الربيع العربي والتغيير القادم (2)
إن التغيير الاجتماعي يصاحبه بالضرورة، حالة
مؤقتة من الاختلال وعدم التوازن، نتيجة التغير المفاجئ والحاد في المفاهيم
والفرضيات، ولكن الأمور تعود للاستقرار رويداً رويداً مع كل خطوة يخطوها المجتمع
في الاتجاه الصحيح. تماماً كما يحدث عندما نقوم بتغيير جهة العمل على سبيل المثال،
أو الانتقال إلى مسكن جديد، حيث تكون هناك فترة انتقالية Transition Period تختل فيها الأمور، ويساورنا
فيها القلق، ثم تبدأ الشكوك بالتسّرب إلى نفوسنا، ولكن مع مرور الوقت نبدأ بجني
ثمار التغيير، ونتمكن في النهاية من عبور هذه المرحلة، ثم ندرك حينها أنها كانت
محطة ضرورية للوصول إلى الهدف رغم ما تحمله من قلاقل، ثم ما نلبث أن نتندّر عليها
في قادم الأيام.
صحيح أن ظاهر الأشياء يوحي بأن الأوضاع في عالمنا العربي
في أسوأ أحوالها بعد ثورات الربيع العربي، إلا أن من يراقب الحركة العميقة للأحداث
يدرك أن القادم أفضل مما مضى، فالتاريخ ماضٍ نحو الأفضل دوماً. عبرت موجة
من الانتفاضة الشعبية دون أن تحقق الأهداف المرجوّة، ولكن سيتبعها موجات إلى أن
تتحقق كل مطالب الشعوب المشروعة: صون حريات الرأي والتعبير، تحقيق العدالة
والمساواة، والعمل على إعلاء شأن المواطن وصون كرامته.
مع
حركات الربيع العربي، ازداد إيمان الشعوب بحقوقهم، وازداد إصرارهم على تحقيق شروط العدالة
الاجتماعيّة، لم يعد مُجدياً القبول بأنصاف الحلول أو الركون إلى التسويفات والكلام
المعسول.
لم
يكن من المعهود قبل أعوام أن نشهد مطالبات علنيّة لمحاسبة الفاسدين وملاحقتهم، أو
المُجاهرة بالاختلاف مع توجّه السلطة ونقدها في العلن، ناهيك عن المطالبات بإصلاح
النظام او تعديل الدستور ... الخ قائمة المطالبات.
لقد
ارتفع سقف الطموحات والآمال، وارتفع سقف الحريّات، رغم كل الحالة الضبابيّة التي
نراها، مساحة التعبير اتسعت، وتطوّرت أدواتها وارتقت لتواكب هذا التصاعد، أصبح
هناك حوارٌ ونقاش علني وتبادل للآراء عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي والاعلامي،
أصبحنا نطرح قضايا كانت تعتبر من التابوهات المحرمة. بل إن وسائل الإعلام بدأت
بتخصيص برامج خاصة ومساحات واسعة لتعبير الأفراد عن آرائهم ومتابعتها للقضايا التي
تشغل المنصات الاجتماعية. صحيح أن تكنولوجيا العصر قد ساهمت بذلك، ولكن الصحيح
أيضاً أن المطالبات الشعبية واستغلال النشطاء لمنصات العالم الافتراضي قد فرضت هذا
الأمر أو على الأقل سارعت في وتيرته.
هذه
الحالة من التغييرات الإيجابية لم تكن ممكنة بدون الاحتجاجات التي حصلت والثورة في
المفاهيم التي رافقتها. وللأسف فإن البعض يستخدم هذا الفضاء الجديد من الحريات
ليهاجم حركات الربيع العربي، التي لولاها لاستمرت حالة الكبت وتكميم الأفواه
والرقابة وعنجهية المسؤولين، على ما هي عليه!
ألا
ترون معي، أن بيوتنا قد اختلفت من الداخل، وأن أساليب تربيتنا قد اختلفت، حيث بتنا
نحترم الاختلاف ولا نمانعه، نتقبل النقد ونعزّز من آليات الحوار ومحاولات إثراء
النقاش وإعلاء قيم الحرية الشخصية.
بل
إن التغيير وصل إلى داخلنا، لقد تغيرت نظرتنا إلى الأمور وأصبحنا على يقين بأننا
لا يمكن أن نستمر في العيش على هامش الحياة، ولا أن نبقى أحجاراً على رقعة شطرنج، أو
مجرد أرقام في سجلات الدولة!
من
فوائد الربيع العربي الأخرى أنه عرّانا امام أنفسنا، وأجبرنا على التعامل مع
مشكلاتنا التي حاولنا التهرّب منها عبر السنين الماضية، وكنّا نؤجل النظر فيها لعل
الزمن يتكفل بها ويريحنا من عبء حلّها!
باختصار،
لقد فجّر الربيع العربي في وجهنا كل مشاكلنا المُزمنة، ولم يترك لنا سوى خيار
التعامل معها، فإما أن تقضي علينا او نقضي عليها!
أصبحنا ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن كل من
يدعو للفتنة والطائفية والعصبية هو سرطان ينخر فينا من الداخل لا يقل خطورةً علينا
من العدو الخارجي، وأنه لم يعد بالإمكان التساهل مع التطرّف في الفكر والتشدّد في
الدين او السكوت عنه. صحيح أن الدرس كان قاسياً علينا جميعاً، ولكني أجزم أننا
تعلمنا هذا الدرس جيداً، وبتنا أكثر قناعةً من أي وقت مضى بضرورة إجراء مراجعة
شاملة لكل مواريثنا ومفاهيمنا المغلوطة.
ومن
جهة أخرى، لقد فضحت موجات التغيير والحركات المضادة لها، المتخاذلين والمنافقين من
سياسيين ومفكرين وإعلاميين ومشاهير، وكشفت لنا وجوههم القبيحة التي كانوا يخفونها
تحت أقنعتهم الجميلة لعقود من الزمن، وكنّا للأسف نحتفي بهم ونصدّقهم!
يا
سادة، لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، ولن يعود العالم العربي كما عرفناه قبل
الربيع العربي. لقد نجحت الموجة الأولى من الربيع العربي في نقل فكرة التغيير إلى
داخل كل واحد فينا، ودفعتنا للتسليم بحتميّته، بعد أن أزالت الغشاوة عن عقولنا فأدركنا
حجم المأساة التي كنا نعيش!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
30-12-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق