*آيات استوقفتني 4 (11) شُبهة الأحرف السبعة*
لاحظت قبل عدّة سنوات أن إمام جامع الحي الذي يؤمّنا في الصلاة يقرأ في الفاتحة الظآلين بدلاً من الضآلين، ولكني لم أردّه في الصلاة ولم يردّه أحد من المصلّين كذلك لأننا نعلم أن لهجته غلبت عليه، ولكنه يعلم أن اللفظ الصحيح والوارد هو (الضآلين) وليس الظآلين.
ولكن في اللحظة التي ترى فيها أحداً يكتب آيات الكتاب كما يلفظها وليس كما حُفظت في نسحة المصحف الشريف فإنك لن تتردد في أن تبدي اعتراضك وتصحّح خطأ الكتابة.
عندما نما إلى مسامع سيدنا عثمان أن المسلمين في الأمصار المختلفة يقرأون بعض آيات المصحف حسب لهجتهم، بل بدأوا بنسخه على الصحف وتدارسه على لهجاتهم، استشعر الخطر الكبير على كتاب الله وقام على الفور بتكليف زيد بن ثابت بنسخ عدة نسخ من المصحف الشريف الذي تم جمعه في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ثم انتقل إلى عهدة الخليفة عمر بن الخطاب وبقي في عهدة السيدة حفصة بنت عمر (أم المؤمنين) من بعده.
وزيد بن ثابت هو كاتب الوحي الرئيس في حياة سيدنا محمد، وهو من أشرف على جمع القرآن بتكليف من سيدنا أبي بكر، أي أنه اعلم الصحابة بالتنزيل وكتابة الوحي من سيدنا محمد مباشرة، وهو من قام بالاشراف على جمع القرآن.
وبعد أن أتمّ زيد من ثابت المهمة بنجاح قام سيدنا عثمان بتوزيع نسخة من المصحف الشريف إلى كل والي من أولياء المسلمين مصحوباً بمرسوم أميري يقضي بجمع جميع الصحاف المتداولة لآيات الكتاب وحرقها جميعاً، وطلب من الولاة اعتماد الرسم الموجود في المصحف الشريف والذي عرف بعد ذلك بالرسم العثماني، وهو الموجود اليوم بين أيدينا.
ملاحظة: إحدى نسخ الرسم العثماني الأصلية موجودة في متحف الباب العالي في اسطنبول كاملة وسليمة إلى يومنا هذا، إضافة إلى خمسة مصاحف نسخت يدوياً في نفس الفترة.
ولكن على ما يبدو فإن بعض الصحف المتناثرة هنا وهناك لم يتم مصادرتها، كما استمرت قراءة بعض الملسمين على لهجتهم المحلية خصوصاً مع الاعتماد على المشافهة وانتشار الأمية.
وبعد قرون من الزمن وبعد انتشار علوم القرآن والفقه والمدارس المختلفة ظهرت هذه الصحف القديمة التي اكتسبت بُعداً تاريخياً لأنها من زمن الصحابة الأوائل أو التابعين على أقدر تقدير، وهنا حصل الخلط وظهرت نظرية نزول القرآن على لهجات مختلفة اتفق العلماء حينها على انها سبعة أحرف.
وتقول هذه النظرية أن جبريل عليه السلام قرأ الآيات على قلب سيدنا محمد بلهجات عصره تخفيفاً على المسلمين وأن سيدنا محمد قد قرأ بالفعل هذه الآيات على قراءاتها المختلفة بل وسمح لكتبة الوحي بتدوينها بهذه القراءات!!!
ورغم عدم منطقية ولا عقلانية هذه النظرية إلا أننا وفي القرن الواحد والعشرين ما زلنا نستمع لعلماء الدين الذين يصرّون على ذكر اختلافات القراءات بل وعقد دورات تحفيظ للقرآن على حرف فلان وعلان مصرّين أنها جميعها صحيحة وواردة عن الوحي!!
وهذا القول هو مخالف لنص القرآن الكريم بل هو تعدٍ سافر على قدسية النص، وطعن في مسلّمة حفظه من الله تعالى (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون)
لاحظوا معي:
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فليس المطلوب من الرسول أن يتقن اللهجات واللغات المختلفة من أجل الدعوة، وهذا ما وثّقه الله سبحانه وتعالى عن سيدنا موسى على لسان فرعون حين وصفه بالقول (ولا يكاد يُبين) فسيدنا موسى لم يكن يتقن لغة المصريين القدماء (والتي وصلتنا عن طريق الكتابة الهيروغلوفية) ولكنه يتقن اللغة العبرانية لغة قومه، وهذا من أسباب طلبه الاستعانة بأخيه هارون (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) القصص 34
أما عن التنزيل الحكيم فقد ذكر الله سبحانه وتعالى بمنتهى الوضوح:
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء 193-195
واللسان هنا تعني اللغة، لأن لفظ اللغة استخدم في فترة متأخرة، والدليل هو:
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)الروم 22
ونفهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار اللغة العربية كوعاء لاستيعاب التنزيل الحكيم، وأنه اصطفى لهجة قريش (قوم سيدنا محمد) لينزل الوحي بها.
ولهجة قريش هي أرقى وأنقى اللهجات العربية وهي الطاغية على باقي اللهجات، حيث كان يستخدمها الشعراء لنظم الشعر لأنها الأكثر تداولاً كما أنها اللهجة المعتمدة في المواسم الثقافية (سوق عكاظ مثالاً) والمواسم الدينية (موسم الحج) وبالتالي فقد أصبحت لغة العرب المركزية.
بل إن الله سبحانه وتعالى كان دقيقاً جداً في وصف صفة التنزيل بلهجة ونطق سيدنا محمد بالذات، لإزالة أي شكوك (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)
ونحن نتساءل ألم يكن من باب أدعى ان تعترض قريش على سيدنا محمد وتتهمه بتأليف الكتاب بل وتحريفه وتغييره إذا ما قرأ الآيات بلهجات مختلفة ونطق يتغير باستمرار؟! ولماذا لم يذكر لنا الله سبحانه وتعالى هذه التهمة إن كانت قد حصلت و لماذا لم ترد كذلك في كتب السيرة؟
ومن جهة أخرى، لقد وضّح وفصّل لنا سبحانه وتعالى كل ما يتعلق بالتنزيل والوحي وصفة الكتاب وحفظه، ألم يكن من باب أولى أن يذكر لنا الله أنه أنزل الوحي بألسن مختلفة مراعاة لنا إن صحّ ذلك.
وعندما يتعهد الله بحفظ الكتاب فعلى أي حرف حفظه؟ ألا يعتبر اندثار القراءات وحرق المسلمين الأوائل للصحف غير المتوافقة مع النسخة الأصلية تعديّاً على الوحي وتحدياً للوعد الالهي بحفظ التنزيل (إن كان قد نزل بعدة أحرف)؟!
على كل مسلم مؤمن الايمان التام بان المصحف الشريف بلفظه، ورسمه، وترتيب سوره، وترتيب آياته، ومواقع النجوم (الفواصل بين الآيات)، وأسماء السور، جميعها وحي من الله سبحانه تعالى وهي وقف لله تعالى محفوظ برعايته، ولا يقبل الشك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)
(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
وهناك العديد من الأدلة الواضحة على دقة رسم المصحف وتمييزه اللفظ عن طريق الكتابة، أذكر منها أمرين على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: وردت كلمة العلماء برسمها تحمل لفظها الصحيح كما نزل بها الوحي دون داعي إلى تشكيلها فوردت في رسم المصحف كما يلي:
(إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟) أي بكتابتنا المعاصرة: العلماءُ
ثانياً: ميّز رسم المصحف بين لفظ الصلاة كشعيرة (الصلوة)
(لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ) (والذين هم على صلواتهم يحافظون)
وبين الصلاة من الصلة والقرب من الله
(الَّذِینَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ)
هذا والله أعلم.
أيمن يوسف أبولبن
22-5-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق