صدق المثل القائل (شرُّ البليّة ما يُضحك)، فعندما يُصاب
الإنسان بالأرق والقلق، ويشعر بالغمّ والهمّ لمُصابٍ أصابه، يكون حينها في طور
التفاعل مع مشكلته وبلواه، باحثاً عن مخرج مؤقت، أو حلٍّ دائم، ولكن حين يصل هذا الإنسان
إلى مرحلة السخرية من واقعه والضحك على مصائبه، بل وإطلاق النكت، فإنه يكون قد
تخطّى مرحلة التفاعل والبحث عن الحلول، وانتقل الى مرحلة اليأس من التغيير، ثم لم
يجد سبيلاً سوى التعايش مع واقعه والقبول به، بل التخفيف من وطأته بالسخرية والضحك
على الذات، بعد أن يكون قد رفعَ الراية البيضاء!
لم يكن تفاعل الأردنيين الساخر مع واقعة السطو المُسلّح
على أحد المصارف في منطقة عبدون، وما تلاها من واقعة مشابهة في منطقة الوحدات، من
باب التعاطف مع السارق أو قبولاً بمنطق البلطجة والتهديد بالسلاح وسرقة مال الغير،
فهذه ليست من أخلاقنا ولا شيمنا، ولكنه يندرج تحت إطار تخفيف وطأة الواقع بإسقاط
بعضٍ من الكوميديا السوداء عليه، ومن استنتج غير هذا فقد أخطأ في التحليل، فهي
ليست محاولة "سَمِجة"
لخفّة الدم، ولا تعاطفٍ مع السارق كما أراد البعض أن يصوّره (بل ربما آثر تصويره
كذلك)؛ لقد ضاق الشعب الأردني ذرعاً بالواقع المعيشي الصعب، وبتكرار سماع نفس الوعود
من المسؤولين بتطبيق حزمة من الإصلاحات لإنعاش اقتصاد البلد وتحسين مستوى المعيشة،
والتي سرعان ما ينتهي بها المطاف الى مجرد وسيلة جديدة للجباية من المواطن الغلبان
الذي تقتصّ الحكومات المتعاقبة من جيبه ومصدر رزقه لحل المشكلات التي فشل المسؤولون
من أهل الاختصاص في إيجاد حلول لها (رغم أن واجبهم الوظيفي هو إيجاد تلك الحلول)،
ولم يتبق في ظنّي سوى أن تقتطع الحكومة جزءاً من لحم ودم المواطن مثلما فعل أو كاد
يفعل "تاجر البندقية"
المُرابي اليهودي!
لقد رأى المواطن الأردني في السارق الذي حاول السطو على
البنك رجلاً فاشلاً يصلح للسخرية لأنه اقتحم مجال السرقة دون إعداد أو تخطيط بل
إنه لم يحاول تغطية وجهه معتقداً بأنه سينضم فوراً الى قائمة الأغنياء وأبناء
الطبقة المخمليّة، وكأنه شاهد للتو فيلما هندياً عن سرقة البنوك وظن أنها أسهل
طريقة للكسب.
وفي نفس الوقت تندّر معظم المواطنين على المفارقة
الكبيرة بين هذا السارق "السنفور
أو المبتدئ" وحال حيتان البلد الذين لم تسلم
منهم قصعةٌ أو باب رزق أو مجال استثمار ولم يحصل أن قُبض على أحدهم، ولم يسبق أن
أُعلن عن اقتصاص العدالة منهم أو استرجاع أموال البلد المنهوبة رغم الإعلان عن
العديد من السرقات والتجاوزات والتحايل الضريبي من قبل مسؤولي الحكومة أنفسهم، ففي
الوقت الذي تحوّل فيه هؤلاء السارقين الى أشباح لا ترصدهم الكاميرات ولا الرادارات،
تم القبض على هذا السارق خلال ساعة واحدة واسترجاع المبلغ المسروق. ألا يدعو هذا
الى السخرية!
هناك نقطة مهمة في رأيي غابت عن المسؤولين والمُحلّلين
الذين تناولوا موجة السخرية، وهي صورة البنوك التي بدأت ترتبط في مخيّلة المواطن
الأردني بأدوات الدَيْن، أو لنقل أنها ترسّخت في عقله اللاواعي كأداة للجباية
وتحصيل الأموال بأي طريقة كانت حتى لو كانت غير مُسوّغة أو مقبولة من العملاء، تماماً
كالحكومات المتعاقبة، فالمواطن اليوم يشعر أنه ليس مستهدفاً لتحصيل الأموال من قبل
الحكومة فقط، بل ومن قبل الشركات الخاصة، البنوك وشركات الاتصالات وغيرها، لذا لم
تعد هذه المؤسسات تمثل داعماً للنشاط الاقتصادي أو رافداً للمجتمع المحلي (على
الأقل في ذهن المواطن) بل أصبحت تُعنى بتحصيل الأموال وتحقيق أرباح خيالية على
حساب خدمة المواطن والمجتمع بل ودون تقديم خدمة ذات مستوى عال ومنافس.
لذلك رأينا أن
تعامل البعض مع حالة السطو على البنوك جاء مختلفاً تماماً عن حالات أخرى مشابهة،
لأن المواطن "لا شعورياً"
يتعامل مع البنوك كواجهة تُخفي وراءها جشع أصحاب الأموال، وتتحيّن الفرص لفرض
العمولات والغرامات والفوائد المُبالغ بها، على حساب العميل، الذي يُفترض في
الأساس أن يُقدّم البنك له التسهيلات والخدمات التجارية وأن يحرص على مصالحه كشريك
في العملية، وليس بصفته مُستهدفاً.
لقد طبّقت الحكومات الأردنية توصيات صندوق النقد والبنك
الدوليين وعملت على خصخصة المال العام وثروات البلد منذ عام 2011 إلى يومنا هذا بحُجّة
تحسين إدارة الثروات وزيادة الأرباح مع تخفيض الإنفاق الحكومي، ولكن الحقيقة أن كل
هذه الخطوات عادت بفائدة على مجموعة صغيرة من المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال فيما
أضرّت بالمصالح العامة وأثّرت مباشرة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كما ترافقت
هذه الخطوات بشبهات فساد كثيرة، وأدّت في النهاية إلى ازدياد الهُوّة بين الفقير
والغني.
المُفارقة هنا، أن الدَيْن العام ما زال في ازدياد،
والضرائب إلى ارتفاع، في حين يهوي مستوى دخل الفرد الى الحضيض، رغم كل تلك
الإجراءات التصحيحية القاسية، التي لا يدفع ثمنها سوى المواطن البسيط!
إن موجة السخرية التي ترافقت مع عمليات السطو لا يوجد
لها سوى تفسير واحدٌ وهو مخيفٌ لمن يعتبر: لقد يأسَ المواطن من تغيير الأحوال رغم
كل المسيرات والاعتراضات والمظاهرات، ورغم كل الوعود الإصلاحية وتغيير الحكومات
وتعديل قانون الانتخاب، وحزمات الإصلاح السياسي والاقتصادي وأوراق العمل وضجيج
المؤتمرات، بل رغم كل النداءات والاستغاثات والاختلاجات والعبرات والتنهدات، فهل
من مُدّكر؟!
أخيراً، خطر لي وأنا أكتب هذه السطور، أحد مشاهد مسرحية
"غُربة"
حين يتسامر "غوّار الطوشة"
مع موظف الاستقبال في "الأوتيل" الذي ينزل فيه، ويتبادلان بثّ الشكوى والهموم، فيقفُ
الموظف مستعرضاً "البالطو" الطويل الذي يرتديه ويسألُ نديمَه: ألم تسأل نفسك
يوماً لماذا أرتدي هذا "البالطو" الطويل، في كل يوم، صيفاً شتاءً؟! ألبسه كي أستر الخِرَقَ
الرثّة والممزقة التي أخفيها تحته، والتي أبدو فيها مشرّداً شبه عارٍ!
الحكومة من جهتها تُصرّ على رؤية المواطن الأردني، مرتدياً
"البالطو"
الطويل وربطة العنق، وترفض الاعتراف بالمواطن "المُسخّم" (ما في أردنيين مسخّمين) قال رئيس الوزراء قبل
أيام، في حين يخجل المواطن من خلع "البالطو"، ويؤثر أن يُخفي "المواطن
المُشلّح". وإني أخشى أن يهرب ذلك "المُشلّح"
من صاحبه ومن الحكومة، ويصبح خارج نطاق السيطرة!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-1-2018