يتكرر الجدل غالباً بعد رحيل إحدى الشخصيات السياسية العالمية،
حول الإرث التاريخي لتلك الشخصية، ويتفاوت المقال عادة بين مؤيد للنهج مادح للنتائج،
وبين مُعارض للسياسات وناقد للعقيدة السياسية.
جورج بوش الأب لم يكن استثناءً لهذا الجدل، فقد انقسمت
الآراء بعد اعلان نبأ وفاته، بين من يرى انه كان جندياً شجاعاً ورئيساً "لطيفاً"
خدم رؤية بلاده السياسية وساعد على نشر الديمقراطية في العالم. وبين من يرى أنه قد
ساهم في تشكيل سياسة أمريكية متطرفة تتخذ من القوة أداة رئيسية لتنفيذ أجندات
لوبيات الشركات العملاقة ورجال الأعمال.
ونظراً لما شهدته وسائل الاعلام الدولية والعربية من تغطية
واسعة للسجل الشرفي والإنجازات التاريخية لبوش الأب، فإني أود ان ألقي الضوء على
ما عاصرته من أحداث في ولاية بوش الأب، وما اتسع لي المجال من الاطلاع عليه بعد
ذلك، رغبة مني في تشكيل الصورة الكاملة عنه أمام القارئ.
عُقدة الوهن عند بوش
عُرف عن جورج بوش تردّده وبلادته إن صح التعبير خلال
فترة نيابته لرونالد ريغان، وحين قفز الى كرسي الرئاسة عام 1989 كان التحدي الأكبر
أمامه محو تلك الصورة التي وصم بها من خلال الإعلام، خصوصاً بعد تداول مصطلح (عقدة
الوهن عند بوش the Bush
wimp factor).
ومع أول
اختبار للقوة، تجاوز بوش كل الديبلوماسيات وشعارات (نريد أمريكا لطيفة) ليأمر بغزو
دولة "بنما" الضعيفة بحجة إرساء الديمقراطية والتخلص من الطاغية الحاكم
(نورييغا).
نورييغا لم يكن سوى أحد الطغاة الذين تحبهم الإدارة الأمريكية،
لأنهم وحدهم قادرون على قمع اليساريين ووقف المد الشيوعي دون أدنى التفات لحقوق
الانسان أو مبادئ الديمقراطية والحريات (ذات الشعارات الأمريكية)، وبسبب فسادهم
وإجرامهم فإنهم يصبحون ألعوبة في أيدي المخابرات الأمريكية ويكونون أول من ينصاع
ويخضع للسياسة الأمريكية، في مقابل حصولهم على الحماية وغض الطرف عن طغيانهم.
كل ما
فعلته "بنما" أنها تحدّت اللوبي الحاكم في أمريكا (حفنة من السياسيين ومدراء
الشركات) حينما أصرّت على حقها في بناء قناة جديده بالتعاون مع شركات يابانية، وهو
ما يعتبر مساساً للقيمة الاستراتيجية العليا لقناة بنما والتي تشرف عليها شركات
أمريكية.
غزو "بنما" حسب مجموعات حقوق الانسان أسفر عن مقتل ثلاثة الى خمسة
آلاف بالإضافة الى تشريد نحو ربع مليون شخص، وقد أُعتقل
(نورييغا) ومَثُل أمام محاكم الدولة الغازية، وحُكم عليه بالسجن أربعين سنة، تنقّل
خلالها بين سجون أمريكا وفرنسا ثم "بنما"، قبل أن يلاقي حتفه عام 2017.
غزو العراق
بعد أقل من عام على غزو "بنما"، ورّط صدام حسين بلاده في غزو الجارة الكويت، وسرعان ما
أمر جورج بوش الأب بتشكيل تحالف دولي لتحرير الكويت بعد أن صدر قرار مؤيد لذلك من
مجلس الأمن بتأييد عربي.
لم يكن الأمر العسكري مستبعداً أو غريباً، ولكن الملفت
أن تقوم أقوى دولة في العالم بإرسال نصف مليون جندي مع قوة "خارقة" جوية
وبحرية لاستهداف وتدمير البنية التحتية للعراق بل وإعادته الى عصور الظلام، وتعمّد
قصف المدن والمدنيين واختبار كل الأسلحة المحظورة والمحرّمة دوليا في تلك الحرب.
باختصار كانت العراق حقل تجارب حقيقي، غير أن هذه المرة
كانت التجارب تجري على البشر والأحياء السكنية مباشرة!
حرب الخليج الثانية أو عاصفة الصحراء كانت أضخم حرب
عسكرية يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، استخدمت فيها قذائف اليورانيوم
والقنابل العنقودية وكل ما تحتويه مخازن الولايات المتحدة من أسلحة محرمة دوليا،
وما زالت الآثار الاشعاعية ومخلفات القنابل شاهدة على تلك الحرب.
لقد دُمّرت البلد ونُهبت ثرواتها وهوى التعليم فيها من
أعلى السلم العربي الى الحضيض.
للأسف، لا يوجد احصائيات رسمية لأعداد الضحايا، ولكن المنظمات
الحقوقية تشير إلى مقتل نحو ربع مليون عراقي بين مدني وعسكري.
مذبحة العصر
تُعدّ (جريمة ملجأ العامرية) إحدى أكبر الشهادات على إجرام
القيادة الأمريكية، التي أعطت الأوامر لقصف أحد الملاجئ المدنية، باستخدام أكثر
قنابلها فتكاً حينها، معتمدين على معلومة مخابراتية تشير الى وجود صدام حسين وكبار
القادة العراقيين في هذا الملجأ، فكانت الحصيلة مقتل أربعمئة مدني، منهم أكثر من
ثلاثمئة طفل وامرأة.
المفارقة بين غزو بنما وغزو العراق، أن جورج بوش عاقب
صدام حسين على استخدامه القوة لحل مشكلة سياسية اقتصادية مع جارته الضعيفة
"الكويت" وهو ذات الذنب الذي اقترفه جورج بوش نفسه في بنما قبل عدة أشهر
فقط، حينما قرر غزوها وأسر رئيسها بل ومحاكمته أمام المحاكم الأمريكية بسبب
تهديدها لمصالح الأمن القومي الأمريكي!
انتهت
المعركة ولم تنته الحرب
فرضت الإدارة
الأمريكية عن طريق مجلس الأمن حصارا اقتصاديا قاسيا على العراق بعد انتهاء
المعارك، حصد الأخضر واليابس فيها وخلّف أعداداً من القتلى والجوعى والمشردين قد
يفوق عددهم عدد ضحايا الحرب المباشرة.
وإذا كانت الحرب قد دمرت البنية التحتية للعراق وبشكل
خاص قطاع الطاقة، فإن العقوبات الاقتصادية قد رفعت من معدلات الفقر ونسب البطالة
والتضخم وأدت الى تزايد وفيات الأطفال وتفشي الأمراض وسوء التغذية.
وإذا كان تدمير البنية التحتية للعراق هو أمر غير مبرر
حسب جميع المحللين والخبراء خاصة ان الهدف من الحرب كان تحرير الكويت، فإن فرض
حصار اقتصادي جائر على شعب بأكمله يتعدى كونه "أمراً غير مبرر"!
التمهيد لحقبة سياسية قادمة
خسر جورج بوش في انتخابات المرحلة الثانية أمام موجة
التغيير التي قادها الشاب بيل كلينتون، وخرج من الباب الصغير، ولكنه في الحقيقة
أسس البنيان للإدارات الجمهورية من بعده لينتهجوا نفس المنهج، ويمارسوا نفس
السياسات.
لذلك نجد أن إدارة جورج بوش الابن كانت امتداداً لإدارة
بوش الاب، بعد احتفاظها بذات الأسماء والشخصيات، وقد ازدادوا نفوذاً وأصبحت
علاقتهم برجال الأعمال وشركات النفط والطاقة علاقة وطيدة لا تُفكّ أواصرها، لذلك
لم يكن من المستغرب ان تشهد أمريكا أثناء حكم عائلة بوش الممتد الى اثني عشر
عاماً، حروبا عسكرية تهدف في المقام الأول الى خدمة رجال الأعمال وشركات الطاقة
وتحقيق أهداف استعمارية على المدى البعيد.
وقد اتسمت أيضاً باستخدام القوة المفرطة وارتكاب جرائم
حرب ممنهجة ومخطط لها، بدءاً من ملجأ العامرية وصولاً الى سجن غوانتانامو مرورا بسجن
أبو غريب.
هذه هي حقيقة سياسة بوش العميقة، دون تجميل، والتي
تتعارض مع شعارات حملته الانتخابية (من أجل أمريكا لطيفة)!
وهذا هذا هو إرث جورج بوش الأب الفاعل وصاحب الأثر
الحقيقي، الذي تناساه للأسف معظم السياسيين العرب أثناء تعليقهم على وفاته.
في الختام، اكرر هنا ما قلته على صفحتي تعليقا على وفاة
جورج بوش الأب، (أعتقد ان الخطيئة الكبرى لجورج بوش الأب، إضافة الى جرائم حرب
العراق، كانت:
إنجابه بوش الصغير!)
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
9-12-2018