الثلاثاء، 19 مايو 2020

هل أدركنا اخيراً قيمة الحياة؟





وأنتم تقرأون هذا المقال يكون الدوري الألماني لكرة القدم قد عاد إلى النشاط مرة أخرى بعد توقف دام لمدة ثلاثة شهور بسبب الحجر الصحي وإجراءات مكافحة فيروس كورونا.
ورغم أن الدوري الألماني ليس من الدوريات الأكثر متابعة في أوروبا والعالم إلا أنه من المتوقع أن تصل نسبة المشاهدات في اليوم الأول للعودة نحو مليار مشاهدة حول العالم، بالنظر إلى أنه أول الدوريات الأوروبية عودةً للأضواء.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت التلفزيونات الأرضية في المنطقة تنقل مباريات كرة القدم على استحياء حيث ينصب التركيز على البطولات الكبرى مثل كأس العالم وبطولة الأمم الأوروبية أو المباريات النهائية في المسابقات المختلفة.
وأذكر أن التلفزيون الأردني كان يبث مباريات الدوري الألماني بالذات من بين باقي الدوريات الأوروبية، لذا فقد كان هذا الدوري يحظى بمتابعة معظم فئات المجتمع ولم يكن الأمر محصوراً في المهتمين بالرياضة، بل على العكس كان الدوري الألماني حديث العائلات وتلاميذ المدارس وعمال الوطن.
 لم يكن هناك تعصب أو تحيّز أعمى لفريق أو لاعب معين، وكانت مشاهدة الدوري الألماني نوعاً من الترفيه والمتعة بل والبرستيج أيضاً، إذ كنّا حينها نستشعر قيمة الأشياء ونُقدّرها!
وما أن انفجرت ثورة الاتصالات والانترنت والبث الفضائي حتى بات العالم كله يُطلّ عليك من نافذة تلفازك المنزلي، من أمريكا الجنوبية إلى أقصى الشرق مروراً بالقارة العجوز، ونحن مستلقون في بيوتنا بلا عناء منّا ولا تعب، ورغم ذلك تسلّل الملل إلى نفوسنا، وكان يقتلنا روتين الحياة الذي صنعناه بأنفسنا!
كنت في السنوات الأخيرة، وأنا أشاهد مباريات الكرة وأستمتع بمتابعة أفضل اللاعبين التي أنجبتهم ملاعب الكرة، أفكّر في نفسي وأقول في سرّي "الحمد لله على هذه النعمة" الحمد لله على تسخير هذه التكنولوجيا وهذه المحطات الفضائية لإمتاع البشر وتمكينهم من الترويح عن أنفسهم ونسيان ضغوط العمل وهموم الدنيا ولو لبعض الوقت. كانت الآااه التي تنطلق من الحناجر كفيلة برفع الأدرينالين ومدّنا بهرمون السعادة!
عاد بنا الزمن إلى الوراء، ولا يوجد أمامنا اليوم سوى مباريات الدوري الألماني بل وبدون جمهور, ورغم ذلك فإني أراهن أن هذه المباريات ستشهد متابعة عريضة ولن تكون محصورة في عشاق الرياضة فحسب، وأزعم أيضاً أننا بتنا ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى مدى النعمة التي كنا نعيش، لذا فإننا نقول في سرّنا كل يوم، الحمد لله على كل النعم السابقة التي لم نكن نقدّرها.
عندما كنتُ أتساءل في معنى رمضان بالنسبة لي كنت أجيب وبدون تردد: صلاة التراويح، نعم صلاة القيام وما تحمله من ترويح عن النفس والجسد، وما تحمله أيضاً من حالة إيمانية خاصة تسمو بنا فوق كل شؤون الدنيا، هي الصبغة التي تصبغ هذا الشهر بنكهة خاصة مميزة.
وفي رمضان من هذا العام، أدركنا أكثر من أي وقت مضى، بأننا مستعدون للتضحية بالكثير مقابل أن تعود مساجدنا للحياة من جديد، وأن نقف متكاتفين خلف إمام يقرأ بخشوع في ليالي رمضان ويرتّل علينا (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
في الماضي، لم يكن يفصلنا عن أحبابنا سوى مكالمة هاتفية نقول فيها (أنا قادمً إليك)، ورغم ذلك كنا نتثاقل في الوصال واللقاء والاجتماعات.
حين يجمعنا أحد المقاهي في شوارع عواصمنا كنا نرتشف القهوة مع رفاقنا ونلقي النكات ونسترجع الذكريات، ونحرّر أنفسنا من كل المشاعر السلبية، وحين نفترق كنّا نقول لبعضنا من باب المجاملة "سعدنا بلقائكم" ولكنّنا في الحقيقة نكون مشغولين بما تركناه وراءنا من أمور تخص العمل أو المنزل، أو لعلّنا ننشغل بهواتفنا "الذكية" وفي قرارة أنفسنا قلّة قليلة منّا فقط، كانت تشعر بتلك السعادة لمجرد اللقاء!.
كنّا أحرار في التنقل والسفر والتجوال، وقضاء الاجازات الصيفية والتمتع بالطبيعة، والمناظر الخلابة، والذهاب إلى دور المسرح والسينما ومتابعة الفعاليات الثقافية والاجتماعية، ورغم كل ذلك لم يكن يخطر ببالنا أن نتوقف لحظة واحدة للتأمل في الحياة ومعناها، وتقدير هذه النعم، إلى أن حُرمنا منها تماماً، وبات الجزء اليسير من تلك الحريات حُلماً كبيراً وأملاً بعيداً، أقرب إلى المعجزة!
قبل أسبوع تعطّل جهازي الخاص للمشي، وتعذّر عليّ الوصول إلى أحد عمّال الصيانة لإصلاحه، ونظراً لظروف الحجر الصحي والصيام، وإغلاق النوادي الصحيّة، فقد مضى علي أسبوع كامل لم أتمكن فيه من المشي أكثر من المسافة الفاصلة بين غرفة النوم وغرفة المعيشة مروراً بالمطبخ! وأول ما خطر على بالي هو سؤال نفسي، هل سبق أن قدّرت حقيقةً نعمة المشي، ونعمة أن يكون لدي جهاز خاص للمشي في منزلي؟! أشكّ في ذلك!
لا أدري من القائل ولكني أقول بتصرّف، باتت أكبر أمانينا اليوم أن تعود الحياة المُملّة الروتينيّة التي لم نكن نطيق من قبل، لأننا ولأول مرة في عمرنا الطويل، نكتشف القيمة الحقيقية لحياتنا!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
18-5-2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق