من أكثر الآيات
اختلافا في التفسير بين العلماء هي التي وردت في صيغة (مصدقاً لما بين يديه) أو (تصديقاُ
لما بين يديه)، حيث أشار المفسرون القدماء أن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد جاء
مصدقا للكتب السابقة (التوراة والأنجيل) واستكمالا لها، أي أن المقصود ب (بين
يديه) بين يدي سيدنا محمد في عصره من الانجيل والتوراة، وهذا التفسير غير دقيق،
كما أنه لا ينطبق على جميع الآيات كما ورد في التفسيرات.
وبعد البحث أيضاً في
القراءات المعاصرة والتفسيرات الحديثة، كان هناك أيضاً تناقض واضح في الاجتهادات،
ومحاولة تعميم تفسير واحد على جميع الآيات رغم اختلاف المواضيع والصيغ والقصد
منها.
في هذا البحث
المتواضع محاولة لفهم الآيات حسب المنهجية التي اعتمدناها، من خلال استعراض الآيات التي وردت فيها هذه العبارات وتحليلها
كليّة وربطها بمجمل الموضوع.
وقد توضح لنا أن
الله سبحانه وتعالى قد استخدم هذه العبارات للدلالة على معان مختلفة حسب واقع الحال،
كما هو موضح أدناه:
الحق
ومطابقة الوقائع:
(الم * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران
في البداية الحديث هنا عن الله سبحانه وتعالى
وتنزيله للكتاب على قلب سيدنا محمد "بالحق مصدّقاً لما بين يديه". ومن
الضروري توضيح أن ضمير (يديه) هنا لا يعود بأي شكل من الأشكال على سيدنا محمد لأنه
هنا هو المخاطب (عليك) ولا على سيدنا جبريل لأنه غير مذكور وقد نسب الله فعل
التنزيل الى إرادته ومشيئته الالهية، وبالتالي فإن بين يديه هنا تعود إلى الكتاب
نفسه، فالكتاب (كل الكتاب بموضوعيه الرئيسين النبوة والرسالة) قد جاء
"بالحق" أي أنه جاء مصدقاً ومتطابقاً مع الواقع والحقائق المعاصرة
والمتجددة، ومتفاعلاً معها أيضاً فالكتاب ليس كتاباً مجرداً بل هو كتاب تفاعلي مع
الأحداث والوقائع وليس معزولاً عن الذات البشرية ومن هنا فهو يكتسب صفة المصداقية
المتجددة مع الواقع.
وهذه الآية تحمل ذات المعنى أيضاً:
(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97
والضمير هنا يعود إلى الكتاب أيضاً وليس إلى
جبريل كما ذهب البعض.
تصديق النبوءات السابقة:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
المائدة 48
في هذه الآية يتضح هناك
معنىً جديداً يُضاف إلى ما سبق، فالكتاب الذي نزل على سيدنا محمد
جاء مصداقاً للنبوءات الحاضرة في الكتب السماوية الأخرى والتي بشّرت بنبي آخر
الزمان، فهو من هذه الزاوية أيضاً جاء لاثبات تلك النبوءات واستمراراً لدين الله
الواحد من ناحية الأحكام (الرسالة) مع اختلاف الشرائع أي العبادات والشعائر.
وبما أن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد فيه
اكتمال للرسالة وفيه وصلت الأحكام إلى شكلها النهائي فإن هذه النسخة من الكتاب
(الأحكام) هي المهيمنة والمسيطرة على ما سبقها فيما يخص التشريع الانساني والسلوك
وليس من ناحية الشعائر التي تركها الله سبحانه وتعالى لأصحاب الرسالات السماوية
كما هي (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)
فالاختلاف في الشعائر لا يجب الالتفات إليه أو
محاولة تغييره، فهو يدخل من ضمن باب حرية العبادة المكفولة للأفراد، بينما على الدولة
أو السلطة العمل بما ورد في الرسالة المحمدية من حيث الحرام والأوامر والنواهي
والوصايا وهي الكفيلة بضبط المجتمع بصفته المدنية فيما تبقى الشعائر مكفولة ضمن
باب حرية العبادة وهذا هو شكل الدولة الاسلامية المطلوب.
وهذه آية أخرى تحمل ذات المعنى:
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا
كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ألأحقاف 30
النبوّة وتصديق الرسالة:
(وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ
يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يونس 37
هنا نلاحظ الفرق في استخدام مفردة القرآن،
وكما تحدثنا سابقاً فإن القرآن هو كتاب النبوّة ويحتوي على حقائق الكون والطبيعة
والغيبيات والقصص، وهو بهذا يحمل صفة الاعجاز التي تثبت أن مصدره هو الله سبحانه
وتعالى خالق هذا الكون والعالم بأسراره، ولهذا كان القرآن معجزة سيدنا محمد.
لهذا
فإن القرآن ذاته يكون دليلاً على صدق هذه الرسالة المحمدية والأحكام والمنهج الذي
جاءت به
(كتاب الأحكام أو الرسالة)، لأن الرسالة والأحكام الواردة فيها لا تحمل صفة الاعجاز
بذاتها وإنما بكونها جزء من الكتاب ككل، وبهذا يكون القرآن وحسب فهم هذه الآية هو
الدليل على وجوب تصديق ما بين يديه من الرسالة (الأحكام) والعمل بها.
ولهذا يقول الكافرون وحسب نص الآية التالية أنهم
لن يؤمنوا لا بالقرآن المُعجز (النبوة) ولا بالأحكام الواردة معه في الكتاب (الرسالة).
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَٰذَا
الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) سبأ 31
وهذه الآيات تحمل ذات المعنى أيضاً:
(وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا
ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) والحديث هنا عن القرآن (كتاب لأنه جزء من الكتاب وليس
كله)
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ
الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ
بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) القرآن – من الكتاب
وهذه إجمالاً المعاني المختلفة التي حملتها هذه
العبارة والتي تنوّعت حسب واقع الآيات، وباقي الآيات الواردة والتي لم أذكرها تحمل
واحداً من هذه المعاني.
هذا والله أعلم.
أيمن يوسف أبولبن
20-5-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق