(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ*وَآتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ
دُونِي وَكِيلًا) سورة الاسراء 1-2
هناك عدة امور تستحق
التوقف عندها في سورة الاسراء، ولعل من أولها تلك النقلة من الحديث عن حادثة
الاسراء إلى الحديث عن سيدنا موسى وإفساد بني اسرائيل.
دعونا نبدأ بالقول
إن الآيات قد ربطت بين المسجد الحرام (أول بيت لله وضع في الأرض) وبين المسجد
الأقصى وهذا الربط له دلالات إيمانيّة كبيرة أدركها المسلمون الأوائل عندما فتح
سيدنا عمر بيت المقدس وطهّر مكان المسجد الأقصى وأعاد تجهيزه، وندركه نحن اليوم
أكثر من أي وقت مضى.
وأعتقد أن الله يشير
لنا من خلال هذا الربط، أنه وكما أرشد سيدنا إبراهيم إلى موقع الكعبة والمسجد
الحرام وكلّفه بإعادة ترميم البناء وإزالة آثار الوثنية منه، فإنه أيضاً قد أرشده
إلى موقع المسجد الأقصى في الأرض المباركة، وكلّفه بترميمه، ومن هنا بدأ الربط.
ومن خلال معجزة الاسراء فأن الله قد سلّم عهدة المسجد
الأقصى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أتباعه من بعده، بعد ان عهد له
بالكعبة والمسجد الحرام، وهنا يكون قد اكتمل الربط بين المكانين المقدسين.
*المسجد*
ونلاحظ أن الله
سبحانه وتعالى أطلق لفظ "مسجد" على دور العبادة للمؤمنين، حيث ورد في
سورة الكهف (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)
وهذا اللفظ (مسجد) لم
يُستخدم من قبل في اللغة العربية بهذا المعنى، وهو مشتق من فعل سجدَ، لذا اصبحت
كلمة "مسجد" تستخدم للدلالة على مكان العبادة لدى المسلمين أتباع سيدنا محمد،
ولاحقاً قام العلماء بإضافة مفاهيم الجامع والمصلّى.
*عبده*
وقد أشار الله
سبحانه وتعالى إلى سيدنا محمد ب (عبده) ليدل بإشارة ضمنية على حمله لواء الدين وهو
آخر أنبياء الله في الأرض. ومن مراجعتي لآيات القرآن الكريم وجدت أن كلمة
"عبده" منفردة لم ترد في القرآن سوى للاشارة إلى سيدنا محمد، وقد ورد
هذا اللفظ في ستة مواقع مختلفة (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) (تبارك الذي
نزل الفرقان على عبده) (أليس الله بكاف عبده) (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (هو الذي
ينزل على عبده آيات بينات). بينما في سورة الكهف ورد ذكر العبد الصالح بوصفه
(عبداً من عبادنا). وورد مرة وحيدة مع سيدنا زكريا، (ذكر رحمت ربك عبده زكريا)
ولكن هنا تم ذكر سيدنا زكريا مباشرة للدلالة عليه.
*الاسراء وقصة بني
إسرائيل*
أما الخلاف حول
علاقة حادثة الاسراء بقصة سيدنا موسى وبني اسرائيل، فنقول إن من خصائص القرآن
الكريم الربط الموضوعي في الآيات، ومن أهم واجبات التدبّر في القرآن هو البحث عن
الرابط بين الآيات والاسترشاد به، وهنا نقول إن الله ذكر حادثة الاسراء ووضّح أنها
معجزة إلهية (سبحان الذي أسرى بعبده) ثم ذكر أنه كشف لسيدنا محمد عن بعض آياته الغيبية
في الكون، (لنريه من آياتنا) وختم بقوله (إنه هو السميع البصير) ونفهم من هذا أن سيدنا
محمد قد أُطلع على رؤية إعجازية وأنه قد رفع الغطاء عن قدراته السمعية والبصرية لإدراك
هذه الآيات الغيبية بقدرة إلهية.
وفي الآية التالية
مباشرة أوضح الله سبحانه وتعالى موضوع هذه الرؤية التي ارتبطت بالمكان (المسجد
الأقصى) والشخوص وهم (سيدنا موسى وبنو اسرائيل) وهنا يتضح أن الآيات مترابطة
موضوعيا ولا يوجد هناك نقلة مفاجئة في الحديث.
وهكذا نستطيع القول
أن الله سبحانه وتعالى قد أسرى بعبده روحاً وجسداً من المسجد الحرام في مكة إلى
المسجد الأقصى في القدس، وأنه قد كشف الغيب لسيدنا محمد عن ماضي وتاريخ بني اسرائيل
وإفسادهم الأول، ثم كشف له عن الافساد الثاني المرتبط بالمسجد الأقصى، وبشّره بنصرة
الله لعباده المؤمنين.
وللحديث سريعا عن
آيات بني اسرايل في هذه السورة نقول:
· ذكر الله تعالى ان بني اسرائيل ينحدرون من
نسل من حُملوا مع نوح.
· ذكر الله تعالى فساد بني اسرائيل في الأرض
في المرة الأولى بصيغة المفعول أي الذي مضى (وكان وعداً مفعولا).
· بينما ذكر الفساد الثاني بصيغة المستقبل،
اي أن هذا الفساد هو نبوءة مستقبلية سيتحول إلى خبر عيان ويشهده المؤمنون. ونرجو
من الله أن نشهد هذا الحدث ونكون من المشاركين فيه.
· بعد الانتهاء من قصة سيدنا موسى وفساد بني
اسرائيل قال الله تعالى مباشرة (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ليربط قصة فساد
بني اسرائيل مع فاتحة السورة والاعجاز الذي ورد فيها من ناحية الاسراء وليضيف هذه
النبوءة إلى إعجاز حادثة الاسراء.
*الخلاصة: لقد ربط الله سبحانه وتعالى عقائديا بين
المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ووضح ان معجزة الاسراء لا تقتصر على الاسراء بشخص
وجسد سيدنا محمد بل وفي إطلاعه على أخبار الغيب من قصص بني اسرائيل وإفسادهم في
الأرض، وإطلاعه أيضاً على غيب المستقبل وما سيؤول له الوضع في المكان الذي أسرى به
إليه (المسجد الأقصى وما حوله)، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه النبوءة التي اطلع
عليها سيدنا محمد في القرآن الكريم لتكون واحدة من الدلائل على إعجازه*
هذا والله أعلم.
أيمن يوسف أبولبن
10-5-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق