((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ
مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
(4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) سورة العلق
هذه هي أولى الآيات التي نزلت على قلب سيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم، ويصح القول إنها أولى آيات النبوّة (القرآن).
ومن أجل فهم هذه الآيات التي أُستهل بها
التنزيل الحكيم، ينبغي علينا استيعاب الحالة العامة للعرب ولسيدنا محمد قبل
النبوة، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
كانت هناك حالة ضياع للهوية القومية العربية
وسط التحديات السياسية القائمة في الجزيرة العربية بالاضافة إلى الكثير من الآفات
الاجتماعية التي تدمر المجتمع، في ظل أزمة المعتقد.
ومن الجدير بالقول إن عدداً من الملتزمين برسالة
سيدنا إبراهيم وما يطلق عليهم (الأحناف) كانوا في حالة صراع كذلك مع المجتمع في
مكة، وقد أبدوا رفضهم للممارسات الوثنية والانحراف عن تعاليم سيدنا إبراهيم، وعلى رأسهم
(زيد بن عمرو بن نفيل)، الذي عاصر سيدنا محمد ولكنه توفي قبل البعثة، إضافة إلى
عدد من الأحناف الذين تحوّلوا من الحنيفية إلى النصرانية في إطار سعيهم لمعرفة حقيقة الكون
والخالق.
هذا الواقع الذي شهد أزمة المعتقد وأزمة
الهوية، والظلم الاجتماعي هو ما دفع سيدنا محمد لعملية البحث والتأمل من خلال الخلوة
والاعتكاف في غار حراء من أجل التفكّر في الخالق والغاية من الخلق.
ومن خلال التأمل في هذه الآيات الأوائل نجد
أنها جاءت استجابة لهذا الواقع، وتوجيه النبي إلى الايمان بالله الواحد الأحد،
الذي تكفّل بدوره بالاجابة عن كل الأسئلة التي تدور في خلد سيدنا محمد وغيره من
الباحثين عن الحقيقة.
في هذه الآيات أيضاً حثٌ مباشر (ومبكّر) على
التدوين (إقرأ، علّم بالقلم) في ظل مجتمع يعتمد على الشفاهية ويملك موروثا دينيا
وثقافيا يعتمد في الأصل علىى النقل، في حين أن عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة لا
يتعدى العشرات.
كما نلاحظ عطف كلمة الرب على شخص سيدنا محمد،
(ربك) لإضافة الألفة والقرب، كما تأتي صفة (وربك الأكرم) أي أكرم الأكرمين، زيادة
في التطمين ولإعلاء شأن سيدنا محمد.
هذه الآيات تلتها في المرة الثانية لزيارة الوحي
آيات سورة المدّثر:
((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)) المدّثر
وهنا كانت النقلة التالية وهي (الدعوة أو الإنذار)
حيث يمكن القول إن هذه الآيات هي أولى آيات الرسالة (الكتاب) وبدىء عصر الرسالة،
فيما كانت الآيات الأولى السابقة هي أولى آيات القرآن (النبوّة).
ومع
هذه الآيات بدأ التكليف للرسول صلى الله عليه وسلّم بالدعوة (قم فأنذر)
والتكليف بتعظيم الذات الآلهية فوق كل الأرباب الأخرى (وربك فكبر) وتهذيب النفس وطهارة
البدن ونبذ مظاهر الوثنية (وثيابك فطهر*والرجز فاهجر)، والاستعداد لمستقبل الدعوة
والتكاليف التي ستكون ثقيلة على النفس (ولا تمنن تستكثر) والدعوة إلى الصبر على
قادم التكاليف والممانعة التي سيلاقيها من قومه (ولربك فاصبر).
إذاً بدأت الدعوة بتكاليف خاصة لسيدنا محمد
يمكن إجمالها في الإيمان بالخالق وطهارة النفس والبدن. ومن المعلوم ان الاهتمام
بالمظهر ونظافة البدن من سمات التميز والرفعة في المجتمع، فالمسلم ليس ذليلاً أو مُهمِلاً في شؤونه الخاصة.
وهذه التكاليف كانت تهدف في الأساس إلى تهيئة
سيدنا محمد لحمل مسؤولية التبليغ وإقامة الأحكام الشرعية وتأسيس الدولة وتهدف في
الوقت ذاته إلى تنشئة جيل من المؤمنين القادرين على حمل الرسالة والقيام بتكاليفها.
لذا نلاحظ ان التنزيل الحكيم قد راعى التدرّج
في الأحكام وأن التكاليف الفعلية بدأت بعد مرحلة الهجرة وتأسيس الدولة، ومن هنا
كان الاختلاف واضحاً بين التنزيل الحكيم قبل الهجرة (الايمان، الدعوة والإنذار،
والتهيئة للتكاليف) والتنزيل الحكيم بعد الهجرة الذي أرسى قواعد التكاليف والعبادات
والمعاملات.
وإن كان المفسرون القدامى قد ميّزوا بين المكّي
والمدني من حيث الفارق التاريخي الذي أحدثته الهجرة، وبينوا خصائص الخطاب في كل
منهما، إلا ان التمييز في المواضيع وفصل النبوة عن الرسالة والقرآن عن الكتاب لم يتم
التطرق إليه إلا حديثاً من المفكرين الذين اجتهدوا في مجال تطوير الخطاب الديني،
إذ أن مواضيع التنزيل الحكيم يمكن فصلها بناءً على البنية الموضوعية للخطاب الآلهي
وبناءً على المُخاطب، مع ملاحظة أن هذه المواضيع لا تُحّددها واقعة الهجرة أو تميزها
عن بعضها ، وإن كانت الهجرة فاصلاً زمنياً لبدء التشريع وتنظيم المجتمع.
أيمن يوسف أبولبن
1-5-2020
#الكتاب #القرآن
#آيات_استوقفتني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق