في مثل هذه الأيام من عام 2011 عمّت سماء سوريا سحابة الربيع العربي وبالأخص درعا، حاملةً معها بشائر الحريّة والعدل والمساواة التي حَلُمَ بها الشعب السوري على مدار عقود من الزمان ولم يجرأ يوماً البوحَ بها، في تلك الآونة كان النقاش في أوجه في الصالونات السياسيّة والثقافيّة عن الربيع العربي والنجاحات المدويّة للشعبين التونسي والمصري في قلب نظام الحَكم وفرض إرادة الشعب المُغيّبة من دهور، أذكر أني تناقشت مع بعض الأصدقاء السوريّين والعرب عن إحتماليّة قيام الشعب السوري بالتظاهر والخروج للساحات العامة للمطالبة بنيل حقه الأساسي في حرية التعبير، وما زلت أذكر التخوّف من بطش النظام السوري ومن المذابح التي ستحصل إذا طفت المطالبات بالحريّة إلى السطح، الكل كان يعلم جبروت وبطش النظام السوري ومعظمنا عايش أو قرأ تاريخ هذا النظام في أحداث سجن تدمر وأحداث حماة الدموية في ثمانينات القرن الماضي، عدا عن إستمراريّة نظام بشار الأسد على نفس المنهج دون تغيير بدليل أحداث القامشلي عام 2004 وأحداث سجن صيدنايا عام 2008.
ولكن المفاجأة حصلت، وخرج أطفال درعا ليعبّروا عمّا بداخل أجيالٍ من الشعب السوري من قمع ومصادرة للحريّات، وكتبوا على جدران درعا كلمات ولكنها ليست كالكلمات، كان وقع المفاجأة في الشارع العربي عظيم ولكن وقع الصدمة كان أعظم في أروقة حزب البعث الحاكم والقصر الجمهوري، وكان الردّ عنيفا كما كان متوقعاّ واستخدم النظام اللغة الوحيدة التي يتقنها ويحفظها عن ظهر غيب، القوة ولا شيء سوى القوة والرد العسكري، إعتقالات وتعذيب، فض الإعتصمات بقوّة، حصار للمناطق الملتهبة، وخطاب سياسي إعلامي يستخدم ذات الأسطوانة البالية المشروخة، مؤامرة خارجيّة، المشروع الإمبريالي في المنطقة، إستهداف آخر معاقل المقاومة والممانعة في المنطقة، سنقاوم وننتصر .... الخ الكلام الذي حفظناه عن ظهر الغيب.
في الخطاب الأول للرئيس لم تفارق الإبتسامة مُحيّاه "الساذج" ولم يكفّ عن توزيع الإبتسامات والتظاهر بخفّة الدم، وكأنّ ما يجري في البلاد لا يعنيه، وأن دم الضحايا وأرواح الشهداء الذين سقطوا لا وزن لها عنده، لم يُقدّم إعتذاراً ولم يوجه لوماً للأجهزة الأمنية ووعد بإصلاحات من فئة "سوفَ". لم يفكر بلقاء أهل درعا أو زيارة المنطقة، وهذا كان مؤشرٌ صادم على أن النظام لا يريد أن يسمع ولا يريد أن يُغيّر، وكل من يطالب بأي حق من حقوقه هو خائن وعميل للمشروع الإمبريالي، إما أن يُقتل أو يُعتقل أو يعتذر ويعترف بجريمته.
قد يكون الحديث عن مؤامرة خارجية مُناسباً لدولة وفّرت لمواطنيها العيش الكريم، وسمحت لهم بحريّة التعبير وممارسة الديمقراطيّة، أما الحديث عن مؤامرة خارجية مع كل ما نعلمه من ممارسات الدولة البوليسيّة وما تؤكده الأرقام، وإستمرار العمل بقوانين الطوارىء أوما يعرف بالأحكام ىالعرفية في البلاد منذ ستينات القرن الماضي، فهو أشبه بحجّة واهية لتحريف الثورة السورية عن مسارها.
وللحديث عن الأرقام والإحصائيات، فقد ذكرت احصائيات رسمية للأمم المتحدة أن نسبة الفقر بلغت في سوريا 30% مع نهاية عام 2010 (أي قبل إندلاع الإحتجاجات الشعبيّة)، ووصلت معدلات الفقر في القرى والأرياف الى نسبة 60% وتشير التقارير الى وجود فجوة عالية جداً في توزيع الثروات حيث تصرف الشريحة الأفقر من السوريين 7% فقط من الإنفاق العام بينما الشريحة الأغنى يصرفون 45 %، ويعتمد معظم المواطنون على المهن الحرة أكثر من اعتمادهم على الوظائف العلمية، هذا برغم اعتماد مبدأ التعليم الالزامي في المدارس، والتعليم المجاني في الجامعات السورية في ظل اعتماد الاشتراكية كمبدأ من مبادىء الدولة.
وتعتبر نسبة القوى العاملة في سوريا من أعلى النسب في المنطقة ولكن سوء توزيع الثروات وإقتصارها على فئة معينة بالاضافة الى الفساد المالي والاداري وانخفاض كفاءة التعليم واعتماد المحسوبية في التوظيف بالاضافة الى قلة برامج التدريب، وشُح وسائل التكنولوجيا الحديثة، وضعف اللغة الانجليزية كل هذا أدّى الى تعطيل هذه القوى العاملة وعدم الاستفادة منها، بل ان سوريا عانت من بطالة تفوق 15%حينها، وتشير الدراسات الى أن أكثر من 35% من خريجي الجامعات يعملون بمهن أو وظائف لا تتوافق مع شهاداتهم العلمية، وكل هذه الدراسات نُشرت قبل إندلاع الاحتجاجات بعدّة أشهر.
ووفق دراسة نشرها منتدى الاقتصاد العالمي عام 2010 وشملت 139 دولة، احتلت سوريا المرتبة 97 في التقييم العام، على اعتبار ترتيب الدول من الأفضل الى الأسوأ تصاعدياً، واليكم بعض المؤشرات وترتيب سوريا بين بقية الدول :
· المرتبة رقم 116 من ناحية الرشاوى والأموال غير القانونية
· المرتبة رقم 95 من ناحية البنية التحتية
· المرتبة رقم 133 من حيث اعتماد الكفاءة في تولي المناصب الادارية
· المرتبة رقم 109 من حيث جودة نظام التعليم
· المركز الأخير من حيث البرامج التدريبية للعاملين
· المرتبة رقم 126 من حيث توافر وسائل التكنولوجيا
هذه الأرقام توضح بشكل لا يدع مجالاً للشك الأوضاع المُتردية التي يعيشها الشعب السوري من ناحية الحالة الاقتصادية وحقوق الانسان ونوعية الحياة، والحُرّيات العامة، ناهيك عن الواسطة والمحسوبية الحزبية والفساد المالي والاداري .
النظام السوري قام بالاستيلاء قديماً على مُقدرات الشعب بإسم الاشتراكية، ثم استولى عليها حديثاً باسم الإنفتاح والرأسمالية، ويُصرُّ على ترديد شعارات رنّانة طواها الزمن منذ أعوام، في محاولة لإيهامنا بوجود مؤامرة للقضاء على هذا النظام، وأن إستمراره يصب في مصلحة المنطقة وشعوبها وخصوصاً تيار المقاومة، وما زال هذا النظام ومعه مجموعة من اليساريين والقوميين العرب يعيشون بعقلية ستينات القرن الماضي ويريدون أن يُقنعونا أن هذا النظام قادر على إحلال الديمقراطية في البلاد وقيادتها نحو مستقبلٍ مُشرق في ظل تعددية ومواطنة حقيقية وشفافيّة، ولكني أؤكد لهم أن هذا النظام سيسقط وستسقط معه كل أكاذيبه، ولن يبقى منها سوى قصص توضع في كتب التاريخ للتندّر وإثارة جو من السخرية والكوميديا السوداء!
كان هذا إستعراض للحالة السوريّة مع بداية إندلاع الإحتجاجات الشعبيّة، وسنحاول إلقاء الضوء في المقال القادم على كذبة حلف المقاومة والممانعة كجزء من استراتيجية النظام في بناء نظرية المؤامرة.
أيمن أبولبن
27-2-2015