في سبعينات القرن الماضي قام عالم النفس الأمريكي "فيليب زيمباردو" بتجربة نفسيّة مهمة تحت إشراف جامعة ستانفورد وبتمويل من البحرية اﻻمريكية، كان الهدف منها دراسة التغيّرات النفسيّة والسلوكيّة على الأفراد عند إمتلاكهم للسلطة المطلقة، وحين يتعرضون للقهر والقمع والكبت، وعُرفت هذه التجربة بإختبار "سجن ستانفورد".
تم استخدام متطوعين لتنفيذ التجربة، حيث تم تقسيمهم إلى مجموعتين، سجّانين و مساجين، وتم استخدام بناء مشابه للسجن يحتوي على زنانزين جماعية وانفرادية تستخدم للعقاب. قبل بدء التجربة تلقى السجّانون بعض الأوامر في كيفية ضبط الأمن والمحافظة على النظام وإمتلاك السلطة وضرورة إشعار المساجين بأن النظام يسيطر عليهم وعلى حياتهم وأنهم لا يملكون أي حرية شخصية ولا أي سُلطة في هذا المكان، ومع بدء التجربة تُركت مجموعة المتطوّعين تحت المراقبة ولكن دون تدخل مباشر.
بعد أسبوع واحد فقط، تم إيقاف التجربة نظراً للنتائج الكارثيّة والصادمة التي آلت إليها، حيث تنامى شعور الساديّة لدى السجّانين خصوصا في اﻷوقات التي ظنوا أنهم غير مُراقَبين فيها، كما سرى شعور بالتعسّف لدى المساجين، وقام بعضهم بالعصيان وإعلان اﻻضراب عن الطعام، وقام البعض الآخر بالتخطيط للهروب من السجن، بينما عانى بعضهم من إنهيارات نفسية وشعور بالرعب مما أدى إلى ظهور حاﻻت إنهيار عصبي وأمراض نفسية مختلفة.
الخلاصة تقول: إذا توافرت ظروف القوة والسلطة المُطلقة للإنسان فإنها ستؤدي به إلى التعسّف والظُلم، وفي المقابل يؤدي الشعور بالظُلم والتعسّف إلى ظهور أمراض نفسية متعددة يكون نتيجتها، إما التأقلم مع الظروف المُحيطة والإنصياع لها مع كبت مشاعر الذُل والقَمْع، أو الثورة بكل الوسائل الممكنة بغض النظر عن شرعية هذه الوسائل أو العواقب المترتبة على إستخدامها.
هناك تشابه يصل إلى حد التطابق بين متلازمة السلطة والديكتاتورية في منطقتنا العربية وبين نتائج هذه التجربة، بل إن ظهور الجماعات المتطرفة (داعش وأخواتها) وتماديها في العنف وممارسة صنوف مختلفة من أساليب التعذيب والقهر وما وصلت اليه اليوم من ساديّة وتسلّط وتجرّد من كل معاني الإنسانية ما هو إلا نتيجة طبيعية لشعور المُنتمين إلى هذه الجماعات بأن الله قد وكّلهم مهمة ضبط النظام على هذه البسيطة وان من حقهم ردع وقتل كل من يخالفهم أو يعوقهم من تنفيذ هذه الرسالة.
بداية المشكلة في تجربة سجن ستانفورد كانت بتطبيق الأفكار التي سمعها السجّانون من القائمين على التجربة وتعاملهم معها كنص مُجرّد دون إعمال للعقل أو محاولة تطبيق روح النص بدلاً من تطبيق النص بحرفيته، وهذا ما أدى إلى تشاحن وتصادم بين السجّانين والمساجين وتفاقم الأمر إلى أن وصل إلى الإنفلات الأمني الذي تطلب وقف التجربة، وهو ما يحدث فعلياً على ارض الواقع من قبل الدواعش حالياً. نحن أمام أفراد قد تم السيطرة عليهم عقلياً وباتوا أشبه بالمُنوّمين مغناطيسياً، ينفذون ما يقال لهم من أمرائهم وفي داخلهم إيمان مطلق بأن ما يقال لهم صادر من خالق هذا الكون والمسؤول عنه، فينفذون هذه الأوامر دون اي تردد او تفكير أو مجرد لحظة عابرة من صحوة الضمير !
لو رجعنا للتاريخ الإسلامي بعيداً عما يقوله المُغرضون والمعارضون للسلطة الدينية وبعيداً عن أوهام الجماعات المتطرفة، لرأينا أن النصوص الدينية أتت لخدمة الإنسان وتمكينه من ممارسة حياته على هذه الأرض بأمثل طريقة، وأن الاستسلام والإنقياد الى أوامر الله تعالى -وهو المعنى المُبسّط للإسلام- لا يتعارض مع الإجتهاد والتحرّر الفكري وتفسير النصوص بما يضمن خدمة البشرية وتقدّمها، وهناك عدّة أمثلة من سيرة الصحابة أنفسهم في كيفية التعامل مع النص والإجتهاد في تطبيقه، وليس أدل على ذلك من سيرة سيدنا عمر بن الخطاب أحد الخلفاء الراشدين الذي كان رائد الإجتهاد والتحرّر الفكري في العالم الإسلامي، ومثالاً للإلتزام وتطبيق الشرع في ذات الوقت، حيث إجتهد سيدنا عمر بتعطيل إقامة حد السرقة في عام الرمادة، خوفاّ من الوقوع في الشبهات كون السارق في ظل ظروف المجاعة لم تتوافر له ظروف الحياة الكريمة، ولم يرتكب السرقة لسبب سوى الحاجة للبقاء على قيد الحياة. لقد أدرك سيدنا عمر أن واجب الدولة هو ضمان العيش الكريم للمسلم قبل ان تبدأ في إقامة الحدود وفرض العقاب.
وكذلك اجتهد سيدنا عمر في وقف العمل بوهب العطايا للذين أعلنوا إسلامهم حديثاً بُغية تعزيز إيمانهم وهو ما يعرف "بالمؤلفة قلوبهم" لأنه أدرك أن الإسلام بات قوياً وليس بحاجة إلى إستمالة هذه الفئة إلى الإسلام، واستشهد بقول الله تعالى : (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
هذه أمثلة قليلة، وفيضٌ من غيض على كيفية تعامل الصحابة مع النص وتطبيق روح النص بدلاً من تطبيق النص حرفياً، أو بمعنى أدق، تطبيق مقاصد الشريعة ومُجمل التعاليم الدينيّة بدلاً من الوقوف عند حرفيّة نص بذاته بتجرّد ودون إدراك لمُجمل النصوص. ويُلاحظ أن علماء المسلمين لم يُنكروا هذا الإجتهاد على سيدنا عمر أو على غيره ولم يُكفّروه أو يعلّقوا له حبال المشنقة، كما هو حاصل حالياً في عالمنا العربي والإسلامي مع كل مُجتهد ومُستنير.
قد يقول قائل أن ظاهرة التطرف هي نتيجة لمُسبّبات كثيرة منها إستبداد الأنظمة القمعيّة في المنطقة، بالإضافة إلى إقصاء الأغلبية المُعتدلة ومصادرة حق الشعوب بالتعبير عن آرائهم بحرية، وهذا صحيح لا خلاف عليه، وقد تحدّثنا عنه سابقاً، ولكنه لا يُعفي هذه الجماعات من المسؤولية الكاملة في قيامهم بتكرار نفس "التجربة" مع إستبدال الأدوار فقط، حيث إنتقلوا لأداء دور السجّان بعد أن كانوا يؤدون دور المسجون، وكرّروا نفس الأخطاء التي إرتكبتها السلطة في حق شعوب المنطقة !
في تجربة سجن ستانفورد، تم تعليق ضوء أحمر في أماكن مُخصصة في مكان التجربة، وكانت إنارة هذا الضوء بمثابة إعلان عن وقف التجربة من قبل اللجنة المُشرفة، ويبدو أن شعوب المنطقة العربيّة باتت بإنتظار اللحظة الحاسمة التي تُعلن عن وقف تجربتها المريرة، والحقيقة أن الإختبار التي تخضع له هذه الشعوب هو إختبارٌ مُضاعف ومُركبّ، فالشعوب العربية وقعت ضحيّة لفكّي كمّاشة، جماعات متطرفة تعتقد انها وصيّة من الله على البشر، وسلطات ديكتاتورية قمعية تعتقد بانها هي الله !
أيمن أبولبن
23-2-2015
رابط المقال على القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق