(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
الحجرات 6
ينبغي فهم كلمات (جاء، فاسق، نبأ، فتبيّنوا)
كي نفهم المراد من هذه الآية ونستنبط الحكم العام حول التوثّق من المعلومات
المتناقلة والمتداولة بين الناس، وهل علينا التحقّق من الأخبار بالنظر إلى مصدرها
فقط؟
في الحقيقة فإن هذه
الآية تم اعتمادها من قبل العلماء كسند لمراجعة سند الأحاديث من حيث الراوي
والتحقق من عدله، ولكنها أغفلت متن الحديث ذاته وضرورة التحقق من صحته.
جاء وأتى، الخبر والنبأ
في القرآن الكريم يستخدم الفعل (جاء) ليفيد خارجيّة
المصدر، فعندما تقول جئتك، أي جئت لك بشيء أو معلومة من مصدر خارجي وليس من عندي. فالمرء يأتي
بالشيء من دائرته، ولكنه يجيء بالشيء من دائرة أخرى.
(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)
آتيتموهن هنا: أي أعطيتموهن من أموالكم
الخاصة
النبأ: هو المعلومة غير المتحقق منها بعد،
وهي من أصل (نبوءة) فهي معلومة جديدة وحين تتحقق تصبح خبراً.
(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) أي أن كل الأنباء
التي أوردها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم سوف تتحقق وسوف نعلم عنها فتدخل
في ضمن دائرتنا المعرفية وحينها (تستقر) أي تصبح أخباراً.
لاحظوا معي:
(أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ
يقين)
أحطت بما لم تُحط به: علمتُ ما لا تعلم
(وجئتك) وأنقل لك من سبأ (بنبأ) هذه المعلومة
الجديدة التي لا تعرف عنها (يقين) ولكني تحققت منها بنفسي
من هو الفاسق
الفسق في اللغة من الخروج أو الاتفصال
وتستخدم في مجال الخروج عن طاعة الله وأوامره (حتى لو مؤقتاً) أو عن المألوف أو عُرف
المجتمع
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
فهنا الفسق لا يعني الكفر ولا يعني دوام
المعصية، بل يعني عدم الالتزام بأصول الشهادة، لذلك كان من الضروري عدم اعتبارهم
من الثقات الذين يصلحون لادلاء الشهادة في المستقبل.
أما كلمة تبيّنوا فتعني التحقّق
(من بعد ما تبيّن لهم الحقّ)
(حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود)
وبهذا نستطيع القول إن المعنى الاجمالي للآية
يصبح كما يلي:
(يا أيها الذين آمنوا بمحمد واتبعوه، إن
جاءكم شخص غير موثوق بمعلومة منقولة لا تعلمون شيئاً عن مصداقيتها، فتحقّقوا منها
قبل أن تتداولوها أو تنشروها كي تدرءوا عن أنفسكم أن توقعوا الضرر في شخص أو جماعة
من حيث لا تعلمون)
وبهذا يدخل فعل تناقل الإشاعات والأخبار
الزائفة والكاذبة ضمن باب المنهيات الالهية بنص القرآن.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل التحقّق
مشروط بورود الخبر عن طريق شخص غير موثوق فقط؟
في الحقيقة فإن القرآن الكريم جاء دقيقاً
جداً في الأحكام وفصّلها بين محرّمات ونواهٍ وأوامر ووصايا إنسانية، وفي هذه الآية
جاء الأمر الصريح بوجوب عدم نقل الأنباء عن مصادر غير موثوقة، ولكنه في ذات الوقت نهى
عن التعامل مع المعلومات التي لا نعلم مصداقيتها أو إتباع أي منهج أو رأي دون ان نعيه
ونتحقق منه
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْئُولًا) الاسراء 36
وهذا جاء ضمن باب الحكمة التي وضّحها لنا
الله سبحانه وتعالى في كتابه:
(ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ
مِنَ الْحِكْمَةِ) الاسراء 39
*الخلاصة: أعطى الله سبحانه وتعالى المؤمن المرونة
الكافية بالتعامل مع الأشخاص والمصادر الموثوقة دون إسقاط المسؤولية في حال كانت الأنباء
أو المعلومات المتداولة غير صحيحة، حيث أن كل إنسان يتحمل مسؤولية التحقق من
المعلومة سواء كانت من مصدر موثوق او غير موثوق.
وفي حالة النقل عن مصدر مشكوك به او غير
موثوق فأنت تقع في الإثم مباشرة، ويضاف لذلك الاساءة الشخصية إذا حصلت لأحد*.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى التوقّف مليّاً
عند هذه الآيات واستشعار مدى خطورة تناقل الاشاعات والأخبار الكاذبة وما يدّعي
أصحابها أنها مؤامرات حيكت في الظلام دون دليل أو أدنى تحقّق من المعلومة ويثيرون
بذلك النعرات أو المخاوف وينشرون الفساد في الأرض من حيث يدرون أو لا يدرون.
وأعلموا أخواتي وإخواني أن العبارة الخجولة على
شاكلة (على ذمة الراوي أو كما وصلني) لن تدفع عنك الإثم أو تحمّل المسؤولية، لأن
شرط التحقّق في الآية جاء بصيغة الأمر (فتبيّنوا) والنهي (لا تقفُ).
هذا والله أعلم.
أيمن يوسف أبولبن
13-5-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق