تُستخدم عبارة (فاسألوا أهل الذكر) عادةً للاستشهاد
على ضرورة اللجوء إلى علماء الدين في الأمور التي تخص الدين وحصر الاجتهاد أو التدبّر
في هذه الطائفة من المشايخ أو علماء الدين، بل إن معظم البرامج الدينية التلفزيونية
تتخذ من هذه العبارة (المجزوءة من الآية) شعاراً للبرنامج أو عنواناً له. فما مدى
دقة هذا الاستشهاد؟
((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ
فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) (7) الأنبياء
((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) (43) النحل
يجب علينا أن نربط هذا الجزء من الآية
بالموضوع أولاً كي نستطيع إدراك المقصود
بها والعبرة المستفادة من الآية ككل.
هاتين الآتين نزلتا في خطاب لأهل قريش الذين
صدّوا عن دعوة الرسول وطالبوه بالمعجزات وتساءلوا عن عدم نزول ملكٍ (من الملائكة)
بالرسالة من عند الله، فجاءت هذه الآيات لتدعوهم إلى سؤال أهل الكتاب ممن سبق
عليهم نزول الرسالات السماوية (أهل الذكر) عن طبيعة الرسل الذين نزلوا على قومهم،
هل كانوا ملائكة أم من البشر أمثالهم؟ ثم وضّح الله سبحانه وتعالى العلّة والحاجة
للسؤال (بأسلوب تقريعي) بعدم معرفة أهل قريش وجهلهم في أمور الكتاب (إن كنتم لا
تعلمون).
وبهذا يتضح معنى الآية والاستنباط المتاح منها
بمجرد قراءة الآية كاملة، بدلاً من اجتزاء عبارة منها وبناء الاستنباط عليها.
وعلى عكس الاستنباط المجزوء فقد جاء الاسلام
ليهدم مبدأ الكهنوت الذي ابتدعته الأمم من قبلنا، وليؤكد أن العلاقة بين الله
والعبد هي علاقة مباشرة، وأن الفرد أصبح مسؤولاً عن التفكّر في دينه وفي التنزيل الحكيم،
واتباع الصراط المستقيم، والالتزام بالتعاليم الالهية
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه)
(ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكر)
كما حرص الله سبحانه وتعالى على رفع شأن
العلم والعلماء (العلم هنا غير محصور في علم الشريعة والدين)، وحارب كل أشكال
الكهنوت والاستئثار بالمعلومة أو إدعاء أية سلطة دينية امتلاكها الحق المطلق أو
بضرورة إتباع الأفراد لها حصراً دون اجتهاد أو مراجعة أو إبداء رأي.
ومن هنا نقول إن التحديات التي نواجهها في
هذا العصر، وحال الأمة الاسلامية التي تعاني من التراجع الحضاري، يفرض علينا
جميعاً النهوض بمسؤولياتنا وتصحيح المفاهيم الخاطئة ومراجعة كل الموروثات السابقة
ضمن منهج علمي وأسس سليمة لاعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ)
تتكرر في كل عام في رمضان ذات البرامج الدينية
وذات العناوين، وتتكرر فيها ذات الأسئلة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولا تقود
إلى تغيير في التفكير أو التأمل في تحديات العصر أو البحث عن السبب وراء قصور أهل
العلم عامةً وعلماء الدين خاصةً في مواكبة العصر.
والمؤسف أنه عندما يأتي أي مجتهد من خارج إطار
المؤسسة الدينية التقليدية، يتهموه بالزندقة والهرطقة، ويستشهدوا عليه ب (فاسألوا
أهل الذكر)!!
وهم بذلك لا يقابلون الحجة بالحجة ولا يبحثون
عن البينة بل يحصرون العلم بالقرآن وأمور الدين في جماعة معينة تنتمي إلى ذات المرجعية
الدينية، وهو ما قاد الأمة إلى نوع من أنواع الكهانة وحصر العلم بالله والكون في جهة
وسطية تفصل بين الله وعباده.
ولكن هل يعتبر هذا دعوةً إلى الفوضى في
التدبّر في القرآن والبحث في الأحكام الشرعية، أم أن هناك ضوابط للتدبر والاجتهاد
يجب الالتزام بها؟ سنناقش ذلك في المنشور القادم بإذن الله.
*الخلاصة: التدبّر في القرآن وطلب العلم هو
فريضة على كل مؤمن عاقل، ودرجة العلم تتفاوت من شخص لآخر حسب سعيه واجتهاده وإخلاصه
في النيّة والتوفيق من الله، وعلى العالِم والمتدبّر في الدين قبول الرأي والرأي
الآخر ورد الحجة بالحجة والدليل بالدليل، وألاّ يكون مثالاً لأهل الأمم السابقة الذين
جمّدوا عقولهم في النقل عن أسلافهم*
(وقل ربِّ زدني علماً)
هذا والله أعلم.
أيمن يوسف أبولبن
5-5-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق