، وأنه بشكل أو بآخر قد سرق تعب وجهد وسهر ومعاناة غيره، باختصار لقد سرق حق غيره!
كيف يكون شعوره عندما يمضي في درب الحياة، وهو يعلم أن هذا المسار كان من حق غيره، وأن النجاح الذي يحققه هو، لو أتيح لصاحبه الحقيقي لربما غيّر مجرى حياته إلى الأفضل!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

15-10-2018

الاثنين، 8 أكتوبر 2018

أشرف مروان، العربي الذي أحبته اسرائيل!



بمناسبة ذكرى حرب 6 أكتوبر 1973، عرضت قنوات "نت فليكس" الشهر الماضي فيلم "الملاك The Angel " المأخوذ عن رواية (بار جوزيف) بعنوان The Angel: The Egyptian Spy Who Saved Israel، أو الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل الصادرة عام 2016 والتي كشفت أن "أشرف مروان" صهر الرئيس جمال عبد الناصر، ومستشار الرئيس أنور السادات ومدير مكتبه كان عميلاً للموساد.

وكان اسم "أشرف مروان" قد ورد في التحقيقات الإسرائيلية التي أجرتها لجنة "جرانت" عقب حرب أكتوبر للتحقيق في أسباب الهزيمة، وورد فيها أن مروان كان قد زوّد إسرائيل بمعلومات مهمة من بينها ساعة الصفر التي تم تحديدها لتحرير سيناء في أكتوبر 1973، الأمر الذي لم تعطه القيادة العسكرية الأهمية اللازمة آنذاك.
وبعد وفاة "مروان" في ظروف غامضة عام 2007 في منزله بلندن، أعلنت تل أبيب أن "أشرف مروان" كان عميلاً مزدوجاً، ما اضطر السلطات المصرية لنفي ذلك والدفاع عنه بأنه قد ساهم في العديد من الأعمال الوطنية ولم يكن يوماً عميلاً للموساد.
ويُعتقد أن مروان قد تم القاؤه من شرفة منزله في الطابق الخامس، ولكن التحقيقات لم تستطع اثبات ذلك، فيما اتهمت زوجته (منى عبد الناصر) الموساد باغتياله.
من الناحية الفنيّة جاء الفيلم ناجحاً وممتعاً بشكل عام، ولكنه لم يرق إلى تصنيف أفلام الجاسوسية المميزة، وقد عانى الفيلم بشكل واضح من غياب الممثلين المصريين، مع افتقاد طاقم الفيلم لإتقان اللهجة المصرية (عدا البطل الرئيسي مروان وزوجته منى عبد الناصر) رغم أن اللغة العربية -واللهجة المصرية تحديداً- تشكّل مساحة كبيرة من الفيلم، فيما جاء أداء ضابط الموساد المسؤول عن تجنيد مروان راقياً ومميزاً.
كان لافتاً أيضاً غياب الشبه بين الممثلين والشخصيات الحقيقية خصوصاً في شخصيات الرؤساء عبد الناصر والسادات، بل إن الاختلاف امتد الى السمات الشخصية. ويبدو لي أن المخرج قد اعتمد على الأداء الدرامي الذي يخدم حبكة الفيلم على حساب الاقتراب من "كاريزما" الشخصية التاريخية نفسها. وهذا يدفعني للتساؤل حول الفئة المستهدفة من الفيلم، هل هو فيلم موجه لمنطقتنا وللعرب تحديداً أم للغرب؟
مخرج الفيلم الإسرائيلي (آرئيل فرومين) حاول أن يقدّم رؤيا إسرائيلية للصراع العربي الإسرائيلي، قابلة للفهم والقبول من الغرب، لتأكيد مسألة مهمة جدا هي حاجة الإسرائيليين للسلام، في دعوة واضحة لمؤازرة الشعب الإسرائيلي في حقه في العيش بسلام وسط جيرانه العرب، ولكن في ذات الوقت كانت هناك رسائل خفية للعالم العربي، حملتها الرواية والصبغة المخابراتية الصهيونية التي غلفتها، وفي رأيي الشخصي أن مخرج الفيلم أخفق "فنيّا" في تسويقها للمشاهد "العربي" تحديداً، لصالح تسويق رسالة الفيلم العالمية.

الملاحظ أن الفيلم والرواية الأصلية أظهرا "أشرف مروان" رجلا مُحبّا للسلام، لديه رغبة حقيقية في أن يكون الشرق الأوسط مكاناً آمنا ومناسبا للعيش، مؤمناً بحق الإسرائيليين في العيش بسلام، شريطة أن يسعوا هم للسلام وينبذوا الحرب والعنف، وفي ذات الوقت فهو رجل وطني محب لبلاده، يرى ان السلام (لا الحرب) هي الطريقة المثلى لضمان أمن الوطن.
بناء على ذلك فقد سخّر امكانياته وذكاءه ومنصبه الحسّاس لعمل كل ما يلزم من أجل تحقيق هدف واحد هو دفع الإسرائيليين الى طاولة المفاوضات وإقناعهم بضرورة السلام. ومن أجل ضمان ذلك كان لا بد من المخاطرة بحياته الشخصية وحياة عائلته، بالإضافة الى سمعته (بعد التورّط في التعامل مع الموساد).
كان واضحاً، حرص العمل على عدم تشويه صورة مروان، وعدم تقديمه بشخصية الخائن أو الباحث عن الشهوات والأموال، على العكس من ذلك فقد ظهر ذكيا ومخلصا لقضيته ولوطنه ولزوجته، وهنا تتضح أكثر فأكثر الرسائل الصهيونية للجمهور العربي، بل وللساسة العرب إن جاز التعبير.

التعاون مع إسرائيل في السر أو العلن ليس شبهة او خيانة للوطن والقومية العربية، فطالما أن الهدف هو العيش بسلام وضمان عدم وقوع ضحايا أبرياء (من كلا الطرفين)، فإن الوسائل التي تساعد على تحقيق تلك الغاية السامية، هي وسائل شريفة ووطنية، سيذكر التاريخ أصحابها وستمجّدهم الكتب والأعمال الفنيّة.

المفارقة في رسالة السلام التي يسوّقها هذا العمل، والتي تلوكها الكثير من الألسن مؤخراً، أنها أصبحت فضفاضة جداً بشكل يسمح للجلاّد استخدامها في تبرير جرائمه وقتله ضحاياه!
السلام المزعوم (والذي يسوّقه العمل) يفترض بدايةً أن من حق الشعب اليهودي تملّك هذه البقعة من الأرض ومصادرة حقوق الآخرين في تقرير مصيرهم او حتى المشاركة في إدارة دولتهم ومؤسساتهم، بل يبرّر أيضاً القذف بهم الى خارج حدود الوطن للحفاظ على أمن وسلام الشعب اليهودي!
وبدلاً من مناقشة مشروعيّة قيام دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني على أنقاض بيوت الفلسطينيين ورفاتهم، وتهجير الملايين منهم، مع حرمان ما تبقى منهم من أدنى حقوق المواطنة، واغلاق كل السبل أمامهم لنيل أي شكل من أشكال الدولة المستقلة، تنحصر مسألة السلام المزعوم في الاعتراف بحق اليهود في العيش بسلام مع جيرانهم العرب!

من السخرية، أن يتم اختزال القيمة الإنسانية العظيمة في السلام والعيش بأمان، بشكل سطحي يكاد يجرّد هذه القيمة من كل معنى، ويحصر استخدامها في تنظيف دنس السياسيين وقاذورات أعمالهم!

من الصعب الحكم على أشرف مروان سواء من وجهة النظر الإسرائيلية أو المصرية، او حتى من وجهة نظر عائلته والمقرّبين منه؛ هل كان أشرف مروان عميلاً للموساد أم وطنياً صاحب رؤيا حقيقية للسلام، وهل نجح بالفعل في تمرير مشروعه من خلال دس السم في الدسم؟!
وسواءً اختلفنا مع مشروع أشرف مروان أو اختلفنا، إلا أن المؤكد أن الشخصية "الدرامية" لأشرف مروان كما قدّمها العمل، هي شخصيّة العربي الذي تحبّه إسرائيل، وهي الشخصية التي ترغب في انتاجها ورؤيتها في الفترة الحالية.

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

6-10-2018

الأربعاء، 26 سبتمبر 2018

في ذكرى اغتيال ناهض حتر

تعليق كنت قد نشرته بعد اغتيال ناهض حتر. أعيد نشره في الذكرى الثانية.

إلقاء اللوم على الفكر الداعشي "لوحده" بالتسبّب بالعنف والوقوف وراء التصفية الجسدية (ناهض حتر مثالاً) ليس دقيقاً
• التطرّف اليساري والتحريض على قتل المدنيين في سوريا والعراق وباقي الدول بحجة مكافحة الإرهاب، هو جزء من المشكلة
• كل من يهاجم أو يسخر من رموز الإسلام ومعتقداته، من اليساريين والعلمانيين بحجة مكافحة التطرف أو الحريّة الشخصية، هو سبب في المشكلة (الفرق شاسع بين النقد الإيجابي وبين التهجم والسخرية)، وهو لا يقل عن خطورة مهاجمة المتشددين الإسلاميين للأديان الأخرى
• كل من يجمع المعارضين للنظام السوري في سلّة واحدة ويدمغها بالإرهاب والتطرّف والعمالة ويحرّض على القضاء عليها وسحقها هو سبب رئيسي في إذكاء العنف والتطرّف
• كل من يعتقد بداخله أن الإسلام هو داعش ويتعامل مع المسلمين على هذا الأساس فهو جزء من المشكلة
• كل من يفرّق بين الأردنيين (أو أي شعب آخر) بناءً على دينهم أو انتمائهم السياسي أو أصولهم، فهو شريك في العنف
• كل من يجاهر بدعمه للطغاة العرب ووقوفه ضد المطالبات الشعبية "الشرعية" بنيل الحرية والعدالة والمساواة هو سبب رئيسي في العنف
• وكل من يقوم بإقصاء الآخر ويمنعه من المشاركة في الحياة السياسية، هو مشارك بشكل أو بآخر في تحوّل هؤلاء الى دواعش ( من اليمين واليسار)

باختصار: كل من يعتقد أن فكره ومبادئه هي المبادئ الصحيحة المطلقة وأنه على حق والبقية على ضلال، فهو داعشي بامتياز وإن اختلفت الضفة التي يقف عليها  !

#إغتيال_ناهض_حتر #التطرف #الأردن #داعش

أيمن يوسف أبولبن

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

رُبْع قرن على خطيئة أوسلو!



في عام 1979 وفي ظل وجود منظمة التحرير في لبنان وإحكام سيطرتها على منطقة التماس الجنوبية مع إسرائيل، كانت للنرويج آنذاك علاقات تجارية مع إسرائيل، من أهمها تزويد إسرائيل بالنفط، ونظراً لخشية حكومة النرويج من تأثير ذلك التعاون على أمن جنودها المشاركين في قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، فقد قامت بالتواصل مع أبو عمار شخصياً لضمان عدم المسّ بأمن جنودها، وقد تفاجأ موفد الحكومة النرويجيّة باستجابة أبو عمّار السريعة، مع طلب وحيد بدا غريباً: (عندما نحتاج الى قناة خلفية للتفاوض مع الإسرائيليين ستلعبون أنتم هذا الدور)!!.

وبعد مضي نحو 12 عاماً، وفي الوقت الذي كان فيه الوفد الفلسطيني الرسمي (الذي يمثّل كافة أطياف الشعب الفلسطيني) يخوض مفاوضات "حل الدولتين" المنبثقة عن مؤتمر مدريد، فتح أبو عمار الباب الخلفي لمفاوضات أوسلو التي جرت في الخفاء وبإدارة مجموعة صغيرة مقرّبة منه، وانتهت باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية وبشكل رسمي بدولة إسرائيل ونبذها لكافة أشكال المقاومة.

كواليس المفاوضات


من مفارقات كواليس مفاوضات أوسلو، أن الوفد الإسرائيلي قام بتقديم ملف يحتوي على 100 سؤال للوفد الفلسطيني، من أجل الحصول على فكرة عامة حول النوايا الفلسطينية والأهداف الاستراتيجية من عملية السلام، والخطوط الحمراء (إن وجدت).
المفاجأة، لم تنحصر في أن وفد فتح، قدّم إجابات لجميع الأسئلة، وأن أيّاً من هذه الأجوبة يحتوي على خطوط حمراء، ولكن المفاجأة الحقيقية كانت عدم طرح مفاوضي فتح أي سؤال على الوفد الإسرائيلي!
بعبارة أخرى، لم يأتِ وفد فتح بعقليّة التفاوض بل كان في انتظار ما سيمنحه الإسرائيليون له في تلك اللحظة التاريخية، وهذا بالتحديد ما أدّى في النهاية إلى إملاء الإسرائيليين لكافة شروطهم!

أحد الأسئلة كان: (هل توافقون على بناء مستوطنات في الأراضي التي تقع ضمن منطقة الحكم الذاتي؟) والجواب كان نعم!
لذا، من الطبيعي أن نعلم، أن عدد سكّان المستوطنات كان عند توقيع اتفاقية أوسلو نحو 115 ألفاً (في أراضي 67) في حين يتجاوز عددهم اليوم 450 ألفاً!

نقض ثوابت الثورة الفلسطينية

 

بعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو، وتكشّف كواليسها وملابساتها، يبدو واضحاً للعيان لكل باحث ومحلّل، أن أبو عمار (والتيار الموالي له داخل قيادة فتح) كان يتبنى وجهة نظر براغماتيّة تعتمد على أن الهدف من عمليات الكفاح المسلح هو الوصول الى طاولة المفاوضات، ثم محاولة تحقيق أفضل المُتاح بعد ذلك، فالمقاومة في النهاية وسيلة أما الغاية فهي الوصول الى حلٍ سياسي مُرضٍ.
المفارقة، أن هذه الاستراتيجية تتعارض عمودياً مع ثوابت الثورة الفلسطينية المُعلنة، ومبادئ فتح بالذات، وهذه الثوابت تنص صراحةً على أن الغاية من الكفاح المسلّح هي "تحرير كامل التراب الفلسطيني"، وأن حدود الوطن من البحر الى النهر، فلا صُلْح ولا اعتراف ولا تفاوض.
بل إن منظمة التحرير كانت (قبل أوسلو) تشدّد على رفض قراري مجلس الأمن 242 و338 وهما ذات القرارين اللذين ارتكزت عليهما اتفاقيه أوسلو.
وهذا يقودنا إلى القول إن مأساة أوسلو كانت مُضاعفة، فمن جهة، كان ثمن أوسلو حياة عشرات الألوف من الشهداء والضحايا الأبرياء، وتدمير عشرات المدن وتشريد مئات الألوف. ومن جهة أخرى، فإن المأساة الأعظم، أن هذا الثمن الباهظ كان بلا مقابل!

تجاهل الحديث عن القضايا المهمّة


استراتيجية الوصول إلى طاولة المفاوضات، تفسّر لنا لماذا خلت اتفاقية أوسلو من أي بند يتحدث عن إنهاء الاحتلال أو وقف الاستيطان، أو أدنى إشارة إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
ويفسّر أيضاً، خلو وفد المفاوضات الفلسطيني "السرّي" من أي خبير في مسائل النزاعات الدولية والقانون الدولي، وخلوّه أيضاً من أي أكاديمي مختص بالتاريخ (البُعد التاريخي-الثقافي للنزاع) والمقدّسات (البُعد الديني للقضية)، ناهيك عن عدم وجود أي مفاوض من داخل الأراضي المحتلة، يتناول قضايا الفلسطينيين تحت الإحتلال!

خطيئة من جهة وعبقرية من جهة أخرى


من سخرية الأقدار، أن اتفاقية أوسلو كانت هدفاً بحد ذاتها لكلا الطرفين، فمن وجهة نظر المفاوض الإسرائيلي، كانت هذه الاتفاقية وسيلة لنقل مسؤولية وتبعات الاحتلال الى سلطة محلية تنصاع لأوامر الحكومة المركزية وتخضع لشروطها، كما أنها تضع سقفاً للمطالبات الفلسطينية، دون أن تُلزم إسرائيل بأي إجراءات أخرى، في حين تضمن الاعتراف الكامل بشرعيّة الاحتلال وتفتح الطريق لترسيخ وجود دولة إسرائيل، واقتحامها أبواب المنطقة العربية.

أما من جهة أبو عمار وقيادة فتح، فكانت هذه الاتفاقية تعني اعتراف العالم بمنظمة التحرير ونزع صفة الإرهاب عنها، بما يضمن تحوّل قادتها إلى رجال سلطة معترف بهم. بالإضافة إلى إنهاء حالة التشتّت التي تعاني منها المنظمة واضطرارها للتنقّل بين عواصم البلاد العربية. وكان ذلك على ما يبدو أقصى ما يمكن التوصّل اليه من وجهة نظرهم.
وصف إدوارد سعيد هذه الاتفاقية بالعبارة الموجزة التالية: (منظمة التحرير الفلسطينية حوّلت نفسها من حركة تحرّر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة).

من هذا المنظور يمكن القول إن أوسلو كانت الخطيئة الكبرى للقيادة الفلسطينيّة، والخطوة العبقريّة الأعظم في تاريخ المشروع الصهيوني، فإذا اعتبرنا أن مشروع الدولة قد قام على وعدٍ أجنبي مكتوب، فإن الاعتراف بهذه الدولة وتفكيك كل وسائل تقويضها، جاء هذه المرة من "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وبذلك تحوّلت فكرة الدولة من ورقة، إلى ميثاق دولي تصونه الأمم المتحدة!
 ناهيك عن القول إن سُكّان الأرض الأصليين قد قبلوا بالحصول على أقل من 22% من مساحة الوطن (في أحسن الأحوال)، على أن يكون شكل الحكم فيها "حُكماً ذاتياً" وليس دولة مستقلة ذات سيادة، وهذا ما يتجاوز توقعات القادة السياسيين في دولة الاحتلال.

في الختام نقول، كما أن الاعتراف بالخطيئة هو بداية طريق التوبة، فإن الاعتراف بخطيئة أوسلو هو بداية الطريق لتصحيح مسار الثورة، يضاف اليه، إسقاط هذه الاتفاقية ونبذ كل ما انبثق عنها، والعودة الى ثوابت الثورة الفلسطينية.
مُضيّ ربع قرن على اتفاقية أوسلو كان كفيلاً بإعادة القضية الفلسطينيّة خمسين عاماً إلى الوراء، والأسوأ من ذلك، أن نعلم أن الانحدار سيظل مستمراً، إذا ما أصررنا على التعامل مع الواقع بذات العقلية وذات الشخوص التي قادتنا إلى ممارسة الخطيئة في الظلام، ثم المجاهرة بها بعد أن استمرأنا فعلتنا.

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

18-9-2018

الاثنين، 10 سبتمبر 2018

ذوبان الطبقة الوسطى وخطر انهيار الأمن الاجتماعي



تؤدي الطبقة الوسطى دوراً حيويا في إحلال التوازن الاجتماعي وما يصاحبه من توازن سياسي واقتصادي للدولة والمجتمع، وكلما اتسعت الطبقة الوسطى في المجتمع ونمت، كان ذلك مؤشراً إيجابياً.
فالطبقة الوسطى غالباً ما تتكون من فئة التجار وأصحاب المنشآت الصغيرة، وموظفي القطاع الخاص، وهي طبقة غالبها من المُثقّفين والمهتمين بشؤون المجتمع والمتذوقين للفن والأدب، الذين يتميزون بقدرة مالية على الإنفاق في مجال التعليم الخاص، والسياحة الداخلية، وارتياد المقاهي والمسارح ودور السينما، يضاف إلى ذلك الاهتمام بالقراءة والمطالعة، ودعم النشاطات الثقافية.
هذه الدورة المتكاملة تعمل في النهاية على دعم الاقتصاد المحلّي واصطباغ المجتمع بحركة إنسانية راقية وجميلة، تحافظ على وهج ونبض الحياة اليوميّة، كما تعمل أيضاً على التوازن بين طبقة الأثرياء وأصحاب السلطة من جهة، وطبقة العمّال ومحدودي الدخل من جهة أخرى. لذلك تُعتبر الطبقة الوسطى صمام ورمز الأمان الاجتماعي.

تكافؤ الفرص

من شروط استمرار وازدهار الطبقة الوسطى، وجود قوانين فاعلة تضمن تكافؤ الفرص، وتوزيع الثروات بشكل عادل، وكذلك ضرورة توفر بيئة اجتماعية تُكافح الفساد والمحسوبية. كما تبرز الحاجة أيضاً لوجود نظام ضريبي عادل، ينظر بعين الخبير في إقرار القوانين الضريبية والاقتطاعات من الأجور.
لهذا نقول إن دور الطبقة الوسطى في الحياة السياسية هو دور حيوي وأساسي، وتاريخياً فقد كان لهذه الطبقة دور فاعل ومؤثر في قيادة المجتمعات نحو التغيير وإرساء الديمقراطية وتحقيق العدل الاجتماعي، ولنا خير مثال في الثورة الفرنسية (التي تبنّتها في الأساس الطبقة الوسطى) وما تلاها من ثورات حقوقية غيّرت وجه العالم الغربي. كما لعبت هذه الطبقة دوراً أساسياً في تعافي الدول الأوروبية من آثار الحرب العالمية الثانية.
كما يصح القول، إن أفراد الطبقة الوسطى غالباً ما يقومون بدعم حركات التغيير والإصلاح السياسي أينما وكيفما تطلّب ذلك، لما يتمتعون به من حس سياسي وثقافة عالية، وإيمان مُطلق بالمبادئ الاجتماعية.

وعند النظر في واقع مجتمعاتنا العربية في العقد الماضي، نجد العديد من المنعطفات التاريخيّة وما رافقها من متغيرّات سياسية واقتصادية (ترافقت بدورها مع تغيّرات اجتماعية)، أدّت في النهاية إلى نشوء ظاهرة انكماش أو تآكل الطبقة الوسطى.
قد يقول البعض إنها نتيجة طبيعية لتطوّر المجتمعات، ولكني أقول إنها نتيجة مباشرة لخسارة صراع التغيير، واستسلامنا لواقع الحال ثم قبولنا مُرغمين بما رسمته دوائر صنع القرار من تكريس لشكل الدولة السلطوية، القائمة على الفساد والمصالح الخاصة، والتي تقوم على استئثار فئة معينة بخيرات البلاد، وانفرادها بمفاتيح اللعبة.

سوء الأوضاع السياسيّة والاقتصادية، وعدم تكافؤ الفرص، دفع أغلبية أفراد الطبقة الوسطى إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة لضمان استمرارهم في نفس المستوى المعيشي، وهذا تطلّب الابتعاد عن الشأن العام، أو بمعنى آخر التقوقع على الذات والتخلّي عن روح المشاركة الايجابية والتفاعل، فيما بحث بعضهم عن فرصة للالتحاق بصفوف طبقة الأثرياء وأصحاب السلطة.
وقد نتج عن هذا إعلاء لقيم التملّك في المجتمع على حساب قيم المشاركة، والأهم من ذلك هروب رؤوس الأموال الى الخارج على حساب دعم السوق المحلي، مع فتح الطريق لدخول الشركات الأجنبية العابرة للقارات إلى السوق الوطني على حساب المستثمر المحلّي.

تغييرات اجتماعية

ما نشهده اليوم من تغيرات اجتماعية، يتمحور في جوهره حول ذوبان الطبقة الوسطى المعتدلة ذات السمات الإيجابية، مع طُغيان الفردية الأنانية وحب التملّك على حساب قيم المجتمع العامة.
ما أود قوله هنا، إن تعريف الطبقة الوسطى، ليس مرتبطاً فقط في معيار الدخل، وإن ذوبان الطبقة الوسطى ليس محدوداً فقط، في تغيّر مستوى الدخول الاقتصادية، وما يتبعه من تغيّر في طبقات المجتمع، ولكنه يعني من وجهة نظري: طمس الهوية الثقافية والمجتمعية لهذه الطبقة، وامّحاء السمات الشخصية لها، ثم تحوّلها تدريجياً، الى طبقة "لا فلزيّة"، سلبية المشاعر، ضعيفة التأثير ومحدودة الفعالية.

إن ما نشهده اليوم من خلو الساحة الثقافية والفكرية، سوى من عدد قليل من المؤثرين الحقيقيين، بعد تحوّل العديد من المثقفين والأكاديميين إلى "أصحاب بزنس"، يُضاف إلى ذلك قلّة الاهتمام بالشأن العام، وما نعانيه من رغبة عالية في التملّك الفردي، واختلال حاد في تقييم البشر بناء على أرصدتهم البنكية، وأثمان مقتنياتهم وليس بناء على مؤهلاتهم أو أخلاقهم وسلوكياتهم، هو نتيجة مباشرة لذوبان الطبقة الوسطى، ولكننا لا ندرك أو لا نريد أن نقر بذلك!

إن ازدياد نسب الجرائم والعنف المجتمعي والانفلات الأمني، مؤشر على خسارة الهوية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى ليس بالمفهوم الاقتصادي البحت ولكن بالمفهوم الاجتماعي الإنساني.
فنتيجة لذوبان الهويّة الاجتماعيّة للطبقة الوسطى وانعدام تأثيرها، أصبح المجتمع مقسوماً بين "كبار البلد"، ومواطنين من الدرجة الثالثة!

التصحّر المجتمعي

هاجس ذوبان الطبقة المتوسطة، وما يتبعه من نتائج وخيمة على مجتمعاتنا العربية، هو مادة دسمة يتم تناولها ومناقشتها على مستويات عديدة في العالم، إلا أننا ما زلنا غير مدركين كأفراد، نتائج ذوبان وتآكل هذه الطبقة في مجتمعاتنا.
 وهذا في الحقيقة لا يختلف عن كيفيّة تعاملنا مع الأخطار الأخرى المُحدقة بنا، والتي نسمع ونقرأ عنها الكثير، فمعظمنا على سبيل المثال يقرأ عن مشكلة التغيًر المناخي وذوبان القطب الشمالي أو التلوّث البيئي، وتأثير ذلك على كوكب الأرض، وعلى الصحة ونوعيّة الحياة التي نعيش، ولكننا لا ندرك حقيقةً أو بالتحديد ماهيّة تلك المخاطر، وحتى لو أدركناها فإننا للأسف لا نفعل شيئا يُذكر لمنع حدوثها أو على الأقل تخفيف وطأتها.
ماذا علينا ان نفعل، لإيقاف هذا التصحّر المجتمعي إن جاز التعبير؟
 إن المطلوب هو بكل بساطة، استعادة الإيمان بالقيم الإنسانية والمبادئ التي قامت عليها مجتمعاتنا وآمنت بها،
والاهتمام بجوهر الانسان، وليس بمظهره ومقتنياته.
باختصار علينا أن نستمر في عضويّة "نادي الطبقة الوسطى" بغض النظر عن وضعنا الاقتصادي، وهذه العضويّة تتطلّب منا المحافظة على الهويّة الثقافيّة لمجتمعاتنا، والدفاع عنها واعلائها، مع استمرار النضال في سبيل تحقيق شروط العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، لضمان الأمان الاجتماعي.

المفارقة، أن العالم اليوم مليء بالأجهزة الذكيّة ومترعٌ بالعوالم الافتراضية، ولكنه يحتوي على إنسانيّة أقل! وأخشى إن استمررنا في المضي قدما مع هذا التطوّر دون إدراك للقضايا العامة التي تحيط بنا، والمشاكل الجوهريّة التي تُحدق بنا، أن ينكمش الانسان فينا، فنصبح مجرّد آلة تعمل للكسب، مع فقداننا قيمتنا "الإنسانية"!
لنادي الطبقة الوسطى أدعوكم، فهل من مجيب؟!

 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن

9-9-2018