فعلها ترامب كما كان متوقعاً، بإعلان القدس عاصمةً لدولة
الاحتلال الصهيوني التي وصفها ب "أعظم
الديمقراطيات". بعد مئة عام من وعد بلفور أتى
"فعل ترامب"
بتجيير المدينة المقدّسة بتاريخها العريق ورمزيتها للسلام بين الأديان، وبما
تمتلكه من مقدسات إسلامية ومسيحية للسيادة اليهودية الصهيونية!
لنقولها بصراحة، لم تكن الولايات المتحدة يوماً داعمةً
للسلام في المنطقة، ولا لترسيخ الديمقراطية ونشر مبادئ الحرية، بل كانت دوماً دولة
استعمارية تسعى للهيمنة والسيطرة، ودعم نفوذها في العالم. ومنذ الإحتلال
الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، وقفت الإدارة الأمريكية موقف الداعم والحليف الرئيس
لدولة الإحتلال على حساب العرب والفلسطينيين.
في المقابل، استغل المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد
السوفياتي القضية الفلسطينية لضرب مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ومحاولة خلخلة
التحالفات الأمريكية.
بقي الوضع بين شدّ وجذب إلى أن سقط جدار برلين وسقطت معه
الشيوعية فانهار المعسكر الشرقي، وأصبحت أمريكا سيدة العالم بلا منازع، وهو ما
تنبأ به "فوكوياما"
في كتابه (نهاية التاريخ)،
حين قال إن انتصار أمريكا وترسيخ مبادئ الديمقراطية الليبرالية وحرية الأفراد بما
فيها من تحرير الأسواق ورفع القيود عن التجارة وإلغاء الدعم الحكومي، والانتقال من
تأميم أملاك الدولة إلى الخصخصة، لن يكون بمثابة بداية حقبة جديدة، بل هو نهايةٌ
للتاريخ نفسه، إذ لا يوجد أية أيدولوجية بإمكانها تحقيق ما هو أفضل للبشرية!
وجد العرب أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهم، الدوران في
فلك أمريكا، أو المواجهة المنفردة دون غطاء دولي أو حتى عربي، ولكن ثمّة من بقي
متردداً يحاول أن يلعب على الحبلين، يقاوم في العلن، ويخضع في السر!
وبعد حرب الخليج الثانية، التي تلت انهيار جدار برلين
مباشرة، تبيّن لكل من كان يحدوه الأمل ب "حلحلة" الأمور أو الخروج من عنق الزجاجة، أن العالم بات
يحكمه قرنٌ واحد، وأن لا مناص من الخضوع، لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمراً!
في النهاية تخلّى حلفاء الاتحاد السوفياتي في المنطقة
عنه أو تخلّى هو عنهم، ومنهم من غيّر البوصلة وتحالف مع أمريكا نفسها!
وبعد ان استتب الأمر لها، قررت الإدارة الأمريكية حل
صراع الشرق الأوسط بما يضمن مصالحها واستمرار دولة إسرائيل، مع ضمان وقف عمليات
المقاومة وإحلال التطبيع الاقتصادي، بما يضمن استمرار شريان الحياة في الأسواق
لخدمة الاقتصاد الأمريكي.
اندفعت الدول العربية وراء عملية السلام، ولسان حالهم
يقول ما الذي سنخسره؟! أعلنت دول الصراع مع العدو الإسرائيلي تباعاً رغبتها في
السلام والاعتراف بدولة إسرائيل مقابل العودة إلى حدود 1967؛ وانطلق مؤتمر مدريد
ومفاوضات السلام.
في الوقت الذي كان فيه الوفد الفلسطيني يخوض مفاوضات
ماراثونية في محاولة لتحقيق السلام العادل ضمن إطار حل الدولتين، فتح أبو عمار
الباب الخلفي لمفاوضات أوسلو التي استأثرت فيها "فتح" دون باقي الفصائل، ودون مشاركة قوى فلسطينية من
الداخل (على عكس وفد مفاوضات السلام الرسمي) فكانت النتيجة "اتفاقية أوسلو"
التي نجحت في سحب اعتراف رسمي من منظمة التحرير بدولة إسرائيل ونبذها للمقاومة مع توقيع
اتفاقيات أمنية تضمن سيادة إسرائيل والتعاون الكامل لأجهزة الأمن الفلسطيني من أجل
حماية دولة الاحتلال، يضاف الى ذلك، تأجيل البحث في قضية القدس واللاجئين وحق
العودة وترسيم الحدود، رغم أن هذه القضايا كانت من ضمن الثوابت الأساسية التي رفض
الفلسطينيون توقيع اتفاق سلام دون البت فيها!
منحت اتفاقية أوسلو الضوء الأخضر لدول الصراع وباقي
الدول العربية للتفاوض المباشر مع إسرائيل أو التعاون معها
اقتصادياً، وتوّجت هذه الجهود بما يعرف بالمبادرة
العربية للسلام عام 2002، والتي أعلنت استعداد الدول العربية جميعها الاعتراف
بإسرائيل والتطبيع معها مع تفويض الولايات المتحدة لرعاية مفاوضات السلام بصفتها
طرفاً محايداً وضامناً للاتفاق!
الآن وبعد ربع قرن من المفاوضات العبثية، ومن إطلاق
"خدعة"
مشروع السلام، جاء ترامب برعونته وتهوره، ليزيل الغشاوة، ويعلنها واضحة للجميع أن
أمريكا لم تكن يوماً مهتمة بتسوية عادلة ولا بسلام الشجعان كما كان يُروّج له، بل
بحفظ الكيان الصهيوني وحماية مصالحها في المنطقة فقط!
تبيّن للجميع اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن العالم بات
يحكمه ليس فقط قرنٌ واحد، بل ثورٌ هائج! وتأكد للجميع أن أمريكا لن تكون يوماً
دولة محايدة ولا ضامنة للأمن والسلام في المنطقة، بل داعمة لإسرائيل حتى أكثر من اليهود
أنفسهم! فماذا نحن فاعلون ؟!
الأمر واضح لكل ذي بصيرة، على السلطة الفلسطينية فوراً،
اعلان إسقاط اتفاقية أوسلو نظراً لعدم احترام مواثيقها وعدم استكمال خطة الطريق
المصاحبة لها، ثم إعلان فلسطين دولة محتلة بما يضمن نقل المسؤولية كاملة لدولة
الاحتلال، مع إلغاء كافة الإجراءات التي صاحبت تلك الاتفاقية المشؤومة بما فيها
التعديلات على الميثاق الوطني الفلسطيني، مع إعادة الشرعيّة والدعم الكامل
للمقاومة الفلسطينية، لاستخدام كل الوسائل المشروعة في سبيل تحرير دولة فلسطين.
يلي هذه الخطوة، سحب المبادرة العربية للسلام، ووقف
التعامل بمعاهدات السلام المنفردة، وكل الاتفاقيات المنبثقة عنها، بما فيها
الاتفاقيات التجارية وتبادل البضائع.
أما القيادات والحكومات العربية، فعليها ضرب المصالح
الأمريكية في المنطقة، وتعطيل المشاريع الاقتصادية المشتركة، وإلغاء كافة العقود
(الاقتصادية والعسكرية) الممنوحة لشركات أمريكية، واستخدامها كورقة ضغط على الإدارة
الأمريكية، مع إيقاف التعاون الأمني والاستخباراتي والدعم اللوجستي للمخابرات
الأمريكية والقواعد التابعة لها.
وهنا يأتي دور الشعوب العربية الواعية، التي عليها أولاً
إحياء حملات مقاطعة المنتجات الأمريكية وتصعيدها بشدّة لضرب مصالح الولايات
المتحدة الاقتصادية، (ومن باب أولى طبعاً مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في البلدان
التي تسمح لها دخول أراضيها). والأهم هو الانتفاض في وجه كل من يصر على رهن مقدرات
بلاده لدى واشنطن، ويصر على ربط قراره السياسي بالبيت الأبيض، رغم كل ما حصل، وبعد
أن نزع ترامب "بغبائه"
آخر قطعة تستر ماء الوجه!
باختصار،
لقد بصق ترامب في وجوهنا جميعاً دون أن يرف له جفن، فمن يجرؤ على الرد؟!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
10-12-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق