في
داخلِ كلِّ واحدٍ فينا طفلٌ صغير، لم يكبُرْ بعد، تماماً كما غنّت فيروز قديماً (هنّي
كبروا ونحن بقينا صغار!) وهذا الطفل الذي يرفض أن يكبر
ويرفض أن يصطبغ بالزمن وتغيّراته وتقلّباته، هو القلبُ النابضُ في داخلنا الذي يمدّنا
بالطاقة اللازمة للاستمتاع بالحياة، والاندهاش بكل ما فيها، والاندفاع نحو
معاركتها والمضي الى مداها دون خوف أو كثرة حسابات وتعقيدات روتينية.
إنه
السن الضاحك في داخلنا، ذلك الذي يرخي ظلال المرح وخفة الدم ويكسر روتين الحياة
الرتيبة والمملة، ثقيلة الدم، ويدفعنا للانفجار في الضحك في أحلك اللحظات ساخرين
على سوء حظنا!
هو
المُكتشف، الذي يشجعنا كي نكسر القيود التي تعيق حركتنا، ونسبر أغوار كل ما هو
جديد وغامض وشيّق ومثير، هو الذي يرسل رسائله الداخلية ويخاطبنا كل يوم ليطالبنا
بخوض مغامرة جديدة "قد تكون غير محسوبة"
ولكنها بالتأكيد ممتعة ومفيدة.
بالاطلاع
على علم النفس والسلوك، والتحديثات التي أدخلها على نظرية فرويد "التحليل
النفسي"، نجد أن الانسان تتحكم فيه ثلاث دوائر تتقاطع فيما بينها لتُشكّل
في النهاية شخصية الفرد، التي يمتاز فيها عن الآخرين، وهذه الدوائر هي "الطفل"
في داخلنا، العصيّ على القوانين والتعليمات والاملاءات، و"العاقل"
وهي شخصيتنا التي نضجت عبر الزمن نتيجة تراكم المعرفة والخبرة في الحياة، وتتكون
من العقل والمنطق، يضاف اليه الذكاء العاطفي الذي يتحكم في تصرفاتنا وانفعالاتنا،
أما الدائرة الثالثة فهي "الضمير" الذي يمثّل السلطة
ويتأثر بالمحددات الخارجية من قوانين، وتقاليد عائلية وأعراف اجتماعية ومذهبية.
وهكذا
نرى أن التوازن بين هذه الدوائر الثلاث يخلق شخصية متناغمة سليمة نفسياً قادرة على
التأثير الإيجابي في المجتمع والتعلم والاستفادة من كل ما هو مفيد ونبذ كل ما هو
قبيح. ولكن إذا طغى جانب على آخر اعتلّت الصحة النفسية للفرد وتأثرت سلباً وظهر
ذلك جليّاً في تصرفات الفرد وتعاطيه مع من حوله.
إننا
ودون ان نشعر ننحاز بشكل تلقائي نحو شخصيتنا العاقلة، والتي تتأثر بدورها بسلطة
الضمير، ما يدفعنا لأن نكبت الطفولة الكامنة في داخلنا، نقيّدها بقيود المجتمع
والعيب والخوف من القيل والقال، نصرخ في وجهها كي تكفّ عن الطلب، بل ونعاقبها إذا
شعرنا انها تجاوزت حدودها، ورويداً رويداً تضعف وتهزل ويخفت صوتها، ولا يبقى سوى
صوت شخصيتنا "العاقلة" التي كَبُرت واستوعبت دروس
الحياة وتأقلمت مع المجتمع والبيئة المحيطة، ونظن حينها أننا أحسنّا صنعاً، وهذه
هي خدعة الحياة الكبرى!
إن
الطفل وحده قادر على طرح الأسئلة المحرجة علينا، إنه قادر على طرح ذلك النوع من
الأسئلة التي تثير حولها زوبعة من التفكير، هو الذي لا يعترف بالقواعد فيدفعنا
للتفكير خارج الصندوق ويساعدنا على الخروج من المشكلات، هو الذي يمتلك قدرة كبيرة
على التحليل، لأنه يرى الصورة على حقيقتها دون رتوش ويفكر دون استخدام "الفلاتر"
كما نفعل نحن، هو الذي يدفعنا نحو التأمل والابداع والخيال والحلم، وبدونه نحن
مجرد دُمى تؤدي أدواراً ثقيلة الدم على خشبة المسرح، وتصبح مدعاةً للشفقة!
يقول
الفيلسوف الوجودي، الفرنسي جان بول سارتر ((إن الحياة ثلاث مراحل، اعتقادك أنك سوف
تُغيّر الدنيا، إيمانك بأنك لن تُغيّر الدنيا، ثم تأكدك من أن الدنيا قد غيّرتك!))
وهذا القول يعكس تطوّر شخصياتنا عبر الزمن والصراع الدائر بين دوائرها، فعندما
نفكر بعقلنا الطفولي الطامح الحالم المُكتشف والمُبدع، نؤمن حينها بقُدرتنا على
التغيير، والثورة على المفاهيم المغلوطة والبائدة، ولكن رويداً رويداً تفتر
أحلامنا وننغمس في الدنيا دون أن نشعر، فنستسلم لقيودها ومُحدّداتها وروتينها، ثم
ينخفضُ سقف أحلامنا وتضيق دائرة اهتماماتنا، الى أن نصل الى مرحلة مواجهة الحقيقة،
في أننا فشلنا وكنّا مجرد رقم زائد أو خانة على هامش هذه الحياة.
أتعلمون
لماذا نتحسّر على أيام زمان، وندعوها "الزمن الجميل"
رغم أن الزمن قد تقدّم وأصبح أكثر رقيّاً، وأننا أنفسنا بتنا في وضع أفضل بكثير
مما سبق؟! لأننا نتحسّر على شخصيتنا الجميلة حينها لا على ذلك الزمن، ونتحسّر على
طبيعة علاقتنا البريئة مع من حولنا، وطيبة الأصدقاء والمعارف قبل أن يلوّثهم
ويلوّثنا الزمن!
إن
رحلة حياتنا تشبه بل تكاد تتطابق، مع رحلة شاب نبيل وشهم ينضم الى جيش بلاده
تحقيقاً لكل الشعارات النبيلة التي يؤمن بها، وعند مواجهته لحقيقة الحرب القذرة في
أولى معاركه، يتعرّض لهزّة فكرية ونفسية، ويرفض المشاركة في الجرائم التي يراها،
يعترض، يحاول أن يرفض وأن يُقنع الآخرين، دون جدوى، الى أن يضطر لأن يقتل لأول مرة
في حياته دفاعاً عن النفس، وبعد عدة معارك يعتاد الأمر، ثم يبدأ بتنفيذ كل ما هو
مطلوبٌ منه، يقتل لمجرد القتل، الى أن يصبح الموضوع تسلية مثيرة، ومنافسة بين
قرنائه، ويستمر الموضوع الى أن يجد نفسه قد أصبح وحشاً، مُناقضاً لكل ما كان يأمل
من نفسه أن يكون حين شارك في الحرب. وبعد عودته الى وطنه، يفشل في العودة الى
شخصيته التي كانها، لأنها هربت ودخلت مرحلة البيات الشتوي القسري، ثم يفشل أيضاً
في الاستمرار كما هو!
إننا في أشد الحاجة الى أن نطلق العنان لأنفسنا للتأمل
في هذه الحياة بعيداً عن كل ما ألفناه وتعوّدنا عليه وأقنعنا أنفسنا أنه الصواب،
كما أننا بحاجة الى الخروج من قوقعة حياتنا اليومية الروتينية، والانطلاق نحو فضاء
أوسع وأرحب، لاستعادة طفولتنا وسذاجتنا وبراءتنا التي لا أقول فقدناها، ولكني أقول
إننا شاركنا في قتلها. وأقتبس في النهاية من الرواية الفلسفيّة "عالم صوفي"
ما يلي: ((مع إن الأسئلة الفلسفية تخص كل البشر إلا أنهم لا يصبحون كلهم فلاسفة
لأن أكثر الناس ولأسباب مختلفة مشغولون بحياتهم الخاصة إلى حد لا يترك لهم وقتا
ليندهشوا أمام الحياة!!))
ابحثوا
عن الطفل المنكمش في داخلكم، أعطوه الفرصة للحياة، دعوه يتكلم ويعترض ويشاغب
ويقودنا نحو الجنون، فالجنون في عصرنا هو عين العقل!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
23-9-2017