من الملاحظ مؤخرا إتخاذ روسيا مواقف متشددة ومُجاهرتها بإختلافها
مع السياسة الأمريكية سواءً فيما يخص منطقة الشرق الأوسط أو حتى القضايا العالمية
المختلفة، وقد برز هذا على السطح في القضية الأوكرانية وجزيرة القرم، حيث اتخذ بوتين
قراراً بالتدخل العسكري وفَرْض الأمر الواقع رغم كل التحذيرات الأمريكية و
الأوربية وهذا ما أعاد للأذهان صورة الإتحاد السوفييتي القوي أيام الحرب الباردة،
خصوصاً مع سياسة المُهادنة التي ينتهجها أوباما ويعتمد فيها على الحلول التوافقية
والسلميّة بعيداً عن التصادمات والمشاحنات إلا إذا استدعى الأمر ذلك.
وقد كان لهذا التصعيد من حدّة الموقف الروسي صدىً واسعاً لدى
اليساريين في العالم العربي، الذين ما زالوا يُمنّون النفس بعودة الدول الإشتراكية
إلى الواجهة من جديد والوقوف في وجه المخطط الإمبريالي، ولكن هل هذا بالفعل هو
واقع الحال؟ وهل روسيا قادرة على استعادة أمجادها من جديد، ومزاحمة أمريكا على
السيادة العالمية.
للإجابة على هذا التساؤل علينا أن نسترجع أسباب دخول الإتحاد
السوفياتي عهد "البيريسترويكا" ومن ثم تفكك جمهوريات الإتحاد السوفياتي
مطلع التسعينات، وإنهيار المعسكر الشرقي بسقوط جدار برلين. وبإختصار فإن أهم
الأسباب وراء تفكك الجمهوريات السوفياتية كان الضعف الإقتصادي بشكل عام وعدم
الموازنة بين الواجهة السياسية العسكرية والجانب الإقتصادي للدولة، وبمقارنة بسيطة
بين موازين القوى في العالم آنذاك نجد ان القوة العسكرية الأمريكية كانت متفوقة
على القوة العسكرية السوفياتية إلى حد ما ولكن هذا التفوق لم يكن بالتفوق الكاسح
الذي يسمح بحسم الإنتصار، خصوصاً أن الإتحاد السوفياتي كان يملك من الأسلحة
الرادعة ما يكفي لإرغام الولايات المتحدة بالتفكير مليّاً قبل أن تبدأ أي مواجهة عسكرية
محتملة، وهو ما كان يُعرف إصطلاحاً "بتوازن الرُعْب" هذا بالإضافة إلى
قوة المعسكر الشرقي الذي يضم الدول الإستراكية والشيوعية المنضمة تحت لواء المعسكر
السوفياتي.
أما السبب الثاني والأهم
هو تفكك النظام الشيوعي الإشتراكي من الداخل وفشل جميع الأفكار الماركسية
والإشتراكية في إمتحان الواقع وصولاً إلى مرحلة الإفلاس السياسي والمعنوي، مما أدى
إلى تخلّي الشعوب عن إيمانها بهذه الأفكار وحماسها لها، وتفاقمت مشاكل تطبيق
الشيوعية مما أدى إلى أنقسام في الرؤية بين التيار الإصلاحي بقيادة غورباتشوف من
جهة، والحرس القديم الذي كان يدفع بإتجاه إعادة الإتحاد السوفياتي الى النظام
الشيوعي من جهة أخرى، مما أدى في النهاية الى تفكك الإتحاد السوفياتي إلى جمهوريات
صغيرة.
وبمقارنة أسباب إنهيار الإتحاد السوفياتي مع حال روسيا اليوم، نجد
أن لا شيء قد تغير البتة، فلا الأوضاع الإقتصادية في روسيا تسمح بالعودة إلى
الواجهة من جديد، ولا وجود لمشروع " ايديولوجي" حقيقي يستطيع ان يجمع
الشعب الروسي وباقي دول الشرق للدخول في مواجهة مع الغرب أو على أقل تقدير مواجهة
سياسية مباشرة بين المعسكرين الغربي والشرقي، والدليل على ذلك هو الإنقسام الواضح
في الشأن الأوكراني وجزيرة القرم.
ولا بد من الإشارة إلى التدهور الإقتصادي الخطير الذي حصل في روسيا
نهاية العام الماضي بسبب إنخفاض سعر برميل النفط، والذي يعتبر تهديداً حقيقياً قد
يؤدي بالفعل الى تعطيل الإقتصاد الروسي وإنهياره التدريجي، وتحاول روسيا الآن فعل
كل ما بوسعها من أجل عودة الأسعار الى حدود 100 دولار للبرميل، ولكن هذا لن يكون
إلا عبر الرضا الأمريكي وموافقة البيت الأبيض، وليس أدل على تفاقم الأزمة
الإقتصادية في روسيا من إنخفاض الروبل الروسي رغم قرار البنك المركزي رفع أسعار
الفائدة.
وبغض النظر عن السبب
وراء إنخفاض أسعار النفط، سواءً كان ذلك مقصوداّ بهدف إضعاف روسيا أم أنه تلاقي
مصالح لا أكثر بين أمريكا ودول أوبك، فإن النتيجة واحدة وهي أن روسيا دولة تابعة
إقتصادياً وليست صاحبة قرار. وبالأخذ بعين الإعتبار العقوبات الإقتصادية المفروضة
من الغرب بسبب تعنّت الرئيس بوتين في أوكرانيا فإن هذا يشير إلى تنامي الإحتمالات
بإنهيار الإقتصاد الروسي في وقت قريب، خصوصاً مع إغلاق باب الإقراض الخارجي، ونفس
الكلام ينسحب على إيران حليفة روسيا في المنطقة التي تعاني الأمرّين من جرّاء
تبعات برنامجها النووي.
يبدو أن ما فشلت الإدارة
الأمريكية من تحقيقه بالسَطْوة والزعامة الدولية ستستطيع تحقيقه بالورقة
الإقتصادية، وهذا مؤرق للغاية، إذا أخذنا بالإعتبار أنه سيمهّد الطريق لعقد صفقات
تراضي بين الطرفين ( أمريكا وروسيا )، يحقق فيه الطرف الأقوى "أمريكا"
أهدافه السياسية في أوروبا والغرب أولاً والشرق الأوسط ثانياً، فيما يرمي بطوق
النجاة للمتهور "بوتين" كي يحفظ روسيا من إنهيار إقتصادي شامل، ويحفظ
شعبيته من الإنهياركذلك، أما الخاسر الأكبر فستكون الدول العربية، التي دفعت في
الماضي فاتورة التنازلات الروسية.
في الختام لا بد من طرح
تساؤل مُحيّر، هل دول العالم العربي عاجزةٌ عن تشكيل حلف إقتصادي سياسي مؤثر، في
ظل الإنسحاب التدريجي للإدارة الأمريكية من المنطقة وعدم رغبتها في إدارة الصراع
هنا، وفي ظل تنامي النفوذ الإيراني وصعود النجم التركي، ورغبة روسيا في التوغل في
المنطقة من جديد ! وهل دور مثقفينا في ظل هذه الظروف الحرجة تعليق الآمال على
تنامي الدور الروسي وما يُسمى زورا وبهتاناً "حلف المقاومة والممانعة" ،
وهل يقتصر دورنا في المرحلة الحالية على تداول صور بوتين على مواقع التواصل
الإجتماعي والتغني ببطولاته، ورفع شعارات الماركسيّة بإنتظار بزوغ فجر روسيا من
جديد؟!
قبل أن نُمنّي النفس بعودة
الدبّ الروسي إلى الواجهة من جديد، دعونا نصارح انفسنا بالمنجزات التي تحققت للدول
الحليفة للمعسكر الشرقي في المنطقة منذ الحرب الباردة وحتى الآن، بما في ذلك حلف
المقاومة المزعوم، ماذا قدمت هذه الدول لشعوبها سوى نُسخة ستالينية بوليسية أمنية،
هزيلة إقتصادياً، لا تعترف بالديمقراطية والتعدّدية، وتعتمد على حكم الحزب الواحد
والجريدة الواحدة!.
أيمن أبولبن
15-2-2015
رابط المقال على القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=296169
صفحة الكاتب على الفيسبوك
https://www.facebook.com/ayman.kalimat
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق