الجمعة، 28 يونيو 2019

عجوزٌ خمسينيّ!







التقيتُ قبل أيام مع مجموعة من أصدقاء الدراسة، الذين ترافقت معهم في المرحلة الثانوية، وما زالت تجمعنا علاقة صداقة وطيدة إلى اليوم، رغم أن الحياة قد باعدت بين مساراتنا وأماكن إقامتنا.
ورغم أننا نلتقي كل عام في الاجازة الصيفية، إلا أن لقاءنا الأخير هذا، كان مميزاً، إذ أنه صادف بلوغنا الخمسين من العمر، بعضنا قد جاوزه بقليل، والبعض الآخر يقف على أعتابه.
وقد غلب هذا الحدث على حديثنا، وغلّف أجواءه، حيث تبادلنا الحديث تارةً عن أزمة منتصف العمر، وتارةً عن مفارقات عمر "الخمسين"، وما يلازمه من شعور بالعجز عن مجاراة سباق الزمن الذي لا يتوقف، ونزيف السنوات الذي لا نملك إيقافه أو تعطيله.

وقد أخذ حديثنا طابع التندّر، إذ أننا في داخلنا لا نشعر بأي تغيير قد طرأ علينا، يتناسب مع تقدّمنا "الخارجي" المهول في العمر، أو ازدياد أرصدتنا في بنك الأعمار، فروح الشباب فينا ما تزال متقدة، وحسّ الطفل في داخلنا ما زال مشاكساً، كما أن نظرتنا إلى الحياة ما تزال متفائلة ومشغولة بمشاريع كبيرة وطموحات وآفاق بعيدة، ولكن هذا كله يتوقف أمام نظرة الآخرين وخصوصاً نظرة جيل الشباب الذي قد يرى فينا جيلاً قد أفل زمانه!

ومن هذه المفارقات التي تحدثنا عنها، مصطلح "يا عمّو" الذي بدأنا نسمعه حديثاً ونستهجنه، خصوصاً إذا ما جاء من إحدى الفتيات الحسناوات في مقتبل العمر!
أو الاستغراب الذي تثيره رغبة أحدنا في ممارسة هواية ما، تبدو كأنها لا تليق بجيلنا.
أو تلك الصدمة التي ترتسم على وجوهنا عندما نطالع خبراً في إحدى الصحف، يحتوي على عبارة "عجوزٌ خمسينيّ" تصفُ أحد الأشخاص الذي أنهى العقد الخامس من حياته!!

يقول الكاتب خالد محمد توفيق عن أزمة الخمسين من العمر: (فجأة وجدت أنني في الأربعين، الخامسة والأربعين، ثم سن الخمسين! هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة.
بدأت أشعر بالذعر عندما لاحظت أن الباعة يقولون لي «يا حاج»، والمراهقون يقولون لي «يا عمو»، ثم ازداد الأمر سوءاً عندما صار الأولاد المهذبون يقفون لي في وسائل المواصلات كي أجلس مكانهم)

أذكر موقفاً طريفاً لأحد الزملاء السابقين في العمل، والمعروف بخفة دمّه، حيث توجه بالسؤال إلى أحد الموظفين ذات يوم: كم بلغت من العمر؟، فأجابه أنا في منتصف الثلاثينات، فقال: لو اقتطعنا عمر الطفولة غير الواعية من عمرك لأصبح عمرك الآن عشرون عاماً!
ثم أردف قائلاً: ولو خصمنا من سنواتك العشرين هذه، ما قضيته في نومك وحاجاتك الفسيولوجية، لوجدنا أن عمرك الحقيقي هو عشر سنوات فقط! وهنا تناثرت الضحكات على الحضور، وتصاعدت القهقهات.

في البدايات كنت أقصّ هذه الحادثة على أنها طُرفة للفُكاهة لا أكثر، ولكني في الحقيقة وبعد سنوات تأملت فيها، فوجدت فيها نظرة فلسفية عميقة، أستطيع القول بناءً عليها، إن عمر الانسان يُقاس بما أنجزه لا بما عاشه، والسؤال الذي يجب علينا طرحه على أنفسنا مع كل رأس سنة خاص بنا: ماذا أنجزت هذا العام، وماذا حققت من الأهداف؟ كم كتاب قرأت، وكم تقدّمت معرفياً؟ ماذا أضفت من فائدة او معرفة إلى حيوات البشر، بمعنى آخر: كم تقدمت على سلّم الحياة، لا على خط الزمن؟!
والاجابة باختصار، هي عمرك الحقيقي.

لعل هذه النظرة الفلسفية للحياة، قد تعمّقت لدي بشكل أكبر وأوضح مع بلوغي الأربعين من العمر، ولا شك أن العقد الرابع من العمر يُعدُّ مرحلة فاصلة لكل إنسان، وعلامة فارقة في حياته. إنه مرحلة الحكمة والنضوج الفكري وتمام العقل.
والملاحظ أن نظرة المرء إلى الحياة تختلف مع بلوغ الأربعين، حيث تبدأ مرحلة المراجعة النقدية لما مضى من التجارب، وللمخزون المعرفي من قيم ومبادئ عليا، وهنا تلعب الخبرة والحكمة دوراً حيوياً في إعادة صياغة الأهداف، وإعداد برنامج متجدد من الأهداف والطموحات الكبيرة.

وقد خصّ الله سبحانه وتعالى، هذا العمر بالذات بالحكمة ورجاحة العقل، في قوله: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

وللدلالة على هذا الأمر، فإني لم أقتنع بصحة الحكمة الشهيرة التي قالها الكاتب الدكتور واين داير "عندما يتاح لك الاختيار بين أن تكون على صواب أو أن تكون لطيفاً، اختر أن تكون لطيفاً"، ولم أتمكن من تطبيقها والالتزام بها إلا في عمر الأربعين، وحينها اكتشفت أنها رغم كونها بسيطة في الطرح، ولكنها عميقة في المعنى، بل وعظيمة الأثر أيضاً.

وأنا أخطو خطواتي الأولى في العقد السادس من العمر، مُخلّفاً ورائي خمسة عقود كاملة من الزمن، ما زلت أنظر الى المستقبل كما نظرت إليه قبل عقد من الزمان، أحمل بداخلي أحلاماً عظيمة، وأرى في نفسي طاقة نابضة، وروحاً من الشباب لم تذبل، ما زلت مصرّاً على تجاهل النصائح التي تحجب عني ألوان الحياة الزاهية، وتضعني في قالب "العجوز الخمسيني"، فعمري الحقيقي هو ما أشعر فيه بداخلي، وما يستطيع جسدي أن يعاونني عليه، لا ما أراه مكتوباً في شهادة الميلاد. وفوق هذا فإني أكثرُ اهتماماً بعمري "الحقيقي" على سلّم الحياة، لا على خط الزمن.

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-6-2019





الجمعة، 14 يونيو 2019

الفرقُ بيننا وبينهم!

لن آتٍ بجديد إذا قلت، إننا نعيش فجوةً حضارية هائلة بين دولنا العربية ودول العالم المتقدم، وإننا كشعوب عربية، يحلو لنا دوماً لوم الحكومات والأنظمة على السياسات الفاشلة، التي أوصلتنا إلى هذا القاع.
وربما يحلو للبعض أيضاً، أن يعزو أسباب هذا التخلّف الحضاري إلى الاستعمار الحديث، ونظريات المؤامرة.
ولكن احداً لا يعلّق الجرس، ويشير إلى تقصير الأفراد والمجتمعات والمؤسسات المدنية والأهلية على حد سواء، ودور ذلك التقصير، في ازدياد هذه الفجوة الحضارية.

والأنكى من ذلك، أننا وعلى مستوى الوجه الآخر للحضارة وأقصد الأخلاق الإنسانية والقيم المجتمعيّة، نعيشُ في الحضيض أيضاً، ولكننا رغم كل شيء، نصرُّ على تجاهل هذه الحقيقة، والادعاء باننا أفضل الأمم، وأحبّها إلى الله، وأننا وإن كنا خسرنا سباق الحضارة والإنجازات العلمية والتفوّق الأممي، فإن مجتمعاتنا ما زالت الأفضل أخلاقاً ومراعاة للقيم الإنسانية، وهذا ما يدحضه الواقع جملةً وتفصيلاً.

في العام الماضي، قمت بشراء مجموعة من الكتب العربية عبر موقع الكتروني لأحد أكثر المتاجر العربية رواجاً وشهرةً، وبما أني معتاد على طلب عدد من الكتب يكفيني مخزوناً للقراءة لمدة لا تقل عن ستة شهور، فقد فوجئت بأن أحد الكتب التي قرأتها متأخراً، فيه نقصٌ لأكثر من خمسةٍ وعشرين صفحة، وأن الصفحات التي تلي ذلك النقص مقلوبة رأساً على عقب!
قمت بمراسلة المتجر "العربي" وشرحت له المشكلة، وبعد انتظار عدة أيام جاءني الرد بطلب إثبات المشكلة، من خلال تصوير الصفحات وتبيان النقص، وتصوير الصفحات المقلوبة، مع تصوير الكتاب والرقم المتسلسل ....إلخ.

وهذا الطلب ليس بجديد على ثقافتنا العربية، فجميع مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية، تتعامل مع المواطن العربي بسياسة (أنت كاذب إلى أن تُثبت صدقك) على عكس باقي العالم المتحضّر، الذي يفترض أن الانسان صادقٌ مؤتمن، وأن الكذب والخداع هو الاستثناء.

ورغم أن ثمن الكتاب لا يتجاوز عشرة دولارات، إلا أن أسلوب الرد استفزّني، وبالفعل قمت بتصوير كل ما هو مطلوب، وأرسلته عبر الإيميل.
ويبدو أن سياسة المتجر انتقلت بعد ذلك إلى سياسة "التطنيش"، أي إهمال الطلب، إلى أن يملّ المستدعي وصاحب الحق ويتغاضى عن متابعته!
بعد عدة أيام من الانتظار والمتابعات، طلبوا مني تزويدهم بفاتورة الشحن، رغم أن جميع المعلومات متوفرة لديهم في النظام.
أسلوب التعجيز أو "التطفيش" هذا، ليس بغريب ولا مستهجن في عالمنا العربي، أذكر أني ذهبت الى أحد البنوك ذات مرة لفتح حساب، فطلبوا مني إحضار نسخة من فاتورة الكهرباء لآخر ثلاثة شهور، وعبثاً حاولت فهم العلاقة بين فاتورة الكهرباء وفتح حساب بنكي!
وحين أخبرتهم أني لست مُقيماً في البلد وأني أسدد جميع فواتيري من خلال قنوات الدفع الالكترونية وأن الفواتير الورقية لا تصلني أصلاً، طلبت مني الموظفة الذهاب الى شركة الكهرباء واستخراج الفواتير الورقية، بحجّة أن هذه هي التعليمات!

بالعودة الى المتجر العربي للكتب، وبما أني كنتُ مُصرّاً على تعويض الكتاب، فقد بحثت في أدراجي القديمة واستخرجت الفواتير اللازمة، وبعد طول انتظار جاءني الرد الحاسم والنهائي، بالاعتذار عن تزويدي بنسخة جديدة من الكتاب أو تعويضي عن ثمنه، بسبب مضي أكثر من ستة شهور على ارسال الكتب!

حينها، فقدت العزيمة على الاستمرار في الجدل البيزنطي، ورددت عليهم مُعقّباً: إذا كانت سياسة المتجر عدم قبول اعتراضات على الطلبات التي مر عليها مدة ستة شهور، لماذا قمتم بطلب تصوير الكتاب وإثبات النقص فيه، ثم طلبتم الفواتير المتعلقة به، هل كانت محاولة لاختبار صدقي؟

هذه التجربة قفزت الى الذاكرة من جديدة قبل نحو شهرين، حين اشتريت كتاباً في الإدارة، من أحد المواقع الأجنبية، ونظراً لحاجتي السريعة للكتاب قرّرت ولأول مرة شراء نسخة الكترونية من الكتاب، على أن أقوم بطباعته بعد ذلك كسباً للوقت، ولكن المفاجأة كانت أن خيار الطباعة محدود بعشرين صفحة فقط، عدا عن عدم إمكانية نسخ الكتاب على أي من وسائط النقل، أو نقل محتواه الى ملف آخر.

راسلت المتجر حول المشكلة، وجاءني الرد خلال أقل من 24 ساعة، حيث أوضحوا لي أن شروط الطباعة تختلف من كتاب الى كتاب حسب اتفاقية دار النشر، وأن هذا الكتاب يخضع لسياسة تقضي بعدم طباعة أكثر من عشرين صفحة في اليوم الواحد، أما بالنسبة لنقل محتوى الملف ومشاركته فهي سياسة عامة للموقع، تمنع نقل المحتوى للحفاظ على حقوق الملكيّة.

بعد هذا الرد "الاحترافي"، لا أخفيكم أني فقدت الأمل وشعرت في تلك اللحظة أني قد أضعت سبعين دولاراً أمريكيا عبثاً!
ولكني حقيقةً شعرت بالغبن، فقمت بالرد عليهم وفي نفس اليوم، بأني لم أطّلع على هذه الشروط حين اشتريت الكتاب، ولم يتم توضيح ذلك على الموقع قبل عملية الشراء، ولو كنت أعلم هذا لما أتممت عملية الشراء.
وفي اليوم التالي جاءني الرد الصاعق من المتجر: نأسف على الازعاج الذي حصل لك، وعن انطباعك السيء عن التسوق من خلال موقعنا. هل ترغب بإعادة المبلغ إلى بطاقتك الائتمانية أم الاحتفاظ به للشراء في المستقبل؟

لم يستغرق الأمر مع المتجر الغربي (في بلاد الكفر) لأكثر من 48 ساعة لإعادة المبلغ الذي يساوي أضعاف ثمن الكتاب الذي خسرته في المتجر العربي، رغم أنه كان بالإمكان تحميلي المسؤولية لجهلي في التعامل مع الكتب الالكترونية، ليس هذا فحسب بل إني احتفظت بالنسخة الالكترونية من الكتاب دون مقابل!

لم تنتهِ الحكاية هنا، فبعد حل مشكلة الكتاب الالكتروني، قمتُ مباشرة، بشراء نسخة ورقية من نفس الكتاب من متجر متخصص آخر، ووصلني الكتاب المطلوب عن طريق الشحن السريع. وبعد نحو شهر وصلني ايميل من ذات الموقع يعلمني فيه بإعادة مبلغ (دولار واحد) الى حسابي وذلك نتيجة فروقات في احتساب أجور الشحن، حيث أوضحوا لي أن سياسة الموقع هي احتساب قيمة الشحن حسب المنطقة الجغرافية التي يقطن فيها طالب الشراء، ويحدث أن يكون هناك بعض الفروقات تبعاً لبلد الإقامة!
نعم، أعادوا لي دولاراً واحداً!

كنت أتمنى ان تقوم المعاملة بيننا كأفراد وكمؤسسات، على أساس الثقة والاحترام والصدق المتبادل، وأن نتحلّى بالأخلاق التي نتشدّق بها في منتدياتنا، ونحشوها في كتبنا ومنشوراتنا، وتملأ فضاءنا في العوالم الافتراضية.

حبذا، لو راجع كل فرد فينا منظومته الأخلاقية في التعامل مع الآخرين، ومعايير النزاهة الشخصية والإخلاص في العمل، قبل أن نتوجه باللوم إلى الحكومات والأنظمة، فالريادة الحضارية تعتمد على حضارة الأفراد أولاً، كما أن أخلاق الأفراد والمجتمع تُعتبر انعكاساً لأخلاق الدول.

الفرق بيننا وبينهم، أننا حصرنا الأخلاق والنزاهة والإخلاص والصدق في التعامل، في الخُطَب والشعارات والكتب التاريخية، بينما هم جعلوا منها أنموذجاً حيّاً.
 

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-6-2019

الأربعاء، 12 يونيو 2019

الانقطاع عن القراءة والكتابة

عندما تصبح القراءة جزءا من حياتك، ومن برنامجك اليومي، فإنها لا تعُدْ مجرد هواية، أو قراءة للتسلية، بل تكاد تكون المتنفس الوحيد الذي يفتح لك ذراعيه وينطلق بك إلى آفاق لم تكن ببالغها، إنها أشبه ما تكون ببساط الريح!

وحين تضطر مُكرهاً، الانقطاع عن القراءة ولو لفترة زمنية محدودة، فإنك تشعر بفراغ كبير، وجمود عمره سنوات.

أما الكتابة، فهي عالم سحري، يخص ذلك الكائن الذي يسكن داخلك، وإذا ما توقف هذا الكائن عن البوح، وتوقفت أنت عن الكتابة، فإن الدورة الدموية ستعطب، وتشعر حينها، أنك انغلقت أمام العالم، أو أن العالم كله أُغلق أمامك.
فالكتابة أشبه ما تكون بهويتك الإنسانية. هل تخيلت يوما أن تعيش بلا هوية؟

أيمن يوسف أبولبن
11-6-2019

#القراءة و #الكتابة

الثلاثاء، 4 يونيو 2019

*آيات استوقفتني (14) سيدنا يعقوب*




هل كانت شخصية سيدنا يعقوب التي تجسّدت في سورة يوسف، ضعيفة، قليلة الحيلة، ومغلوبة على أمرها؟
أم كانت شخصية المؤمن الحكيم الواثق بأمر الله؟
تعالوا نرى سويةً.

((قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)))

من هنا يظهر أن سيدنا يعقوب رجل حكيم ذو بصيرة نافذة، يعلم من أمر غيرة إخوة يوسف، وهو رجل مؤمن يعلم كيد الشيطان، ثم إنه علم بتأويل الرؤيا التي قصّها يوسف عليه ولكنه أخفاها عنه، كما طلب منه إخفاءها حتى يتم الله أمره، ويعقوب منذ هذه اللحظة أيقن تماماً أن ابنه يوسف سيكون الوارث للنبوة وسيكون حامل الراية من بعده، ليس هذا فحسب بل إن شأنه سيعلو فوق شأنه هو، بحكم تأويل الرؤيا.

ولقد علم يعقوب أن هذا الأمر ولكي يستتب ليوسف، فلا بد له من رحلة صعبة وطويلة يصقل الله فيها مهاراته ويقوي شخصيته ويعلّمه الحكمة.

((قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ))

هنا بدأت المكيدة، وخاف يعقوب على ابنه من كيد أبنائه، ولكنه في نص صريح وواضح قال إنه يخاف على ابنه من الذئب، ألا تجدون أن ذكر الذئب هنا من قبل يعقوب هو نبوءة بحد ذاتها؟

لاحظوا معي:
(أخاف أن يأكله الذئب وانت عنه غافلون)
(قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)
لقد جاء إخوة يوسف بنفس الكذبة التي علمها يعقوب من قبل وأنبأهم بها، وكأنه كان يقول لهم (إني أعلم من الله ما تصنعون)

هل انطلت الحيلة على يعقوب وهل آمن بموت ابنه وسلّم بذلك:
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ))

فكان موقفه مطلق الايمان بالله والصبر على هذه المحنة التي علمها منذ اليوم الأول لنبوءة يوسف.

ثم جاء الموقف التالي لسيدنا يعقوب عندما أراد إخوة يوسف أخذ شقيقه الأصغر معهم الى عزيز مصر (يوسف)، وهذه المرة كانوا صادقين:

(قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
فكان جوابه: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
ثم قال:
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)

وهنا أشهد الله عليهم وأخذ منهم موثقاَ غليظاَ أن يعودوا به سالماً، ولكن مرة أخرى لاحظوا معي:
(إلا أن يُحاط بكم)
أي أن يعقوب أخذ موثقاً من أبنائه أن لا يؤذوه وأن يعيدوه سالماً، ولكنه ترك أمر تدبير الله وحكمته مفتوحاً فإن كان الأمر قضاءً من الله فقد سلّم أمره لله، ثم قال (الله على ما نقول وكيل).

فهل هذا موقف قليل الحيلة المغلوب على أمره، أم موقف الحكيم الواثق والمؤمن بقضاء بالله؟

ثم بدأ بإسداء النصح لهم من باب الحكمة التي علمها له ربنا سبحانه وتعالى:

(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)

ثم تبع ذلك ثناء الله عليه وعلى علمه وشهادة من الله ليعقوب بأن الله آتاه العلم من عنده (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

وتستمر الأحداث ويأخذ يوسف أخيه في دين الملك ويعود إخوة يوسف الى أبيهم يعقوب:

(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

ومرة أخرى يقف موقف الصابر المستعين بالله ولكن موقف الواثق في نفس الوقت (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم)

ثم يضيف قائلاً: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

ولاحظوا كيف يتناسق النص مع بعضه البعض، شهد الله له بأن آتاه العلم (وإنه لذو علم لما علّمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ثم جاء قول يعقوب نفسه (وأعلم من الله ما لا تعلمون)
ولاحظوا أيضاً (من الله) أي أن هذا العلم والإخبار يأتيه من الله تعالى وبوحي منه، وأنتم لا تعلمون (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

وتستمر الحكمة مع يعقوب (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ)

(فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

إذاً تحققت رؤية يوسف في النهاية، ولكن رؤية يعقوب كانت هي الأخرى تتحقق خطوة خطوة، وإذا كان يوسف صابراً وواثقاً، فقد كان يعقوب كذلك واثقاً بأمر الله صابراً حزينا يكتم حزنه، ويبث همه وشكواه لله سبحانه وتعالى وحده، راجياً الفرج.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)

وهنا يجب توضيح بعض الأمور، أولاً السجود هنا ليس بسجود الجبهة على الأرض، فهذا السجود خص الله فيه أتباع محمد في أداء الصلوات، بينما كان السجود في الملل الأخرى هو سجود انحناء فقط.

وفي عصر يعقوب ويوسف، كانت هذه التحية لأصحاب السلطة والمقامات العليا، من باب التحية والاكرام، وفي هذا الموقف فقد كان يوسف عزيز مصر.

أضف الى ذلك، أن يوسف أصبح حامل الرسالة والنبوّة الآن، في حين أن يعقوب هو نبي الله ولا يحمل رسالة، بل كان يبشّر برسالة سيدنا إبراهيم ونبوّة اسحق، ويتلقى الحكمة والوحي من الله تعالى:
(وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)

بينما سيدنا يوسف جاء برسالة واحكام جديدة وأصبح هو المتبوع:

(وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا)

يُذكر أيضاً ان صلاة السيدة مريم وسجودها يختلفان أيضاً عن السجود الذي نعرفه، وصلاة مريم هو ما نراه اليوم من صلاة المسيحيين في الكنائس، وسجودها هو الركوع على الأرض مع الانحناء.


نقطة على الهامش:
بما أن يعقوب والد يوسف هو نبي الله، لماذا لم يذكر الله تعالى دعوته وسيرته كنبي؟

كل من يتدبر القرآن يعلم جيداً أن الله سبحانه وتعالى أورد بعض أسماء الأنبياء ولم يذكر كافة الأنبياء، وكذلك ذكر سيرة بعض الأنبياء الذين ذكرهم، ولم يذكر سيرة كل الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن.

وكما أشرت في منشورات سابقة، الحكمة في ذلك أن كل القصص القرآني يعتمد على إلقاء الضوء على مراحل تاريخية مهمة في حياة البشر وتطورهم، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى مفاصل مهمة في حياة البشرية من خلال قصص الأنبياء، قصة بدء الخلق مع قصة سيدنا آدم، نوح والطوفان، سيدنا إبراهيم وبناء الكعبة وتحريم القرابين البشرية، سيدنا شعيب وتطور المقاييس والمواصفات ووحدات الوزن، سيدنا هود وتطور استخدام الأنعام، وهكذا.
ولكن هناك أنبياء كثر لم ترد قصصهم ولا سيرتهم ودعوتهم الى الله، على سبيل المثال لا الحصر (سيدتا إسماعيل، إسحق، ويعقوب)
بل إن سيدنا هارون الذي اشترك مع سيدنا موسى في الرسالة، لم يأت ذكره بالدعوة في قصة سيدنا موسى.


هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
4-6-2019

الاثنين، 3 يونيو 2019

*آيات استوقفتني (13) لا يمسّه إلا المُطهّرون*




((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80))) سورة الواقعة.

من المتوارث لدينا حسب الموروث الديني أنه لا يجوز لمس المصحف إلا في حالة الطهارة، فهل هذا هو المعنى المستنبط من هذه الآية؟

في البداية لقد عرّف الله سبحانه وتعالى الطهارة الجسدية في القرآن بما يلي:

أولاً، الطهارة من الجنابة بالغسل:

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ)) النساء 43

ثانياً، الغسل من الحيض للمرأة:

((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ)) البقرة 222

ثالثاً، الطهارة من النجاسة:
((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)) المزمل
((وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا)) سورة المائدة

فهل يحظر على هذه الحالات لمس المصحف؟

من التدبّر في هذه الآية يتضح ما يلي:
الحديث هنا عن القرآن الكريم وليس عن نسخة المصحف الورقية الموجودة لدينا، بل عن النسخة المحفوظة بالرعاية الإلهية (كتاب مكنون)
لا يمسه إلا المطهرون، ال (لا) هنا ليست لا الناهية فهي لا تنهى عن امر، بل هي (لا) النافية، أي أنها تنفي أن يكون هذا الكتاب المكنون متاحاً لغير الملائكة.

لاحظوا معي لفظ (*المُطهّرون*) أي أن الطهارة هنا من صنع الخالق، وليس من صنع المخلوق، فالملائكة خلقوا على هيئة طهارة جسدية لا تتغير ولا ينتقلون من مرحلة الطهارة الى غيرها مثل باقي البشر، فهم منزهون عن حالات عدم الطهارة الجسدية التي ذكرتها آنفاً.

أما في حالة البشر، فقد قال الله تعالى:

((إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ))  

لاحظوا هنا كلمة *المُتطهّرين* أي الذين يحافظون على طهارتهم بفعلهم وإرادتهم.

ومن هنا نقول إن لمس المصحف في حالة الطهارة فقط هي من الآداب العامة، وليست من النواهي الإلهية كما هو شائع في تراثنا. وأن هذه الآية التي يُستدل بها على غير ذلك، لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالمصحف الذي بين أيدينا، ولا بنا نحن البشر.



هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
3-6-2019

الأحد، 2 يونيو 2019

*آيات استوقفتني (21) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول – مفهوم السنّة*




بعد ما تقدّم من مواضيع حول مفهوم الحكمة، ومفهوم توارث النبوّة (خاتم النبيين)، وما طرحناه في العام الماضي حول مفهوم الوحي (وما ينطق عن الهوى) وحصر الوحي في تنزيل الكتاب والقرآن، نتحدث اليوم باختصار عن مفهوم السنة.

هناك من العلماء الذين تحدثوا عن خطأ استخدام كلمة سنة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: د. محمد شحرور و د. محمد هداية. وسأستخدم مصطلح السنّة هنا بالمعنى المتعارف عليه (الاقتداء بالنبي محمد).

الحديث هنا سيكون موجزاً ومختصراً لأن الموضوع عميق ويمكن الاستزادة بقراءة الكتب المختصة والتي تبحث في الموضوع باستفاضة وأخص منها بالذكر (السنّة الرسوليّة والسنّة النبويّة) للدكتور محمد شحرور.

أولاً يجب التفريق بين اتباع أوامر الرسول محمد (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وبين ما يُعرف اصطلاحاً بالسنة النبوية، حيث لم يرد في القرآن: (وأطيعوا النبي). وهذا بحد ذاته مفصل رئيسي لفهم موضوع السنة.

فكل ما جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم حول أحكام الدين مثل الصلاة، الزكاة، شعائر الحج، أحكام الصوم، هو واجب الاتباع بنص القرآن.

ثانياً: كل ما جاء خلاف ذلك من أحكام شرعية أو تفصيل لحكم، فيجب عرضه على القرآن فإن توافق معه أخذنا به وإلا فلا، لأن الله سبحانه وتعالى تعهّد بحفظ الكتاب ولم يتعهد بحفظ الأحاديث أو بلاغ الرسول.

وهذا يتضمن على سبيل المثال لا الحصر، حديث الرجم، وحديث التبنّي، وحديث الوصية وغيرها.
 ويجب على علماء الأمة الاجتهاد في هذا الموضوع بالذات وتبيان الاختلاقات التي نسبت إلى الرسول صلى الله وعليه وسلم وتتعارض مع القرآن ثم الإعلان صراحة بعدم صحتها، بدلاً من محاولة الجمع بينها بين آيات الكتاب، تارة بحجة نسخ الآيات، وتارة بتحميل الآيات ما لا تحتمل من معنى، وكل ذلك من أجل عدم المساس بالتراث والأحاديث المتواترة.

 ثالثاً: الوصايا الأخلاقية والقيم الإنسانية، كل ما جاء عن الرسول من أحاديث تتعلق بمنظومة الأخلاق والوصايا والمعاملات تنضوي تحت لواء الوصايا الإلهية لخير البشرية، وهي واجبة الاتباع من باب الاقتداء بالرسول، وقول العلماء في هذا الباب هو نيل الرضا والقبول لدى الله تعالى نتيجة القيام بهذه الأعمال، ولكنها لا ترتقي الى درجة الأوامر والنواهي الإلهية المباشرة والواردة في الكتاب العظيم.
ومنها على سبيل المثال:

((يُسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليلُ على الكثير))
((كل بيمينك وكل مما يليك))


رابعاً: الأذكار والدعاء وما ورد من صلاة الشكر وصلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة والاستخارة وغيرها، كل هذا برأيي الشخصي يتعلق ببند مهم جدا هو البرمجة اللغوية العصبية او التنمية الذاتية، وهي باب مهم جداً من أكبر أبواب الحكمة من وجهة نظري والذي يعمل على صقل النفوس البشرية وإعادة تنظيمها بما يضمن الصحة النفسية والذهنية لها.

وكل من جعل من الأذكار اليومية برنامجاً يومياً له، ولجأ دوماً إلى أداء كل ما ورد من وصايا للرسول في هذا الباب يعرف مدى الأثر الإيجابي على حياته.

وأسوق هنا بعض الأمثلة:
((بشِّرُوا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا))
((لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجه طلق))
((تبسمك في وجه أخيك صدقة))
((تفاءلوا بالخير تجدوه))

خامساً: ما ورد من اجتهادات من النبي صلى الله وعليه وسلم في تنظيم المجتمع والسوق والمعاملات وأمور النظافة الشخصية والطهارة واللباس.... الخ، فإن الأصل فيه الاقتداء وليس التقليد حيث من الواجب علينا إعمال العقل والاجتهاد والرقي بأمور المجتمع والحضارة بناء على ادواتنا المعرفية وما توصلت له البشرية كما فعل سيدنا محمد بالنسبة لعصره من باب النبوّة وليس من باب الرسوليّة.

فكما ذكرت في الموضوع السابق إن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه وأغلق باب المعجزات وحرّي بنا ان نستمر على طريق الاجتهاد لا ان نتوقف عند اجتهاد النبي والصحابة من بعده.

والأمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، سفر المرأة، حُكم المرأة للدولة، حكم الموسيقى والفنون بشكل عام، المسواك، تقصير الثوب والحجامة.....الخ.

فالأصل في هذه الأمور هو الهدف والقصد وليس التقليد، فاستخدام فرشاة الأسنان وغسول الفم من السنة طالما أن الهدف هو الاعتناء بنظافة الفم والأسنان، مع الاستغناء عن المسواك إلا للحاجة مثل السفر.
وتقصير الثوب خوفاً من النجاسة، لا ينطبق على المجتمعات المدنية التي لديها من البنية التحتية ما يغنيها عن الخوف من النجاسة.
وحكم المرأة للدول قد أثبت نجاحاً عظيماً، نظراً للقفزة الحضارية التي حدثت.
وسفر المرأة اليوم من بلد إلى بلد لا يوجد فيه مخاطر ولا خوف على عرض أو حياة.
والموسيقى لها معايير أخلاقية إذا تم الالتزام بها فتصبح غذاء للروح، وأداة عصرية لا يمكن الاستغناء عنها.

والحديث يطول عن هذا الباب، وهو لبّ الموضوع الذي يختلف عليه معظم من يقول بالالتزام بنص السنّة، وبين من يرى ضرورة اخذ الهدف والقصد منها.

هذا باختصار ما أراه من كيفية الاقتداء بالسنة النبوية والرسولية لتحقيق الهدف المنشود منهما، لا من أجل التقليد والإبقاء على ذات الأدوات المعرفية التي راجت في المجتمعات الأولى.



هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
2-6-2019

السبت، 1 يونيو 2019

*آيات استوقفتني (11) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا*




هذه الآيات من سورة الأحزاب تدور حول إباحة زواج الآباء من مطلّقات أبنائهم بالتبني.
من المعروف أن العرب والمؤمنين من أتباع سيدنا محمد كانوا يعاملون أبنائهم بالتبني معاملة أبنائهم من صلبهم، ولم يكونوا يستسيغون الزواج من زوجات أبنائهم بالتبنّي بعد طلاقهم، حتى بعد أن أحلّ الله ذلك
فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل من زواج سيدنا محمد من طليقة ابنه بالتبني (زيد بن حارثة) دافعاً للمؤمنين بأن يرفع الحرج عنهم ويبيح لهم ذلك.
فقام سيدنا جبريل وبوحي من الله سبحانه وتعالى بإخبار النبي محمد بأن زيداً سيطلّق زوجته (زينب بنت جحش)، وأن الرسول عليه أن يرتبط بها بعد ذلك.
ولكن سيدنا محمد شعر بالحرج الشديد، لكونها أسبقيّة خارجة عن المألوف في المجتمع آنذاك، فقام أولاً بمحاولة الإصلاح بين زيد وزوجته وكتم خبر الوحي، إلى أن أتم الله أمره وتزوج سيدنا محمد من زينب ونزلت هذه الآيات:

((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا  (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا  (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا  (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا  (40)))

وموضوعنا اليوم عن الآية الأخيرة.

ما المقصود ب: (ما كان محمدّ أبا أحد من رجالكم)؟ وما علاقة ذلك بتتمّة الآية: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وما معنى خاتم النبيين؟

بداية وكما اتفقنا في منهجية القراءة المعاصرة بأن لكل كلمة معنى مستقل، فكلمة أب ليست ككلمة والد في الاستخدام والمعنى، وحين استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة أب قصد منها معنىً يتعدى معنى الوالدية البيولوجية.
فمن جهة لم يكن هناك داعٍ لنفي أن يكون محمد والد زيد بن حارثة، فكل قريش تعلم أن زيداً كان عبداً لدى السيدة خديجة قبل أن تهبه لسيدنا محمد (بعد زواجه منها)، ثم أعتقه سيدنا محمد واختار زيد أن يبقى في كنف سيدنا محمد وحينها قال سيدنا محمد قولته الشهيرة (يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا ابني أرثه ويرثني) وصار يّدعى زيد بن محمد.

إذاً هذا النفي الوارد في القرآن يتعدى المعنى السطحي للجملة، إلى نفي أن يكون محمدٌ هو الأب الروحي لأي من المؤمنين بحيث تنتقل النبوّة أو الخلافة المقدّسة من سيدنا محمد إلى أي أحد من بيته أو من أتباعه، كما يحصل الآن للأسف في الكهنوت الذي ابتدعته بعض الفرق الإسلامية، وتعتبر أن الإمامة تنتقل من شخص إلى آخر، وأن هذه المكانة المقدّسة هي هبة من الله سبحانه وتعالى وبركات منه.

فهذه الآية تنفي كل تلك الأساطير والقداسة المزيفة.

والدليل هو تتمة الآية التي توضّح أن محمد هو رسول الله وخاتم النبيين، وأن لا أحد من أتباعه له الحق في ادعاء وراثة مكانة سيدنا محمد الدينية أو المطالبة بتوريث منصبه السياسي بحجة انتمائه الى بيت سيدنا محمد (الارتباط البيولوجي) أو الانتماء الى سيدنا محمد بالأبوّة الروحيّة.

وهذا يجعلنا ننتقل الى الحديث عن خاتم النبيين، لماذا كان سيدنا محمد هو خاتم النبيين؟

كل الرسالات التي سبقت سيدنا محمد كانت تعتمد على تعاليم سماوية واضحة (افعل، لا تفعل) وكانت تعتمد على الوحي والإرشاد الإلهي مع هامش ضئيل من الاجتهاد وحرية التصرّف، وطبقاً لارتقاء البشر على سلم المعرفة الإنسانية وتقدم العلوم، كانت الحكمة الإلهية بأن الوقت قد حان كي ينقطع الوحي المباشر من السماء الى الأرض، وتبدأ رحلة جديدة في تاريخ البشرية بالاعتماد على منهج رباني متكامل (القرآن العظيم) قادر على استيعاب التطور البشري واختلاف العصور وتطور المعرفة ووسائل وأدوات المعرفة، دون اتصال مباشر مع السماء، أو خوارق للطبيعة أو معجزات تفوق قدرة البشر.

وأن العلم والابداع وتسخير الموارد المتاحة، هو الوسيلة الوحيدة للرقي في المعرفة.

ومن هنا كانت عظمة سيدنا محمد الذي أسّس لمرحلة جديدة في تاريخ البشرية بأن كان المعلّم الأول لجيل المؤمنين الأوائل في كيفية إدارة الدولة (الحكم) وتنظيم المجتمع المدني (المدينة المنورة) وفي أمور الحرب والسلم، والتعامل مع الدول المجاورة (السياسية الخارجية) وفوق كل هذا الاجتهاد في النص بما يتناسب مع طبيعة المجتمع وطبيعة المتلّقي واختلاف الظروف، والأخذ بالأسباب والابداع، دون الاعتماد على معجزات وخوارق للطبيعة.

وهذا ما مكّن الدولة الإسلامية في بداية عهدها من سيادة العالم وتحقيق قفزة حضارية هائلة لم يشهدها تاريخ العالم كله في فترة زمنية قياسية.

ولكن ما أن عادت العجلة الى الوراء وبدأنا بتقديس النص الثابت والجامد، وأغلقنا باب الاجتهاد، وتركناه محصوراً في أسماء معينة أحطناها بالقدسيّة ورفعنا مستوى نصوصها الى مستوى النص الإلهي، عاد بنا الزمن الى الوراء وبتنا للأسف نتوجه الى السماء لنجدتنا ونعلن فشلنا في الاعتماد على أنفسنا في الاجتهاد والتفكير في النص الإلهي القادر على القفز بنا الى الأمام، وهذا تجسيد لشهادة سيدنا محمد علينا يوم القيامة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)

ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، رسالة الى كل من يقدّس الرموز ويعتقد أنهم مرتبطين بحبل من السماء.

خاتم النبيين، رسالة الى كل من يعتقد أن النص الإلهي هو نص مغلق لا يقبل التدبر والاجتهاد، وأن فهم الجيل الأول له هو الفهم الوحيد الصحيح غير القابل للنقاش.

ولا حول ولا قوة الا بالله.

هذا والله أعلم

أيمن يوسف أبولبن
1-6-2019